منذ قيام الثورة الإيرانية بزعامة “آية الله الخميني” الزعيم الروحي للمذهب الشيعي، وما أعقبها من توتر في العلاقات بين الدول الكبرى والإقليمية والتي تجلت في الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988) أو ما يُعرف بحرب الثماني سنوات، والتي لا نعلم الأسباب الحقيقية وراء قيامها أو أسباب وقفها، حيث كلفت إيران والعراق وحلفاءها مليارات الدولارات، إذ يرى كثير من المحللين أنها كانت خطأ استراتيجي فادح من جانب القيادة العراقية في ذلك الوقت.
يُقال إن الدول الكبرى كان لها دوراً بارزاً في اشتعال هذه الحرب انتقاماً مما حدث، من أحداث الهجوم على السفارات والبعثات الدبلوماسية، خاصة أحداث السفارة الأمريكية بطهران من اقتحام واحتجاز ما يزيد عن “350 رهينة أمريكية” آنذاك، حيث أوعزت وبثت هذه الدول الخوف والهلع لدول المنطقة بعزم النظام الإيراني الإسلامي الجديد بعد حكم الشاه بتصدير أفكار الثورة إلى بلدانهم، مما جعل هذه الدول تشجع القيادة العراقية لإلغاء اتفاقية الجزائر التي أبرمت مع إيران عام 1975، والتعهد من جانبهم للعراق بمده بالسلاح والعتاد والتكلفة اللازمة للوقوف كحائط صد (حارس أمني لهذه الدول)، وانتهاز فرصة انشغال الساسة الإيرانيين الجدد في ترتيب أوضاعهم الداخلية، والانقضاض عليهم وتحقيق نصر حاسم وسريع، وهو الأمر الذي لم يحدث ولم يتحقق.
من ثم تنصلت الدول المحرضة للعراق من تعهداتها والتزاماتها المادية والأدبية، خاصة عندما طالبتهم بغداد بسداد فواتير الحرب (بالوكالة) وتوهمت القيادة العراقية أن لها قوة إقليمية وعسكرية تمكنها من فعل ما تشاء (تكلفة الحرب تزيد عن 400 مليار دولار أمريكي + ما يزيد عن مليون قتيل).
وكرر الغرب نفس الفخ للقيادة العراقية بدس الوقيعة بينها ودول المنطقة حيث (أكل العراق الطُعم)، نتج عنه احتلال دولة الكويت، ثم احتلال العراق، وهي الأحداث التي تعاني منها دول المنطقة حتى اليوم، وهو خطأ استراتيجي آخر للقيادة العراقية والدول التي شجعته على ذلك.
قام الإيرانيون بعد انتهاء الحرب العراقية بترتيب أوضاعهم الداخلية والخارجية، وكان تركيزهم على السياسة الخارجية والاستفادة من الأوضاع العالمية والإقليمية، ووضعوا استراتيجية لأولويات سياستهم ترتكز على صناعة أذرع وقوى وميلشيات تابعة لها في عدة دول لتكون أوراق ضغط وتفاوض، وكذلك استعادة قوة البرنامج النووي الإيراني.
الظروف العالمية والإقليمية
من هذه الظروف: تفكك دول الاتحاد السوفيتي، وتورط الولايات المتحدة في أفغانستان، كذلك انشغال الولايات المتحدة بالحرب ضد الاٍرهاب ، خاصة بعد أحداث (11 سبتمبر 2001)، وقيام إسرائيل بضرب المفاعل النووي العراقي، واشتعال الخلاف الخليجي واحتلال العراق للكويت، أيضاً، عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي لكثير من دول المنطقة، والنجاح الذي حققه حزب الله التابع والممول من إيران، أمام القوات الإسرائيلية في لبنان.
كل تلك العوامل الأساسية، بالإضافة إلى إيمان القيادة السياسية بضرورة لعب دور إقليمي للهيمنة والسيطرة، وامتلاك أوراق ضغط سياسية تقوم على التمويل بالمال والسلاح، واعتماداً على المفاهيم العقائدية والدينية، الأمر الذي دفعها إلى:
أولاً، 1-الارتكاز على حزب الله في لبنان ليصبح مصدر إزعاج وورقة ضغط على كل من إسرائيل وبعض دول المنطقة (خاصة المملكة العربية السعودية، بعد اتفاق الطائف عام 1979).
2-عدم الاستقرار الإقتصادي والسياسي في كثير من دول المنطقة والتي تجلت فيما سمّي بالربيع العربي.
