موسكو – (رياليست عربي): في نهاية يناير الماضي من هذا العام، وقعت الجزائر اتفاقية مع منتدى الدول المصدرة للغاز لإنشاء معهد متخصص في أبحاث الغاز و العلوم المرتبطة به. سيكون هذا المعهد بمثابة الإطار الذي سيعزز التعاون العلمي و التطوير التكنولوجي بين مختلف المؤسسات البحثية و الأكاديمية لدول المنتدى من جهة، و لجميع المهتمين بالعلوم المرتبطة بتكنولوجيا الغاز في الدول الأخرى من جهة ثانية.
فضلاً عن ذلك، ستستضيف الجزائر في الفترة ما بين 29 فبراير و 2 مارس الحدث الأبرز في مجال الطاقة عموماً، و الغاز خصوصاً، و هو قمة منتدى الدول المصدرة للغاز.
يُجمِع الخبراء و الباحثون على أن الغاز سيصبح المصدر الأهم للطاقة في العقود المقبلة، و التي يمكن وصفها بأنها عصر التحول الطاقوي؛ وهنا تكمن أهمية إنشاء معهد دولي لأبحاث الغاز و أهمية هذه الدورة لمنتدى الدول المصدرة للغاز.
يحق لأي مراقب، و بالدرجة الأولى المواطن الجزائري، أن يطرح الأسئلة أو التساؤلات التالية:
ما هي وظيفة هذا المعهد؟
أليست الجامعات و الكليات المتخصصة في مجال هندسة الطاقة و النفط و الغاز و الكيمياء هي التي تتولى هذا النوع من الأبحاث؟!
كيف لنا، كمراقبين، أن نستشعر فائدة هذا المعهد على المديين المتوسط و الطويل؟
في الواقع، جميع الأسئلة السابقة هي أسئلة وجيهة، و الجواب البديهي، الذي سيتبادر فوراً إلى ذهن أي باحث أو مهندس، هو أن هذا المعهد سيجري الأبحاث في الحقول العلمية و الهندسية المرتبطة باستكشاف و استخراج و نقل و استهلاك الغاز. و الحقيقة أن هذه الحقول المعرفية كثيرة، سنذكر أهمها:
علوم التربة والصحاري، الجيولوجيا و الهيدرولوجيا، كيمياء النفط و الغاز، العلوم المرتبطة بالطاقات الجديدة و المتجددة، الأرصاد الجوية، علوم البيئة، علوم وتكنولوجيا المواد، هندسات التحكم و الإلكترونيات و البرمجيات و الميكانيك، أنظمة التهوية و التكييف، الذكاء الصنعي … الخ.
بناءً على ذلك، سيكون هذا المعهد محط أنظار الباحثين من جميع الدول، حيث ستتاح الفرصة لتبادل الخبرات و المعارف بينهم في الحقول السابقة، و هذا سيسهم مساهمة فعّالة في تطوير المعارف و تحسين التكنولوجيا في مجال الصناعة الغازية بشكل عام.
من نافلة القول، لا يمكن أن نتصور أي عملية تطوير أو تحديث تكنولوجي دون بحث علمي، لذلك فإن إنشاء هذا المعهد هو خطوة متقدمة في هذا السياق. ولكن الأهم من ذلك كله، وفق تقديرنا، هو أن هذا المعهد سيتيح إمكانية تطبيق نماذج التطوير التكنولوجي Innovation models الحديثة، و يحوّلها إلى جزء لصيق في آليات عمله. وهذا في الواقع يدفعنا إلى التعريج قليلاً على هذه النماذج و كيفية تبدلها مع الزمن تبعاً لحاجات الإنسان، حتى نتمكن من فهم المكانة التي يستطيع معهد أبحاث الغاز أن يحجزها لنفسه في المستقبل.
في الحقيقة، يتطلب الإسهاب في شرح نماذج التطوير التكنولوجي مساحة كبيرة، لذلك سنكتفي بعرضٍ سريعٍ لها، و يمكننا أن نحيل القارئ الكريم إلى مرجع هام حول هذا الموضوع للاستزادة (انظر [1]). وهكذا، يُقسّم الباحثون عملية التطور التكنولوجي إلى 6 أجيال متمايزة، ترافقها ستة نماذج:
1-الجيل الأول أو النموذج الخطي الأول، حيث كان العلم هو الدافع في عملية إنتاج التكنولوجيا، و تمثله فترة الستينات في القرن الماضي.
2-الجيل الثاني أو النموذج الخطي الثاني، حيث كانت احتياجات السوق (أو المجتمع) هي الدافع في عملية إنتاج التكنولوجيا، و تمثله فترة السبعينات من القرن الماضي.
