لا شك أن مسألة انتشار فيروس “كورونا” في العالم والتغييرات الجيوسياسية التي أحدثها هي التي ستساعد الصين وروسيا على أن تصبحا قوتين عالميتين رائدتين بعد الانتهاء من خطر هذا الفيروس. فحتى الأن ما زالت كل من الصين وروسيا واقفتين على قدميهما بالرغم من أن الأولى كانت المركز الأول لإنتشار الفيروس في العالم والثانية ما زالت في فترة مكافحة الفيروس على المستوى الداخلي (فقد وصل عدد المصابين في روسيا إلى أكثر من 1100 مصاب).
لكن عدد هذه الإصابات في الداخل الروسي وخطر انتشاره بشكل كبير فيها لم يقف عائقا في وجه روسيا صاحبة الأوضاع الإقتصادية غير الجيدة في استخدام هذا الحدث من أجل إظهار نفسها كقوة عالمية تناوىء الولايات المتحدة في إدارة العالم من خلال تقديم المساعدات الطبية والفنية لعشرات الدول سواء في آسيا الوسطى وايطاليا أو الشرق الأوسط. خصوصا وأن واشنطن حتى الآن لم تستطع مساعدة نفسها أولًا أو أخواتها الأوربيات.
في هذا المقال سنحاول أن نلقي الضوء على كيفية تأثير انتشار هذا الفيروس على تنفيذ السياسة الخارجية الروسية وكيف استخدمت موسكو التفكك الأوروبي أمام هذا الوباء لكي تظهر رسالة مفادها أن روسيا ليست العدو الذين يتكلمون عنه في أوروبا والولايات المتحدة، بل هي الصديق المستعد لتقديم أي مساعدة.
الاتحاد الروسي ونظام “الأحادية القطبية”
في خطاب فلاديمير بوتين أمام مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007، اتهم واشنطن بتجاوز حدودها، معتبرا أن السياسات الأمريكية جعلت العالم أكثر خطرا وأقل أمنا، وأن لا أحدا يمكنه حاليا أن يلوذ بالقانون الدولي للشعور بالأمن.
في هذا الخطاب رفض بوتين مفهوم العالم أحادي القطب الذي تكون فيه الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، وقال بالحرف “أيا كانت الطريقة التي يتم بها تجميل هذا المصطلح فإنه يعني مركز سلطة واحدا ومركز قوة واحدا وسيدا واحدا”. بالنسبة للعالم الحديث، فإن النموذج أحادي القطب ليس فقط غير مقبول، ولكنه أيضا مستحيل عموما. لكن الأهم من ذلك: النموذج نفسه غير صالح، لأنه لا يوجد ولا يمكن أن يكون هناك قاعدة أخلاقية للحضارة الحديثة مع وجوده. فكل ما يحدث في العالم اليوم، هو نتيجة لمحاولات إدخال هذا المفهوم في الشؤون العالمية – مفهوم العالم الأحادي القطب.
يمكننا القول أن كلمات الرئيس الروسي أمام مؤتمر ميونخ حينها، كانت تعتبر إعلان عن العقيدة الروسية في السياسة الخارجية، وهذه العقيدة رأينا تطبيقها بعدها بشهور قليلة في أزمة جورجيا وأوسيتيا الجنوبية عام 2008 ورأينا تطبيقها أيضا في الأزمة السورية وفي عملية ضم شبه جزيرة القرم وغيرها من المواقف الروسية المتتابعة التي كانت ترفض تماما” نظام الأحادية القطبية”.
وبالرغم من حصول روسيا على عقاب أمريكي-أوروبي في شكل عقوبات إقتصادية منذ عام 2014 وحتى الآن، إلا أن المواقف الروسية تجاه مصالحها الإستراتيجية في كل من أوكرانيا، الشرق الأوسط وحتى فنزويلا ما زالت صامدة ضد كل هذه الضغوط.
وجاءت مسألة انتشار فيروس كورونا في الصين أولًا ثم إيران ومن بعدها إيطاليا وأوروبا وصولًا إلى أراضي الولايات المتحدة لكي تكون فرصة أمام السياسة الخارجية الروسية للتأكيد مرة أخرى على ألا يوجد نظام “أحادي القطب” بل هناك قوى عديدة تشارك الولايات المتحدة في قيادة هذا العالم، خصوصا وأن الصين كما هو واضح لنا استطاعت السيطرة على انتشار وباء كورونا على أراضيها وبدأت مع روسيا وبشكل منفصل تقديم مساعدات طبية للدول التي انتشر فيها هذا الفيروس مثل ايطاليا. أو لبعض دول آسيا الوسطى التي تعمل جاهدة لمنع إنتشار هذا الفيروس على أراضيها.