3-تبني الحوثيين في اليمن للعب نفس دور حزب الله، ولكن ليكون نفوذ وورقة ضغط لها في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وأيضاً كمصدر إزعاج للملكة العربية السعودية وحلفائها.
4-لعب دور أساسي والحصول على قاعدة أخرى نتيجة التحالف مع النظام السوري وروسيا وبالتنسيق مع تركيا في الحرب الأهلية السورية المستمرة منذ عدة سنوات.
5-مساندة حماس والمقاومة الفلسطينية بقطاع غزة، وهو الأمر الذي يزعج إسرائيل.
ثانياً، التركيز على البرنامج النووي الإيراني
1-البنية التحتية للمنشآت النووية لدى إيران والتي بدأت منذ حكم شاه إيران منذ عام 1953، والتي بلغت تكلفتها عشرات مليارات الدولارات، حيث كان للولايات المتحدة الأمريكية الدور الأساسي في بناء عدة مفاعلات نووية، ثم تلاها فرنسا.
2-الاقتناع بأحقية إيران في امتلاك سلاح نووي أسوة بباكستان التي سبقتها في هذا الطريق.
3-الاستناد القوي للعقيدة الدينية بأن إيران حاملة لواء الإسلام أمام الدولة اليهودية وداعميها.
4-فرض الحصار والعقوبات الاقتصادية الصارمة على النظام الإيراني، جعله يعتمد على موارده الذاتية، وتأقلمه مع هذه الأوضاع الاقتصادية القاسية.
5-الدروس المستفادة من الحرب مع العراق، ونجاحها في الاستفادة من الغزو الأمريكي للعراق، وتكوين الحشد الشعبي على غرار حزب الله اللبناني، مما جعلها تمتلك ورقة ضغط هامة أخرى للمساومة بها مع الأطراف الأخرى، على غرار حزب الله والحوثيين، بل وأيضاً قوة ردع وأمان واطمئنان لجبهة العراق التي كثيراً ما كانت مصدر إزعاج وقلق للإيرانيين.
وربطاً مع ما سبق، نجحت الإدارة الإيرانية في إبرام اتفاق نووي مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عام 2015، و(مجموعة 5+1 – الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن وألمانيا)، وتحت رعاية وموافقة منظمة الامم المتحدة، رغم اعتراض إسرائيل ودول الخليج، حيث تمكنت طهران من خلال الاتفاق، استكمال تطوير برنامجها النووي (بزعم أنه للأغراض السلمية)، إلى أن جاءت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وسرعان ما ألغي الاتفاق النووي من جانب واحد بتأييد من إسرائيل (التي تتخوف من تزايد واقتراب الأذرع الموالية لإيران من حدودها) ودول كثيرة من دول المنطقة أهمها المملكة السعودية ودولة الإمارات العربية، لكن على الرغم من اعتراض فرنسا وألمانيا والصين وروسيا، بل ومنظمة الأمم المتحدة التي تبنت توقيع الاتفاق، وطالبوا حينها ضرورة تراجع أمريكا عن هذا القرار.
وايضاً فرضت إدارة ترامب مزيد من العقوبات الاقتصادية على ايران، وعلى كثير من الشخصيات والمسؤولين الإيرانيين والتهديد والوعيد بضرب المنشآت النووية واغتيال بعض الشخصيات السياسة والعلمية، واتباع سياسة الترغيب أحياناً، لإقناع الإيرانيين بإبرام اتفاق نووي جديد مقابل وعود برفع العقوبات، وتشجيع الاستثمار والتعاون معها، الأمر الذي قوبل بالرفض من الجانب الإيراني، ومن المؤكد أن إدارة ترامب كانت ستقوم بتوجيه ضربة عسكرية لإيران إذا نجح ترامب في الانتخابات، كما أن إدارته كانت أيضاً على وشك القيام بضربة عسكرية خلال الأيام الأخيرة لها بالبيت الأبيض، لولا أحداث السادس من يناير واقتحام مناصري الرئيس ترامب لمبنى الكابيتول.
بعد تولي الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن ونائبه كاميلا هاريس في 20 يناير، قامت على الفور بإصدار عدد من القرارات والتصريحات الهامة منها:
1-إعطاء الأولوية والأهمية القصوى لحل الصراع والحرب في اليمن، بسبب الوضع الإنساني المتردي.
2-تعليق صفقات الأسلحة مع بعض دول الخليج، والتي سبق إبرامها مع إدارة ترامب.
