القاهرة – (رياليست عربي): يعد فيلم (أنشودة البقرة البيضاء) قصیده گاو سفید Ghasideyeh Gave Sefid، أو كما يُعرض على النطاق الأوروبي باسم (الغفران) La Pardon واحداً من أجرأ الأفلام التي أنتجتها السينما الإيرانية في العقد الأخير؛ وهي جُرأة تنبع من موضوعه، وأسلوب طرحه، وتقنياته التنفيذية.
أنشودة البقرة البيضاء من إنتاج عام 2020؛ كتب له السيناريو والحوار كل من: بِهتاش صناعیها، ومریم مُقدم، ومِهرداد کوروشنیا، وقام بإخراجه بهتاش صناعیها، وإنتاجه غُلام رضا موسوی، ولعب بطولته كل من: مريم مقدم في دور مينا إقبالي، وعلی رضا ثاني فر في دور رضا إسفنديارى/ أمينى، وپوریا رحیمی سام في دور شقيق بابك پارسا.
وعلى الرغم من أن موضوع البقرة البيضاء مقتبس عن الفيلم الأمريكي (كرة الوحش) Monster’s Ball الذي تم إنتاجه عام 2001، إلا أن طرح مثل هذا الموضوع في السينما الإيرانية من الممكن اعتباره كإلقاء صخرة ضخمة في قلب نهر راكد منذ دهور.
والحقيقة أن مرور البقرة البيضاء من أروقة الرقابة الإيرانية المتشددة دون مصادرة أو عراقيل، وفي ظل الأجواء المختنقة التي يعمل فيها صناع السينما الإيرانية، وكذلك الموافقة على مشاركة الفيلم في مهرجان فجر السينمائي الدولي خلال دورته الثامنة والثلاثين عام 2020، وهو أكبر مهرجان سينمائي يُقام في إيران، وترشيح بطلته مريم مقدم للحصول على جائزة (السيمرغ البلورى) أفضل ممثلة دور أول، وأيضاً ترشيحها وبهتاش صناعىها لحصولهما على جائزة أفضل سيناريو، يجعلنا نتوقف كثيراً أمام المستوى الذي وصل إليه السينمائيون الإيرانيون في طرح موضوعاتهم، وكذلك نهج الحكومة الإيرانية مؤخراً في التعامل مع صناعة السينما والقائمين عليها.
يُذكر أن البقرة البيضاء قد شارك في عدد كبير من المهرجانات الدولية، ونال استحسان الجمهور والنقاد، وتمكن من الحصول على عدد من الجوائز المهمة؛ كان أبرزها جائزة أفضل فيلم أجنبي وفقاً لاستطلاع رأي الجمهور من مهرجان برلين السينمائي الدولي في نسخته الحادية والسبعين العام الماضي.
أنشودة البقرة البيضاء
تدور أحداث الفيلم حول السيدة مينا إقبالى البالغة من العمر 35 عاماً، وهي أرملة وأم طفلة صماء وبكماء تبلغ من العمر 7 سنوات، وتعمل في مصنع تعبئة وتغليف الألبان، بالإضافة إلى عمل خاص تقوم به وهو تزيين عبوات وزجاجات بلاستيكية للهدايا. تعيش مينا وابنتها بيتا بمفردهما في منزل متواضع بالعاصمة طهران بعد إعدام زوجها بابك پارسا جراء قتله السيد پرویز راشِدى الذي كان يداينه بالكثير من المال.
بعد مرور سنة على إعدام بابك تستدعي المحكمة مينا وشقيق زوجها، وتخبرهما أن بابك تم إعدامه على سبيل الخطأ، ولم يقتل السيد راشدى، فمنذ شهراً قدم الشاهد الأول في القضية، واتهم الشاهد الثاني بارتكابه جريمة القتل، وبناءً عليه، أعادت المحكمة فتح ملف القضية واستجواب الشهود، فتبين أن بابك وجه للسيد راشدی لكمة، أسقطته على الأرض مغشية عليه، فظن بابك أنه مات، ولاذ بالفرار، فانتهز الشاهد الثاني ما حدث، وضرب راشدى علی رأسه، فأرداه قتيلاً، ونظراً لأن بابك والشاهدين الآخرين كانوا مدينين لراشدى، اتهم ثلاثتهم بعضهم بعضاً، لذا فإن المحكمة تتوجه بالاعتذار لما حدث، وسوف تدفع لورثة بابك دية القتل الخطأ البالغة 270 مليون تومان (ما يقرب من 10 آلاف دولار).
