دمشق – (رياليست عربي): مع بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، هُيئ للكثيرين بأن تلك العملية، يُمكن وضعها في إطار الحروب التقليدية، والتي ترتكز على قدرة الجيوش النظامية، السيطرة على الجغرافية، وفرض سياسة الأمر الواقع بقوة السلاح. لكن بدا واضحاً، بأن يوميات الحرب الروسية الأوكرانية وتفاصيلها، تُعد أنموذجاً جليّاً لِما يُمكن تسميته “التزاوج بين أنماط متعددة من الحروب”. فـ الحرب الروسية الأوكرانية لم تكن تجسيداً لمفهوم الحرب التقليدية بمعناها الواضح، بل تم الجمع بين التقليدي والنظامي، إضافة إلى حرب العصابات والمجموعات المسلحة، والحروب بالوكالة، والتي تعتمد على الزج بجنسيات مختلفة في أتون الحرب، وبما يخدم مصالح كل طرف.
ولعل ملامح الحرب الروسية الأوكرانية، كانت واضحةً وتبلورت بشكل جليّ، حين أعلنت السلطات الأوكرانية، نيتها استقبال عدد كبير من المقاتلين الأجانب، للقتال ضد الروس، وبدورها روسيا أعلنت أيضاً عن استقبال مقاتلين من جنسيات غير روسية، لتطويعها إلى جانب قواتها في أوكرانيا. وعليه فإنه يُمكن القول، بأن ظاهرة المقاتلين الأجانب، والتي عنونت حروب سابقة، كـ حرب أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، مروراً بحرب الشيشان والبوسنة، وصولاً إلى صفوف داعش في كل من سوريا والعراق، ستكون ملمحاً مميزاً للحرب الجارية الآن في أوكرانيا.
في عمق ظاهرة المقاتلين الأجانب، المشاركين في غمار الحرب الروسية الأوكرانية، يُمكن رصد العديد من فئات المقاتلين، وذلك بحسب جنسياتهم وتوجهاتهم السياسية، وكذا خبراتهم العسكرية. فقد تنامت حالة الاستقطاب والتجنيد من خارج المؤسسات العسكرية للمشاركة في القتال بأوكرانيا، وفي قاموس الحرب، يُطلق على المتطوعين الذين ينضمون إلى قوة أو ميليشيا متمردة اسم “المقاتلين الأجانب”، بينما يتم توظيف المرتزقة بشكل عام من قبل الدولة من أجل الربح أو لتحقيق مكاسب شخصية. وفي الحرب الأوكرانية هناك أكثر من 36 ألف مقاتل أجنبي؛ 16 ألفاً منهم انضموا للجيش الأوكراني، فيما تشير الإحصائيات إلى انخراط 20 ألفاً من المرتزقة مع الجيش الروسي، في أقل تقدير، وذلك وفقا لـ صحيفة الشرق الأوسط، في عددها الصادر في 7 أبريل 2022.
وربطاً بما سبق، وتحت عناوين متعددة، فقد أبدى متطوعون في دول غربية، استعداداً وحماساً كبيرين للذهاب إلى أوكرانيا، لمساندة الجيش الأوكراني في الحرب ضد روسيا، ومن بين الدوافع التي أفصح عنها مقاتلون قبلوا الانخراط في الحرب الأوكرانية، وفقاً لِما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، اعتبر هؤلاء مثل هذه المشاركة بمثابة دفاع عن قيم الحرية على اعتبار تدخل روسيا “غير الشرعي” في أوكرانيا، وتهديده لقيم الديمقراطية وفق زعمهم. فيما أكدت صحيفة التايمز البريطانية أن أوكرانيا تقوم بتجنيد “مرتزقة ماهرين” لتنفيذ عمليات داخل البلاد، تشمل مواجهة المرتزقة التي يرسلها الكرملين وجهاً لوجه، مقابل مبالغ تصل إلى 20000 دولار يومياً. بحسب الصحيفة. وفي إطار الدوافع العقائدية، ثمة روابط بين جماعات اليمين المتطرف في أوروبا، وبين جماعات في أوكرانيا، فهناك عناصر من جماعات يمنيية حصلوا على تدريبات عسكرية من كتيبة آزوف الأوكرانية، وتم تدشين حملات على مستوى أوروبا، لمساعدة القوميين الأوكرانيين في القتال.
في المقلب الأخر، فقد أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في وقت سابق، أن 16 ألف مقاتل من الشرق الأوسط، سينضمون إلى قوات بلاده في أوكرانيا، فيما رجح متابعون، بأن أولئك المقاتلون سيكونون في الأساس من سوريا، وقد شكك مسؤولون في البنتاجون في هذا الرقم، وفي مدى جدية روسية في الاستعانة بمقاتلين أجانب من عدمه. ولكن اعتبر آخرون أن موسكو لابد أن تستعين بجهود مقاتلين من سوريا، خاصة في المعارك داخل المدن، بغية الاستفادة من خبراتهم في إدارة حرب طويلة الأجل داخل المدن. إذ قد تعول موسكو على الدفع بمقاتلين أجانب وخاصة من السوريين في معركتها المرتقبة في كييف، فمعارك السيطرة على العاصمة ستكون شرسة للغاية، وخاضعة لمنطق حرب العصابات. الأمر الذي يُمكن وضعه في إطار رغبة موسكو بالتقليل من خسائرها في صفوف جنودها النظاميين.