وساعد ضعف موقف الولايات المتحدة أمام انتشار هذا الفيروس على أراضيها وعدم قدرة النظام الطبي الأمريكي حتى الأن على إحتوائه، في هز صورة الولايات المتحدة “أقوى دولة في العالم” والمتحكمة في معظم أرجاء الكرة الأرضية. فبسبب ضعف الأجهزة الحكومية الأمريكية أمام انتشار هذا الوباء، يبدو أن المؤمنين بمفهوم العولمة والمؤمنين بقوة الولايات المتحدة سيكونوا قلة في العالم، حتى في داخل الولايات المتحدة ذاتها.
بل جاءت مسألة عرض المساعدة الروسية لواشنطن في جهود مكافحة وباء فيروس كورونا “، لتؤكد على معنى عدم صلاحية النظام العالمي أحادي القطب، فإذا نظرنا لكلمات السفير الروسي في واشنطن “أظهرت مجموعات الاختبار لدينا جودة عالية في الصين وإيران، وتم نقلها إلى إيطاليا. يجب أن يعرف الأمريكيون العاديون أن روسيا ستكون مستعدة لمساعدة الولايات المتحدة، إذا لزم الأمر”، نرى أنها تُظهر للعالم مفهوم التكاتف والتعاون بدلًا من الانفراد والاستئثار.
المساعدات الروسية لإيطاليا، لماذا؟
تم نشر وحدات من الجيش الروسي في برغامو (شمال ايطاليا) وتنفيذ المهام في المدينة نفسها وفي المناطق المجاورة. وتم انتداب المتخصصين الطبيين إلى المستشفى المركزي في بيرغامو ومستشفى الضباط في جبال الألب المنتشرين في الضواحي. وقد حدد أخصائيو الحماية الإشعاعية والكيميائية البيولوجية حتى الآن مهمة تطهير وسائل النقل والمعالجة الخاصة للجدران الداخلية والخارجية للمستشفيات وداخل المستشفيات، وكذلك المركبات التي تنقل الموتى.
وفقًا لمعلومات رسمية من وزارة الدفاع الإيطالية، وصل حوالي 120 متخصصًا إلى البلاد، بما في ذلك أخصائيو الأوبئة وعلماء الفيروسات وشاحنات Kamaz TMS 65U وKDA Orlan للتطهير (قادرة على رش ما يصل إلى 5 كيلومترات مربع كل ساعة)، ومعدات للمستشفيات المتنقلة، و100 جهاز تنفسي و500 ألف قناع.
جميع المتخصصين الذين وصلوا إلى إيطاليا جنرالات ورتب عسكرية أخرى متخصصة في مجال الحرب البيولوجية، منهم المتخصص في الجمرة الخبيثة ومنهم المتخصص في مكافحة انفلونزا الخنازير وخبير في معدات الحماية ضد العوامل البيولوجية ذات الأصل الفيروسي وخبراء شاركوا في برامج مكافحة الإيبولا والطاعون.
ومن المعلوم أن وزير الخارجية “لويجي دي مايو” استقبل شخصيا الوحدات العسكرية الروسية وأعلن عن أن “إيطاليا ليست وحدها، إن دعم العلاقات الودية (مع روسيا) له ما يبرره”.
ومن المعلوم أيضًا أن طائرات الشحن الروسية أتخذت مسار على طول طريق البحر الأبيض المتوسط، مما يتجنب المجال الجوي لبلدان شمال شرق أوروبا. لذا فإن الرحلة كانت أطول بكثير، وذلك بسبب رغبة روسيا في الإسراع بتقديم هذه المساعدات، وإلا فسيتعين عليك تنسيق المسار مع جميع البلدان التي طرت فوقها. وهذا بالتأكيد لم يكن من الممكن القيام به.
هنا تجدر ملاحظة، لماذا لم ترسل روسيا قوات خاصة من وزارة الطوارىء المتخصصة في الحالات الإنسانية؟ ولماذا تم إرسال قوات عسكرية؟
بشكل عام وعلى الرغم من انتشار فيروس كورونا، يجب أن تكون القوات المسلحة لأي دولة مستعدة دائمًا لأداء مهمتها في حالات مختلفة. لذلك، يتم تنظيم المناورات والتدريبات العسكرية، وفي خلال أداء هذه المناورات والتدريبات يتم وضع سيناريوهات مختلفة، على سبيل المثال، استخدام أسلحة الدمار الشامل من قبل العدو ومن ضمن هذه الأسلحة (السلاح البيولوجي). خاصة وأن كل جندي لديه المعدات الوقائية اللازمة ويتم تدريبه للقيام بواجباته الوظيفية فيها. النظام الأمريكي (الناتو) للحماية من هذا النوع من التأثير لم يكن جاهزًا. بالرغم من أن كانت معظم الجيوش الأوروبية والجيش الأمريكي على مشارف القيام بمناورات “الدفاع عن أوروبا 2020”. وكانت هناك بالفعل وحدات عسكرية أمريكية تستعد للمشاركة فيها، لكن لم تستطع وحدات الجيش الأميركي أن تساعد أي دولة أوروبية بالرغم من وجودها حاليًا على أراضي القارة الأوروبية.