تصاب مينا بحالة من الانهيار الشديد عقب سمعها ذلك، وتنتحب إعدام زوجها ظلماً، وتتقدم بشكوى ضد القاضي أمينى الذي قضى بإعدام زوجها، وتسعى بشتى الطرق إلى مقابلته، ولكن تؤول كل مساعيها إلى الفشل. في تلك الفترة يأتي رجل يدعى رضا إسفنديارى لزيارة مينا في منزلها، ويخبرها أنه كان صديق زوجها، وقد جاء ليرد لها ديناً يبلغ 10 مليون تومان (ما يقرب من 500 دولار) كان قد اقترضها من زوجها، تسعد مينا بالمال لحاجتها إليه، وعجزها عن دفع إيجار المنزل، فتذهب بصحبة رضا إلى البنك لأخذ المال.
في اليوم التالي تطلب زوجة صاحب العقار الذي تقطن فيه مينا، من مينا أن تغادر الشقة نهاية هذا الشهر، لأن زوجها قد شاهد رجلاً غريباً ليس من أهلها يدخل المنزل بالأمس – يقصد رضا – فتبدأ مينا في البحث عن شقة جديدة، لكن دون جدوى، فأغلب الملاك لا يسمحون بتأجير الشقق إلى نساء عزباوات أو مطلقات أو أرامل. في تلك الأثناء تلتقي مينا رضا مصادفة في الشارع، وتخبره بأنها ذاهبة لمقابلة أحد السماسرة لأنها ستنتقل نهاية الشهر من منزلها، فيعرض عليها أن يؤجر لها الشقة الأرضية في البيت الذي يملكه.
تنتقل مينا بصحبة ابنتها بيتا إلى المنزل الجديد، وتبدأ حياة أكثر هدوءاً واستقراراً من حياتها السابقة، وشيئاً فشيئاً تتوثق علاقتها برضا، وتنشأ بينهما قصة حب. لا تمضي فترة طويلة حتى تتلقى مينا اتصالاً هاتفياً من رضا، وهو في حالة انهيار تام، يخبرها فيه أن ابنه الوحيد ميثم قد توفى بسبب جرعة زائدة من المخدرات، فتسرع مينا إلى منزل رضا وتنقله إلى المستشفى، وهناك يخبروها بضرورة مكوث أحد معه حتى يتماثل إلى الشفاء. وعلى هذا تنقله مينا إلى منزلها لتتولى رعايته، وخلال تلك الفترة تحدث بينهما علاقة غير شرعية.
بعد ما يسترد رضا عافيته، يترك منزل مينا، ويعود إلى منزله، وبعد عدة أيام يتلقى اتصالاً هاتفياً من مينا، تخبره فيه بأنها ستذهب صباح اليوم التالي إلى المحكمة، لأن حماها رفع دعوى ضم ليأخذ ابنتها منها، وتطلب من رضا الذهاب برفقتها، فيوافق.
يذهب رضا ومينا وبصحبتهما البنت بيتا إلى المحكمة، وينتظر رضا وبيتا، مينا في السيارة خارج المحكمة، لا يمضي وقت طويل حتى تخرج مينا مسرعة إلى السيارة تغمرها فرحة عارمة، وتخبر رضا أن القاضي رفض دعوى الضم، وحكم لصالحها، وتدعوه للعشاء عندها الليلة احتفالاً بهذه المناسبة، ولأنها كانت تشعر بالظمأ وجفاف الحلق، يتوقف رضا عند محل صغير، ويترجل من السيارة لشراء زجاجة مياه، في تلك الأثناء تتلقى مينا اتصالاً هاتفياً من شقيق زوجها، فيخبرها أن من تجلس معه في السيارة هو القاضي أمينى الذي قضى بإعدام زوجها. تصاب مينا بحالة من الذهول والصدمة عند سماعها ذلك، وتغرق في صمت مطبق.
في تلك الليلة ترسل مينا ابنتها إلى جارتها القاطنة في الطابق العلوي، وتعد العشاء كما اتفقت مع رضا، وتجلس تنتظره وهي في أبهى زينتها. يأتى رضا، ويتناول معها العشاء، فتقدم له كوباً دافئاً من اللبن، دست به السم انتقاماً لموت زوجها، فما إن يرشف أمينى عدة رشفات من كوب اللبن حتى يسقط على الأرض صريعاً. تخرج مينا بصحبتها ابنتها من المنزل، ويجلسان على قارعة الطريق.