3-الجيل الثالث أو النموذج المُقترِن، وهو شكل من التزاوج بين النموذجين السابقين، فالعلم و السوق يلعبان سويةً دوراً ما في إنتاج التكنولوجيا، و تمثله فترة الثمانينات من القرن الماضي.
4-الجيل الرابع أو النموذج التفاعلي، يشبه النموذج المُقترِن، مع إضافة عناصر خارجية جديدة غير تلك التي يقدمها العلم و السوق، و تمثله فترة التسعينات من القرن الماضي.
5-الجيل الخامس أو النموذج الشبكي، ويقوم على بناء شبكة من العلائق بين جميع العناصر التي تتشارك في إنتاج التكنولوجيا. هناك عدة صيغ للتعبير عن هذا النموذج، و يمثله العقد الأخير من القرن الماضي.
6-الجيل السادس أو النموذج المفتوح، وهو يشبه النموذج الشبكي مع فارق جوهري يتمثل في أن العناصر التي تساهم في توليد الأفكار التي تؤدي إلى تطوير التكنولوجيا لا حدود لها تقريباً. وهو أحدث النماذج، و هو النموذج المعتمد في العصر الحالي.
أعتقد أن بعض التأمل سيقودنا إلى نتيجة واضحة، وهي أن النموذج المفتوح هو أفضل النماذج التي يمكن اعتمادها في معهد أبحاث الغاز، فالمحدّدات و العناصر المرتبطة بتكنولوجيا صناعة الغاز كثيرة جداً، إن لم تكن لا نهائية تقريباً، و يمكن أن نذكر بعضها: محددات أمنية، محددات جيوسياسية، محددات دبلوماسية، محددات قانونية و إدارية، محددات بيئية، محددات فنية – تقنية، محددات علمية …الخ. مع ضرورة ترك المجال لإمكانية إدخال عناصر أخرى جديدة، لأننا بحاجة دائمة إلى أفكار إبداعية خلاقة قادرة على حل المشاكل المرتبطة بصناعة الطاقة عموماً و الغاز خصوصاً.
بناءً على ما تقدم، فإن المهمة الرئيسية لهذا المعهد تتمثل برسم صورة فسيفسائية كلية معقدة لمستقبل هذا القطاع الحيوي الهام، بحيث تأخذ هذه الصورة بعين الاعتبار جميع العناصر و المحددات التي ذكرناه آنفاً.
ستكون هذه الصورة في حالة تحسين و تطوير مستمرين تبعاً للظروف الراهنة حتى بلوغ الحالة التي يمكن أن نسميها (الكمال التكنولوجي) من جهة، و من جهة أخرى، جميع العوامل المؤثرة على هذه الصورة متغيرة زماناً و مكاناً. سيكون جميع أفراد المجتمع مساهمين فاعلين في رسم جزء ما من هذه الصورة، أو تلوين نقطة ما فيها؛ فإنتاج التكنولوجيا يجب أن يكون لخدمة الإنسان بالدرجة الأولى، لأنه الأصل و الغاية.
لإثبات نجاعة هذا التصور يكفي أن نشير إلى المشاكل البيئية و المناخية و الآثار المترتبة عليها؛ فهذه المشاكل و الآثار لا يمكن أن تكون خاصةً بدولة معينة أو بقعة جغرافية معينة، بل إن الجميع شركاء فيها. كما أن المشاكل البيئية و المناخية مرتبطة بكل الحقول العلمية و الهندسية التي عرّجنا عليها سابقاً.
وهكذا، فإن رسم هذه الصورة المعقدة سيكون بمثابة الخطة طويلة الأجل، التي تمنح الجميع وظيفةً ما فيها. فالباحث سيجد مكاناً لإجراء بحثه، و الطالب سيجد فرصةً لتحقيق طموحه و أحلامه، و كأننا أمام ورشة عمل عملاقة، قد تمتد إلى خارج الحدود القطرية، و لكن تقودها و تشرف عليها و تراقب عملها مؤسسة واحدة وهي معهد أبحاث الغاز.
قد يعتقد البعض بأن هذا الكلام شكل من أشكال الفانتازيا، ولكنني على يقين مطلق بأن تجسيد هذه الصورة واقعاً ليس صعباً، خاصةً إذا علمنا أن جميع المشاكل المرتبطة بالغاز أصبحت أكثر إلحاحاً من ذي قبل، كما أن عملية التحول الطاقوي تسير بخطىً حثيثة في جميع البلدان. لذلك سأكون في غاية السعادة بأن يشاركني القارئ الكريم بأفكاره، التي قد تساهم في تحسين هذا الطرح و تطويره.
المراجع:
1-Niek D du Preez and Louis Louw, A Framework for managing the Innovation Process, PICMET ’08 – 2008 Portland International Conference on Management of Engineering & Technology.
خاص وكالة رياليست – الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).