3-اقتراح إبرام اتفاق إضافي مع إيران، وإعادة تفعيل الاتفاق السابق وإلغاءه وهو الأمر الذي يلقى قبول من مجموعة (5+1) والتي ترى أيضاً ضرورة انضمام أطراف أخرى إلى الاتفاق الإضافي المقترح، أي انضمام المملكة العربية السعودية وإسرائيل على الأقل، وبالطبع هذا الأمر مرفوض من الجانب الإيراني، والتي تتمسك بالاتفاق السابق دون الرجوع إلى أطراف الاتفاق الآخرين.
وفي التصريحات الكثيرة الصادرة من جميع الأطراف، وفي ضوء ما سبق طرحه، وبالرجوع إلى أسس وقواعد علم وفن التفاوض، التي تستند إلى ما تحقق من نجاحات أثناء عملية التفاوض يتوقف بالأساس على ما تملكه وما لديك من بطاقات لعب وأوراق ضغط على الطرف الآخر، وما يتضح جلياً بأن الجانب الإيراني لديه بعض الأوراق الهامة التي مكنته من تحقيق ما يريد، مع الأخذ في الاعتبار قدرة ومهارة الإيرانيين في تعويم وتسويف وإطالة أمد المباحثات بهدف استكمال برنامجها النووي والوصول إلى إنتاج السلاح النووي والصواريخ البالستية، أو أنها فعلاً قد نجحت خلال الفترة السابقة بالفعل في امتلاك سلاح نووي، خاصة وأنها تتعاون ومنذ زمن مع دول مختلفة في هذا المجال مثل الأرجنتين، وجنوب أفريقيا، وروسيا، وكازخستان، وكوريا الشمالية، وباكستان، إضافة إلى الصين.
كما أن إيران سبق وأن أعلنت عن وجود خام اليورانيوم بأراضيها قدّر بحوالي 15 ألف طن، ومن الواضح أن القيادة الإيرانية الحالية تجيد لعبة الشطرنج، والتي هدفها الاستراتيجي هو قتل ملك الخصم (كش مات)، ومن يمارسون لعبة الشطرنج يدركون تماماً أن الفوز لا يتوقف فقط على قوتك وما تملكه من قطع، فقد يفوز من يمتلك قطع أقل ولكنه يحسّن الاستفادة واستخدام وتحريك القطع في المكان الصحيح والمؤثر، وليس بالضرورة من لديه قطع أكثر، لكنه لا يملك مهارة الاستفادة منهم، بل إن الفوز يتوقف على عوامل أخرى كثيرة، منها موقفك وموقف قطع اللعب لديك، ولدى المنافس، والقدرة على المناورة والخداع، ورؤية وتحديد نقاط القوة والضعف لديك ولدى الخصم، وسرعة تحليل وتحديد الهدف واتخاذ القرار في الوقت والمكان المناسب.
لذا، وفي ضوء تشابك الخيوط والمصالح والأهداف وتعارضها من طرف لآخر يخطئ من يظن أن أمريكا أو إسرائيل أو كلاهما سوف تقوم بتوجيه ضربة عسكرية لإيران مجاناً ودون مقابل أو أنهم سوف يقوموا بدور “الحارس الأمني” كما أشرنا أعلاه، وإن فعل صدام حسين، بل وإذا وقع ذلك، سوف تكون الفاتورة باهظة، فعلى أقصى تقدير سوف تكون ضربة نوعية سريعة محدودة الأثر، وإذا استوعبها الجانب الإيراني، فعلينا انتظار رد فعلهم، وعلى الأطراف الأخرى عدم الثقة المفرطة والأمل المبالغ فيه في الإدارة الأمريكية الجديدة، فكل المعطيات تدل على صلابة الموقف الإيراني.
كما أن ابتعاد إيران عن برنامجها النووي ونفوذها لن يتحقق بالقوة أو الحرب، بل يلزم إعادة النظر والتحليل وحسن الاستفادة مما لديهم من أوراق ضغط ومصالح مع الأطراف الأخرى، واتباع سياسة النفس الطويل والاستفادة من استراتيجية الخصوم، والاستعانة بالحكمة والهدوء وفن التفاوض، في ظل ظروف دولية وإقليمية ومحلية في غاية الصعوبة والتعقيد وسرعة التغير والنظر للمستقبل والاستفادة من دروس الماضي والتاريخ على أسس وقواعد العلم والعلماء والمتخصصين وكفى ضياع ثروات وأموال ومزيد من الصراعات والحروب التي يخرج منها الجميع خاسراً، والسير وراء السراب، علينا انتظار ما سوف تسفر عنه الأيام القليلة القادمة.
خاص وكالة “رياليست” – د. خالد عمر.