كرة الوحش
يعد الفيلم الأمريكي (كرة الوحش) Monster’s Ball، هو النسخة الأصلية من الفيلم الإيراني (أنشودة البقرة البيضاء). الفيلم من إنتاج عام 2001؛ كتب قصته كل من: ميلو أديكا Milo Addica، وويل روكوس Will Rokos، وأخرجه مارك فوستر Marc Forster، ولعب بطولته كل من: هالي بيري Halle Berry في دور ليتيشيا، وبيلي بوب ثورنتون Billy Bob Thornton في دور هانك، وهيث ليدجر Heath Ledger في دور سوني. ونالت بيري عن دورها في الفيلم جائزة أوسكار أفضل ممثلة دور أول، لتكون أول امرأة سمراء في تاريخ هذه الجائزة تحصل عليها.
تدور أحداث الفيلم حول هانك، وهو أرمل يعيش مع أبيه العجوز باك، وابنه الشاب سوني في ولاية جورجيا الأمريكية، حيث يعمل هو وابنه حارسين في أحد سجون الولاية، لكن العلاقة بينهما متوترة، فالأب يعامل ابنه بقسوة شديدة بحجة جعله رجلاً قوياً، والابن يشعر أن أباه يكرهه، مما يولد داخله مشاعر غضب دائم تجاه الأب.
يشارك سوني أباه في تنفيذ حكم إعدام شخص زنجي يدعى لورانس، وهي أول مَهمة يقوم بها، وقبل تنفيذ الحكم يصاب بحالة من الهلع، ولا يستطيع المشاركة. عقب تنفيذ حكم الإعدام، ينشب عراك بين هانك وسوني بسبب تخاذل سوني في إكمال مهمة الإعدام، فيطلق سوني الرصاص على نفسه أمام أبيه. بعد وفاة سوني يصاب هانك باكتئاب شديد، ويستقيل من الشرطة، ويبتاع محطة بنزين.
أثناء عودة هانك في إحدى الليالي الممطرة إلى منزله، تستوقفه امرأة سمراء تدعى ليتيشيا وبصحبتها طفلها البدين تيريل فاقداً الوعي، وتطلب منه مساعدتها على نقل ابنها الذي صدمته سيارة مسرعة، إلى المستشفى، فيساعدها هانك، ويوصلها إلى المستشفى، وهناك يكتشف الجميع أن الطفل قد توفى. تصاب ليتيشيا بصدمة شديدة، فيصحبها هانك إلى منزلها.
بمرور الوقت تنشأ قصة حب بين هانك وليتيشيا، ويرى هانك مصادفة في منزل ليتيشيا صورة زوجها، فيعلم أنه لورانس الذي قام بإعدامه، لكنه يخفي الأمر عنها، ويسعى بشتى الطرق إلى مساعدتها وتحسين أوضاعها المعيشية بعد فقدان الزوج والابن، فبعد طرد ليتيشيا من منزلها بسبب عجزها عن سداد الأقساط، تنتقل للمكوث مع هانك، وهناك تكتشف أنه أحد الضباط الذين شاركوا في إعدام زوجها.
ما بين الوحش الأمريكي والبقرة الإيرانية
(أنشودة البقرة البيضاء) هو اقتباس عن الفيلم الأمريكي (كرة الوحش) مع إدخال بعض التغييرات على الأحداث والتفاصيل حتى تتناسب مع البيئة الإيرانية، فإذا قمنا بتشريح العلاقات الإنسانية الواردة في الفيلمين وتطوراتها، سنلمس بوضوح النسخ الإيراني عن الأصل الأمريكي، إلا أن حبكة الفيلم الأمريكي أكثر إحكاماً وإتقاناً عن حبكة الفيلم الإيراني، نظراً لعدد من الأسباب؛ أبرزها الحرية اللامتناهية التي تتمتع بها السينما الأمريكية في التعبير عن الموضوعات والمشاعر الإنسانية المختلفة، وذلك على عكس السينما الإيرانية التي تتحرك في حدود معينة، والفرق بين الفيلمين يصل إلى 20 عاماً، فكرة الوحش تم إنتاجه عام 2001، والبقرة البيضاء تم إنتاجه عام 2020.