لذلك كان على الكرملين إظهار أنفسهم بأنهم الجيش الوحيد على أراضي القارة الأوروبية الذي يستطيع مواجهة أي أخطار، وبالرغم من الحملة الإعلامية الكبيرة التي صاحبت مناورات “الدفاع عن أوروبا 2020” والتي كانت موجهة ضد الخطر الروسي، إلا أن روسيا أظهرت العكس. فمن الواضح أن الأوروبيين ليسوا أغبياء لدرجة أنهم لا يلاحظون كيف أن “أعداء الأمس” يصبحون منقذين وأصدقاء. وسيتعين على النخب السياسية الغربية، التي من أجل البيت الأبيض أن تخيف مواطنيها مع الكرملين، أن تكبح حماسهم وتقلل من حملات فوبيا الروس.
إن إرسال علماء بيولوجيين عسكريين روس إلى إيطاليا له العديد من الأهداف:
- تجربة محاربة الفيروس في أصعب الظروف (في مكان مات فيه أكثر من 8 آلاف شخص بالفعل) فهي مناورة عسكرية قائمة على خطر حقيقي وتزيد من فاعلية القوات المسلحة الروسية بشكل عام.
- كمساعدة إنسانية لآلاف الأشخاص، خصوصًا مع دولة تمتلك معها روسيا علاقات إقتصادية قوية جدًا خصوصًا في مجال الغاز.
- كخطوة جيوسياسية جيدة، هدفها تعزيز أصوات معارضي العقوبات وإظهار روسيا كدولة لا يهدد جيشها أوروبا فحسب، بل والعكس صحيح – مستعدة للمساعدة.
بالطبع، من الخطأ المبالغة تقدير الإيطاليين لهذه المساعدات ولا تتوقع روسيا على الفور الامتنان المتبادل، امتنان الشعب الإيطالي وقيادته لن يترجم إلى خطوات سياسية. فقد حاولت بعض وسائل الإعلام الإيطالية تشويه سمعة دعم روسيا، فذكرت صحيفة “لا ستامبا” نقلا عن مصادر رفيعة أن 80 بالمئة من عمليات التسليم الروسية “عديمة الفائدة على الإطلاق أو قليلة الاستخدام” لإيطاليا في الحرب ضد الفيروس. في حين قالت النائبة الأوروبية من كتلة الاشتراكيين الديمقراطيين الإيطاليين إليزابيث جوالميني إن “روسيا والصين تسعىان دائمًا لتحقيق المصالح السياسية”. مثل، تحاول روسيا تكوين صداقات مع الاتحاد الأوروبي. وأشار نائب حزب البرلمان الأوروبي مايكل جالير إلى أن بوتين يعتمد على فيتو إيطاليا عند تمديد العقوبات الأوروبية ضد روسيا.
إذن هناك بالفعل أصوات داخل إيطاليا نفسها تتفهم الخطوة الروسية المهمة في إرسال مساعدات عسكرية، لكن بالرغم من كل هذا هناك فوائد بالفعل للسياسة الخارجية الروسية نتيجة التحركات الروسية في مساعدة دولة أوروبية هامة-ايطاليا.
في نهاية المطاف لا يجب أن ننظر إلى مسألة إنتشار فيروس كورونا كمرض، بل يجب أن ننظر إليه كأزمة كبيرة، والأزمات دائما تُظهر حجم القوة الحقيقي للمؤسسات، وكما رأينا فشلت تماما كل المؤسسات الأوروبية في مواجهة أزمة كورونا كما فشلت المؤسسات الأمريكية في نفس الأمر، فقط وحتى الآن أظهرت القوات المسلحة الروسية قوة جاهزيتها أمام أزمة انتشار هذا الوباء، بالطبع باللإضافة إلى جمهورية الصين.
لذلك هناك فرصة حقيقية أمام السياسة الخارجية الروسية في إظهار نفسها كقوة عظمى، ولكن ليست قوة عظمى تريد إستعمار الدول الأخرى وإنما قوة جاهزة للمساعدة، حتى مساعدة الدول التي تفرض عليها عقوبات إقتصادية. وبذلك إذا استطاعت روسيا كبح هذا الوباء على أراضيها، فسيكون شكل العالم بعد التخلص من خطر الوباء عالميًا بلا أدنى شك متغير إلى حد كبير. فالدولة التي مدت يد العون للدول المتضررة سيكون من الصعب تصويرها بعد ذلك كدولة تمثل خطر على أمن أوروبا وأمن الولايات المتحدة.
د.عمرو الديب- مدير مركز خبراء “رياليست” النسخة العربية
المصدر الأصلي للمقال: إضغط هنا