حقيقة الأمر، إن وجود مرتزقة أجانب في سياق الحرب الروسية الأوكرانية، لا يُعد أمراً غير مألوف أو يُثير الاستغراب، أو حالة فريدة من نوعها في سياق الحروب، والأمثلة على ذلك كثيرة، فالولايات المتحدة استعانت بالفعل بالمرتزقة الذين وفرتهم شركة بلاك ووتر الأميركية للقتال إلى جانب قواتها في أفغانستان والعراق، وقاموا بالفعل بمهام ميدانية واسعة ضد المقاومة الأفغانية والعراقية، واتُّهِموا بارتكاب انتهاكات واسعة ضد المدنيين، وهو ما يمكن أن يقوم به المرتزقة في الحرب الروسية الأوكرانية الراهنة، وذلك أحد أسباب استخدامهم؛ حيث يتجرد هؤلاء من أي معيار أخلاقي أو قانوني تلتزم به الجيوش الرسمية، فيقومون بجرائم وانتهاكات خطيرة، يمكن للدول المشغِّلة لهم التنصل منها.
وضمن الواقعية في قراءة المعطيات، يبدو أن روسيا قد استعانت بمقاتلين أجانب في عمليتها العسكرية في أوكرانيا، لكن دون إعلان أو معلومات رسمية، لكن بحسب بعض الروايات، فقد تم الإعلان عن دخول نحو 400 مقاتل من شركة فاغنر الأمنية الروسية، إلى كييف، في مهمة محددة لاغتيال الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، حسب صحيفة التايمز البريطانية، وقالت: إن وجود هؤلاء هو جزء من مخطط يعود لعدة أشهر. وحسب صحيفة وول ستريت جورنال، فإن موسكو جندت مؤخراً سوريين يجيدون حرب المدن للقتال إلى جانبها في أوكرانيا، ونقلت عن مسؤولين أميركيين قولهم: إن هؤلاء المقاتلين السوريين موجودون بالفعل الآن في روسيا، وقد ينضمون إلى المعارك في أي وقت، لكن أعدادهم ليست معروفة، وقد رفض نفس المسؤولين الأميركيين التعليق على وجود مقاتلين سوريين أيضًا يقاتلون مع الجانب الأوكراني ضد القوات الروسية.
ختاماً، من المحتمل بقوة أن يكون لوجود المرتزقة على جانبي الحرب في أوكرانيا تأثير في مجريات المعارك الآن أو في مراحل لاحقة من حروب المدن، أو المقاومة، وكذلك في وقوع انتهاكات منهجية ومتكررة ضد المدنيين أو مخالفة قواعد وقوانين الحرب، فهؤلاء سينتقلون بعد انتهاء مهامهم إلى مواقع جديدة ويخدمون زبائن جددًا مقابل ثمن، لكن المشكلة الحقيقية ستكمن في وجود المتطوعين غير المحترفين الذين يجري استقدامهم للمشاركة في الحرب ثم عودتهم إلى بلدانهم الأصلية، أو بلدان أخرى. وفضلاً عن التأثير العملياتي المحدود وربما العكسي لوجود متطوعين يُفترض أنهم بلا خبرات قتالية احترافية، فإن الأمر برمته ما زال بلا ضوابط تنظيمية، ولا إجراءات مراقبة وتقصٍّ، كما أنه لم يعالج مخالفته الصريحة للقوانين الدولية والوطنية بمنع القتال لصالح قوى أجنبية. وإذا ما استمر هذا الخلل في بنية الدعوات الراهنة للتطوع، فإن تداعيات مباشرة يمكن أن تنشأ مستقبلًا على صعيد الأمن الغربي والأوروبي، وكذا في منطقة الشرق الأوسط.
وثمة إشكالية غاية في الأهمية، تتمثل في وجود متطوعين أجانب في الحرب الروسية الأوكرانية، هو بالأساس جزء من سياق أيديولوجي أو اعتباري؛ حيث ينظر المتطوع إلى أحد طرفي النزاع على أنه مع الحق، فيما يمثل الطرف الآخر الباطل، وغالبًا ما ينظر الغربيون إلى أوكرانيا على أنها الضحية أمام عدوان روسي واضح، ومن المحتمل بقوة أن تعزز الحرب قناعاتهم هذه وتزيد من جرعة كراهيتهم لأحد طرفي الصراع. إن هذا الموقف هو بحدّ ذاته موقف أيديولوجي يمكن أن يتحول إلى سياق تنظيمي وربما تخريب متطرف لاحقًا. وبالتالي، فإن تدفق المقاتلين لدعم موسكو أو كييف لن يؤدي إلا لإطالة أمد الأزمة الأوكرانية، بالإضافة إلى صعوبة السيطرة عليهم. وقد ينخرطون في أعمال عنف، ومنهم من يستطيع التسلل إلى دول الجوار الأوروبية ويهدد الأمن القومي لهذه الدول، فضلاً عن إمكانية استخدامهم واستثمار مهاراتهم القتالية في دول الشرق الأوسط، لا سيما سوريا والعراق.
خاص وكالة رياليست – أمجد إسماعيل الآغا – كاتب وإعلامي – سوريا.