نبدأ أولاً بعلاقة الأب والابن؛ في فيلم كرة الوحش، نجد أن هانك ضابط سجن، ووالده باك ضابط متقاعد، وعلى هذا النحو تربى الابن سوني في بيئة عسكرية تتسم بالجدية كي يصبح ضابطاً مثل أبيه وجده، في حين أنه كان يميل إلى حياة هادئة، لكنه أُجبر على هذه الحياة، فاتسمت العلاقة بينه وبين أبيه بالتوتر الشديد، وافتقرت إلى المشاعر المتبادلة بين الأب والابن، إلى أن وصل الأمر بانتحار سوني حتى يتخلص من حياته. وفي فيلم البقرة البيضاء نجد العلاقة نفسها بين القاضي أمينى وابنه ميثم لكن مع اختلاف طفيف، فهناك فجوة غامضة وغير مفهومة بينهما، وأمينى لا يعلم شيئاً عن حياة ابنه، ويبدو من المشهد الوحيد الذي جمع الاثنين معاً، أن ميثم معارض للنظام الإيراني، ويرى مَن في السلطة مثل أبيه يبررون لأنفسهم ارتكاب الأخطاء تحت مسمى (إرادة الله)، كما أنه يهوى الاستماع إلى الأغاني والعزف على الجيتار، وهي أمور بعيدة كل البعد عن عمل أبيه كقاض، وانتهت حياته بجرعة زائدة من المخدرات.
أما عن علاقة الأم بطفلها؛ فنجد في كرة الوحش أن ليتيشيا أم طفل يعاني من السمنة المفرطة، تحاول بشتى الطرق أن تثنيه عن تناول الحلوى، فلا تستطيع، إلى أن يلقى مصرعه في حادث تصادم. وفي البقرة البيضاء مينا أم طفلة صماء وبكماء، تواجه مشاكل في الاندماج مع زميلاتها في المدرسة، وتسعى الأم إلى حلها، فلا تستطيع أيضاً، إلى أن تطلب البنت من أمها عدم الذهاب إلى المدرسة، والبقاء في المنزل.
وأخيراً نأتي إلى العلاقة العاطفية؛ في كرة الوحش جمعت الصدفة بين هانك وليتيشيا، وتدرجت العلاقة بينهما إلى أن وصلت إلى الحب، ثم اكتشف هانك بعد ذلك أنها أرملة الرجل الذي شارك في إعدامه، والزوج هنا مذنب وليس بريئاً. لكن في البقرة البيضاء القاضي أمينى بعد ما اكتشف أنه أصدر حكماً بإعدام زوج مينا على سبيل الخطأ، توجه إليها مخفياً هويته الحقيقية، وسعى إلى مساعدتها تكفيراً عن الخطأ الذي اقترفه.
وإذا نظرنا إلى الشخصيتين الرئيستين في الفيلمين؛ سنجد ليتيشيا في كرة الوحش امرأة زنجية في مجتمع أبيض يضطهد الزنوج، وينظر إليهم على أنهم عبيد. وفي البقرة البيضاء نجد مينا امرأة تعاني من اضطهاد آخر، وهو نظرة المجتمع الإيراني المنغلقة للمرأة التي تعيش بمفردها، فلا أحد يريد تأجير منزل لها، وحموها يريد أخذ طفلتها منها باعتبارها غير كفء لتربية طفلة، وشقيق زوجها يحاول التحرش بها أكثر من مرة. وبالنسبة إلى شخصية هانك في الفيلم الأمريكي، فنجد أنها تتسم في البداية بالشدة والعنف، ثم تتحول تدريجياً إلى اللين والحب بعد انتحار ابنه، فيتقدم باستقالته من الشرطة، ويقرر بدء حياة هادئة بعيدة عن السجن والإعدام. وفي الفيلم الإيراني نجد أن شخصية أمينى منذ بداية الفيلم تتسم بالحزن والندم الشديدين جراء إحساسه بالذنب الذي اقترفه بإصدار حكم إعدام في حق شخص بريء، فتقدم باستقالته من عمله، وما يزيد الأمر عليه سوءاً موت ابنه، فيتحول من شخص كان جزءاً من النظام إلى معارض له، ويبدأ بنشر تعليقات ضد النظام على وسائل التواصل الاجتماعي، فتجري النيابة تحقيقاً معه حول علاقته بمينا، وأسباب استقالته، ومعارضته للنظام.
والاقتباس الإيراني للفيلم الأمريكي لم يتوقف عند الموضوع والأحداث والشخصيات فحسب، بل امتد أيضاً إلى العنوان، فالرمزية المستخدمة في صياغة الاسم الأمريكي امتدت إلى الاسم الإيراني، فكرة الوحش طبقاً لما جاء على لسان هانك في أحداث الفيلم، هي لقب حراس السجن الموكل إليهم إعدام السجناء، أي (من يتحكمون بكرسي الإعدام). أما أنشودة البقرة البيضاء، فهذا الاسم الذي قد يبدو للبعض غريباً وعجيباً جداً، هو في الحقيقة جميل ومعبر جداً، تم استلهامه من التراث الديني الإسلامي على نحو ما سأوضحه خلال السطور القادمة.

يبدأ الفيلم بالآية الكريمة رقم 67 من سورة البقرة: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾، ثم يعقبها مشهد لساحة السجن، يصطف فيه السجناء على الجانبين، وتتوسط الساحة بقرة بيضاء، حيث استلهم المخرج بهتاش صناعىها قصة (بقرة بني إسرائيل) للإشارة إلى وجود العديد من الأبرياء في السجون الإيرانية، وليس بطل قصته فحسب. ففي قصة بقرة بني إسرائيل حينما تحيروا في هوية قاتل الرجل الثري، احتكموا إلى سيدنا موسى (عليه السلام)، وسألوه أن يدعو الله عز وجل كي يكشف لهم هوية القاتل الحقيقي، فأمرهم موسى أن يذبحوا بقرة، ويضربوا بقطع منها جثة القتيل، فيحيا بإذن الله تعالى، ويخبروهم بهوية قاتله، وكانت هذه البقرة صفراء تسر الناظرين، وعلى هذا النحو كانت البقرة وسيلةً يتبين بها بنو إسرائيل هوية القاتل. وفي الفيلم ظهرت البقرة في ساحة السجن كنايةً عن وجود سجناء أبرياء ينتظرون ذبحها حتى يتم تبرئة ساحتهم، وكان لونها أبيض دلالةً على البراءة والشرف، وأن السجون الإيرانية يقبع خلف قضبانها عدد كبير من الأبرياء.
وإن تطرقنا إلى المغزى الأساسي في الفيلمين؛ سنجد أن الفكرة الرئيسة في الفيلم الأمريكي هي العلاقة الرومانسية بين هانك وليتيشيا، وتحول مشاعر القسوة والكراهية في قلب هانك إلى مشاعر الحنان والحب بعد تعرضه لصدمة كبرى، وهي فقدان ابنه أمام عينيه. أما الفيلم الإيراني فالفكرة الرئيسة فيه هي عقوبة الإعدام، وما ترتب عليها من من أحداث، وعلى الرغم من وجود العلاقة الرومانسية بين أمينى ومينا، إلا أن الفكرة الأم في الفيلم هي إعدام الزوج المتمخضة عنها بقية الأحداث بما فيها علاقة أمينى ومينا.
أنشودة البقرة البيضاء من منظور نقدي – تحليلي
يعد (أنشودة البقرة البيضاء) ثاني فيلم روائي طويل للمخرج الإيراني بهتاش صناعیها بعد فيلم (احتمال هطول أمطار حمضية) احتمال باران اسيدى Ehtemal-e Baran-e Asidi عام 2015، وهو من تأليفه بالاشتراك مع مريم مقدم أيضاً. وقد شارك هذا الفيلم في العديد من المهرجات المحلية والدولية، وتمكن من حصد عدد من الجوائز داخل إيران وخارجها. والحقيقة أن بعد مشاهدتي فيلم البقرة البيضاء يعتريني فضولاً كبيراً لمشاهدة الفيلم الأول لبهتاش الذي أعتبره دماءً جديدةً تضخ في السينما الإيرانية، سيقف بعد عدد من التجارب جنباً إلى جنب مخرجي الصف الأول في إيران.
ومن الممكن اعتبار التجربة الإخراجية الثانية لبهتاش جيدة بشكل عام من عدة نواحي على الرغم منه أنه قد اقتبس قصة البقرة البيضاء من الألف إلى الياء عن كرة الوحش، وجودة الفيلم تنبع من قدرة هذا المخرج على نقل موضوع جريء مثل كرة الوحش في السينما الإيرانية، حيث نجح إلى حد كبير في إطفاء صبغة إيرانية خالصة على القصة، وجعلها محلية الشكل والمضمون، وناقش من خلالها عدداً من القضايا الجدلية في المجتمع الإيراني.
يدين بهتاش في البقرة البيضاء حكم الإعدام في إيران؛ وهي الدولة الأكثر تنفيذاً بعد الصين لأحكام الإعدام طبقاً لتقرير (منظمة العفو الدولية) الخاص بمعدلات الإعدام في مختلف دول العالم الصادر عام 2020/ 2021. وطبقاً لهذا التقرير يبلغ عدد الدول التي ألغت عقوبة الإعدام من أحكامها القضائية حتى الآن 108 دولة؛ تتصدرها: النمسا، وسويسرا، والسويد، وبلجيكا، وكندا، وأستراليا.
كما ينتقد بهتاش نهج السلطة القضائية الإيرانية في تعاملها مع أحكام الإعدام في حال صدورها بناءً على حيثيات خاطئة أو غير مؤكدة، فيكون المقابل دفع الدية لأهالي الضحايا، واعتبار ما حدث (إرادة الله)؛ وهي الجملة التي تكررت أكثر من مرة على لسان القضاة في الفيلم، فقتل الناس خطئاً أصبح يُبرر بأنه إرادة الله، وهذه الجملة دائمة الترديد على ألسنة المسؤولين الإيرانيين في كل حادثة تتورط فيها مؤسسات حكومية أو شخصيات رفيعة في الدولة، وكان آخرها إسقاط الحرس الثوري للطائرة الأوكرانية بوينج 737-800 عام 2020، حيث اعترف المسؤولون الإيرانيون بعد مماطلة وجدال طويل أن الحادثة وقعت على سبيل الخطأ.
وفي الإطار المسبوق، يشير بهتاش إلى فساد السلطة القضائية في إيران من خلال استغلال القضاة لنفوذهم لتهديد أمينى بعد استقالته من السلك القضائي، بسبب شعوره باقتراف ذنب كبير لإصداره حكم إعدام في حق شخص بريء، فرئيس القضاة وزملاء أمينى يعتبرون موافقتهم على استقالته اعترافاً ضمنياً منهم بخطئهم، فهم شركاء أمينى في إصدار الحكم الخاطئ، ولكن الفرق بينهم وبينه أنهم لا يشعرون باقترافهم أي ذنب، بل يرون أنهم قد أصدروا حكمهم بناءً على القرائن والأدلة وشهادة الشهود حتى إن كانت مزورة أو غير مؤكدة، وهنا تتبلور الفكرة الأساسية للفيلم؛ وهي تبرير الأخطاء تحت مسمى إرادة الله.
وفساد السلطة القضائية الإيرانية سواء كان تشريعياً أو مالياً هو ملف مضخم بالعديد من القضايا المتراكمة على مدار عقود منذ ثورة 1979 حتى الآن، ويُتهم فيه رجالات يتبوأون أرفع المناصب في الدولة، وهو ما جعل البعض يصف القضاء الإيراني بالمؤسسة العصية على الإصلاح.
وألقى بهتاش أيضاً الضوء على نظرة القاضي الإيراني للموت، فلا يهمه إعدام رجل بريء، وتشويه سمعته، ففي حوار أكثر من رائع دار بين أمينى ومينا؛ قال لها: في النهاية كلنا سنموت ذات يوم، فأجابته: نعم.. لكن الطريقة التي سنموت بها، مهمة!!… نعم جميعنا سنموت في نهاية المطاف، وتلك نهاية رحلتنا في الحياة سواء طالت أو قصرت، ولكن فرق كبير بين شخص يموت في هدوء حين يدنو أجله بين ذويه، طيب السيرة، حسن الذِكر، وبين شخص آخر يموت وحيداً في السجن بحكم إعدام لاتهامه بتهمة شنيعة لم يرتكبها، يقترن ذِكره بذكرها، وتوصم أسرته بعارها إلى أبد الدهر.
من القضايا المهمة التي طرح بهتاش في الفيلم، وضع المرأة في المجتمع الإيراني، خاصة من تعيش بمفردها، سواء كانت أرملة أو مطلقة أو لا أهل لها، فالمجتمع ينظر إليها نظرة مغرضة وسيئة، ففي الفيلم لم يوافق أي سمسار على تأجير شقة لمينا لأنها أرملة، كما أصبحت مطمعاً لشقيق زوجها يحاول التحرش بها أكثر من مرة لأنها وحيدة وبلا أهل. هذه التصرفات تجاه مينا توضح معاناة المرأة الإيرانية في مجتمع ذكوري، ليس في إيران فحسب، بل في أغلب المجتمعات الشرقية.
وهناك أيضاً قضية الإدمان؛ وهي قضية ألمح إليها بهتاش في عجالة شديدة من خلال موت ميثم بجرعة زائدة من المخدرات. فإيران تحتل المرتبة الأولى عالمياً في معدلات تعاطي المواد المخدرة التقليدية والمصنعة، وذلك وفقاً لتصريحات السيد (رسول خضرى) العضو السابق فی اللجنة الاجتماعية بالبرلمان الإيراني عام 2019.
مشاهدة الأفلام، والاستماع إلى الغناء والموسيقى، وتربية الحيوانات الأليفة من الأمور التى ألمح إليها الفيلم في إشارات طفيفة؛ فبيتا ابنة مينا أسماها أبوها بهذا الاسم تيمناً بفيلم (بىتا) Bita الذي تم إنتاجه عام 1972م أي قبل الثورة الإيرانية بسبع سنوات، ولعبت بطولته صوت إيران الخالد گوگوشGoogoosh ، لأن أباها كان يحب السينما، وقد ورثت البنت حب السينما عنه، فدائماً تطلب من أمها الذهاب إلى السينما أو مشاهدة الأفلام في المنزل.
وميثم بن أمينى يعشق الموسيقى ويعزف على الجيتار، فعلى الرغم من نشأته في بيئة جادة تتسم بالحزم، فهو نجل قاض، إلا أنه يهوى الاستماع إلى الموسيقى، وصناعة أسطوانات مدمجة لأشهر الأغاني الإيرانية الحديثة.
كما نرى جارة مينا القاطنة في الطابق العلوي تهوى إقامة الحفلات، والاستماع إلى الأغاني، وتربي كلباً يعدو في أنحاء البيت، وتسمح له مينا بالقدوم إلى شقتها السفلية في حين يراه أمينى حيواناً نجساً.
كل هذه القضايا الكبيرة التي عمد بهتاش استعراضها في إشارات صغيرة، توضح نظرة الشعب الإيراني في أمور قد تبدو في ظاهرها بسيطة لكن في باطنها معقدة للغاية، فهذا الشعب المحكوم بقبضة دينية متشددة، تحرم وتحلل ما يحلو لها، جعلته يتأرجح بين دروب الحلال والحرام في أمور حُسمت طرحاً وبحثاً وجدلاً، ولا يستطيع البت فيها. والشعب الإيراني ليس وحده المتحير في مثل هذه الأمور، فهناك شعوب مازالت تتأرجح معه مع اختلاف نوع الحكومات القائمة عليها.
من المشاهد المهمة في الفيلم، مشهد حدوث علاقة غير شرعية بين أمينى ومينا، وقد صوره بهتاش ببراعة شديدة، تجعلنا ندرك كيفية تعامل المخرجين الإيرانيين مع هذه النوعية من المشاهد بذكاء وحنكة، لتوصيل المعنى إلى المشاهدين دون الوقوع تحت مقص الرقابة، ففي هذا المشهد تظهر مينا بمفردها أمام المرآة، وهي تطلي شفتيها باللون الأحمر، ثم ترخي الوشاح عن رأسها، وتتوجه إلى غرفة أمينى، وتدخلها موصدة الباب خلفها، فتتوقف حركة الكاميرا أمام الباب المغلق عدة لحظات في صمت عميق. وهذا المشهد بتفاصيله قد تكرر حينما دست مينا السم لأمينى في كوب اللبن، فعندما أحبته منحته نفسها، وعندما أرادت الانتقام منه، أوهمته بأنها ستمنحه نفسها مرة أخرى.

فكرتا التكفير والغفران هما رمانتا الميزان في الفيلم، تصعدان بالأحداث وتهبطان بها، فأمينى قاض، ومن المفترض أن يبطل الظلم ويحكم بالعدل، وحينما علم أنه حكم ظلماً بإعدام شخص بريء، حاول التكفير عن خطئه بمساعدة أرملة الرجل، لكنه لم يقم بأول خطوات التكفير عن الذنوب والخطايا، وهي الاعتراف بها، فلم يكشف هويته الحقيقية لمينا، على الرغم من أنها راسلته، وطلبت مقابلته، ومواجهته بما فعل، لكنه تهرب منها، ولم يمتلك الشجاعة الكافية ليعترف أمامها بخطئه، ويعتذر لها، ويطلب منها الصفح، فقد أراد التكفير والغفران بطريقته الخاصة، وتلاعب بمينا موهماً نفسه بأن يفعل الصواب بمساعدته لها، وربما لو صارحها بالحقيقة، ما أقدمت على قتله انتقاماً لزوجها ونفسها، فأمينى لم يمنح مينا حرية الاختيار بين رفض الاعتذار وقبول الغفران، وجعلها دمية في يديه، يحركها كما يشاء.
وعلاقة القاضي أمينى بامرأة عادية مثل مينا، ليست علاقة عابرة في فيلم إيراني بين رجل وامرأة فحسب، بل إنها تبلور علاقة السلطة الإيرانية بالشعب؛ وهي علاقة يمكن تشبيهها بعلاقة الجلاد بالضحية، فأحياناً يشتد تعذيب الجلاد لضحيته، وأحياناً يخفف من وطأة تعذيبه لها في لحظة عطف، والضحية لا تملك في الحالتين سوى الرضوخ له، لكن إن سنحت لها الفرصة ستتخلص منه. هذه العلاقة التملكية تشبه إلى حد كبير علاقة السلطة الإيرانية بالشعب، فالسلطة تدير شؤون الشعب كما يحلو لها دون النظر إلى متطلباته ومتطلعات، والشعب راضخ لأنه لا يستطيع إحلال السلطة القائمة أو تبديلها بأخرى، ولكن إن سنحت له الفرصة من المؤكد أنه لن يتوانى عن الإطاحة بها.
تظل الأحداث المبهمة أو المبتورة هي السمة العامة في أغلب الأفلام الإيرانية التي شاهدتها حتى الآن، ولا أعرف السبب في ذلك، وإن كنتُ أرجعه إلى الرقابة التي قد تحذف بعض المشاهد من الفيلم، فيحدث خلل في تتابع الأحداث، وبالتالي يطغى الغموض عليها.. فنحن لا نعلم أين زوجة أمينى، ولمَ العلاقة متوترة بين أمينى وابنه ميثم؟، وما هي الأسباب التي دفعت ميثم للإدمان، وكذلك الأسباب التي دفعت بابك زوج مينا لاقتراض المال من السيد راشدى؟.. كل هذه المبهمات أضعفت من حبكة الفيلم، هذا بالإضافة إلى مشهد البقرة في بداية الفيلم ومنتصفه ونهايته؛ فعلى الرغم من إعجابي الشديد به، وبذكاء المخرج في استلهامه من التراث الإسلامي، وإسقاطه على مضمون الفيلم، إلا أنه بدى مقحماً على سياق الفيلم، وكان من الممكن تضفيره في الأحداث بشكل أكثر إحكاماً من ذلك، لأننا إذا استقطعناه من الفيلم لن يشكل أي خلل كأنه لم يكن موجوداً في الأساس.
على أية حال على الرغم من اقتباس فيلم أنشودة البقرة البيضاء عن الفيلم الأمريكي كرة الوحش، من الممكن اعتباره واحداً من الأفلام المهمة في تاريخ السينما الإيرانية بعد الثورة، حيث ترجع أهميته إلى جرأة الموضوعات والقضايا المطروحة فيه؛ بدايةً من إدانة حكم الإعدام في إيران، وانتقاد النظام القضائي في الدولة، مروراً بوضع المرأة العزباء في المجتمع الإيراني، وارتفاع معدل الإدمان بين الإيرانيين، وجدلية تحليل وتحريم السينما والغناء والموسيقى وتربية الحيوانات الأليفة، نهايةً إلى حدوث علاقة غير شرعية بين رجل وامرأة في بلد لا تقبل مثل هذه العلاقات حكومة وشعباً.. كل هذه القضايا التي طرحها الفيلم، تجعل صانعيه ينشدون قصتهم على أوتار حمراء لا يسمح النظام الإيراني مطلقاً بالعزف عليها.
خاص وكالة رياليست – رؤية نقدية وتحليلية – د. محمد عمر سيف الدين