دمشق – (رياليست عربي): لا شك بأن الألعاب الإستراتيجية بين الدول قد تفقد الكثير من الفاعلية والتأثير عند تغير المعطيات الناظمة لتلك الألعاب، وفي المقابل فإن جوهر الألعاب الإستراتيجية يبقى قائماً طالما استدعت المصالح بقاؤها لكنها قد تبقى زمناً طويلاً ضمن أطر المهادنة، وفي النموذج السوري الروسي الجديد بعد سقوط الأسد، فإن خيوط اللعبة الإستراتيجية بين دمشق وموسكو والتي بقيت طويلاً بيد قادة الكرملين قد لا تُقطع بشكل كامل خاصة أن في السياسة كل شيء ممكن، والقيادة السورية الجديدة وإن كانت قد استقبلت مبعوث بوتين، إلا أن ذلك لا يعني المصالحة وإعادة التطبيع، بقدر ما يعني بأن القيادة السورية الجديدة تهادن موسكو، لا سيما أن العلاقات السورية الروسية الجديدة ما بعد سقوط الأسد هي في مرحلة بالغة التعقيد وتحكمها صعوبات جمّة.
تدرك موسكو وفق منظورها الإستراتيجي بأن عليها الحفاظ على مصالحها في سورية الجديدة، وبصرف النظر بأن موسكو فقدت وظيفتها كراعي سياسي وعسكري لمستقبل سوري عقب سقوط الأسد، لكن الصحيح أيضاً بأن موسكو لا تزال تتمتع بثقل سياسي وعسكري واقتصادي تحتاجه الإدارة السورية الجديدة بغية تحقيق حالةً من التوازن الإقليمي والدولي خلال المرحلة القادمة، ورغم ما سبق فإن على موسكو أن تدرك بأنها لم تعد المرجع الأساسي لتحديد شكل ومسار العلاقة الجديدة مع سورية، وهذا ما يعني بأن أمام موسكو تحديات كبيرة، خاصة إذا ما قررت الإدارة السورية الجديدة الذهاب بعيداً في توجهاتها مع الولايات المتحدة والغرب عموماً.
الزيارة الروسية الأولى إلى دمشق ما بعد سقوط الأسد والتي قام بها نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف والإسكندر لفرنتيف المبعوث الخاص للرئيس الروسي، جاءت بغية رسم ملامح العلاقة الإستراتيجية المستقبلية بين دمشق وموسكو، وفي جانب أخر فإن هذه الزيارة تأتي في سياق الزيارات الإقليمية والدولية التي تواكل مسار الانتقال السياسي في دمشق، فسقوط الأسد يُحتم على الإدارة السورية الجديدة إعادة التموضع الإستراتيجي على مستوى العلاقات الإقليمية والدولية، وهذا ما تسعى إليه موسكو عبر تحركاتها تُجاه سورية، وقد تمت ترجمة ذلك عبر اتصال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالشرع وتأكيده على موقفه المبدئي الداعم لوحدة سورية وسيادتها وسلامة أراضيها، وبأن موسكو مستعدة للمساعدة في تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي في سورية بما فيها المساعدات الإنسانية.
بصرف النظر عن عمق العلاقات السورية الروسية خلال حُكم آل الأسد، لكن عقب سقوط النظام السوري فإن شكل ومستقبل العلاقات السورية الروسية لا يمكن أن يتحدد وفق معطيات الحمولة التاريخية بين البلدين، ولا يُمكن أن تُحدد شكل العلاقة وفق الرغبة السياسية لكل من موسكو ودمشق، بل ثمة تموضع إستراتيجي جديد تعمل دمشق على هندسته ضمن شبكة المحاور الإقليمية والدولية، ودون شك فإن الشرع بوصفه رئيسياً انتقالياً للجمهورية العربية السورية، فإنه يسعى لرسم مصالح دمشق بما يُعزز من حضوره وتأثيره وبقاء سلطته كرئيس، خاصة أن سورية تحكمها هوية جيوسياسية تؤطرها تعقيدات ناجمة عن الموقع الإستراتيجي الذي تشغله سورية في الخارطة الإقليمية، وهذا ما يجعلها ملعباً لمصالح القوى الإقليمية والدولية فيها.
بهذا المعنى فإن سورية “الشرع” تسعى إلى ترسيخ موقعها كدولة قادرة على تحقيق التوازن بين كافة الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في المنطقة، بما في ذلك روسيا، لكن الشرع يبدو واضحاً أنه يتجنب الانحياز أو الاصطفاف إلى قوى بعينها، لكن بذات التوقيت لا يريد قطع الخيط الإستراتيجي مع موسكو، لا سيما أن الأخيرة لاعب دولي له تأثير وفاعلية، بالإضافة إلى أنها عضو في مجلس الأمن. نتيجة لذلك فإن شكل العلاقة الروسية السورية الجديدة قد تتأثر ضمن معطين سياسي وعسكري، وفق الآتي:
أولاً- المُعطى السياسي: يرتبط الاعتراف الدولي بسوريا إلى حد كبير بدور روسيا كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، وربطاً بذلك فإن الإدارة السورية الجديدة تسعى لاستثمار هذا الوضع لتأمين غطاء دولي، خاصة إذا تعرضت لضغوط من أوروبا والولايات المتحدة. نتيجة لذلك يمكن تحديد موقف دمشق من موسكو في هذا التوقيت ضمن أطر التعهد بالحصول على دعم سياسي ودبلوماسي في المحافل الدولية، وضمان الحماية من أي ضغوط غربية أو إقليمية، لا سيما أن موسكو كانت أولى الدول التي دعت إلى رفع العقوبات عن سوريا بعد سقوط نظام الأسد في مجلس الأمن.
ثانياً- المعطى العسكري: يلعب الملف العسكري دوراً رئيسياً في تحديد شكل ومستقبل العلاقات بين موسكو ودمشق ويشمل ذلك مستقبل القواعد العسكرية وتسليح الجيش السوري، لكن ذاكرة السوريين ترتبط بالقواعد العسكرية السورية التي شاركت نظام الأسد في استهداف المدنيين، وفي المقلب الآخر فإن الإدارة الجديدة تتوجس من وجود هذه القواعد في منطقة لها خاصية طائفية، وبعد الأحداث التي شهدها الساحل السوري شكلت القواعد الروسية ملاذاً آمناً للكثيرين من أبناء الطائفة العلوية، وهذا ما تخشاه إدارة الشرع لجهة أن تتحول هذه القواعد إلى بوابة للتدخل في الشأن الداخلي في سورية، أو ان تصبح تلك القواعد منطلقاً لهجمات تستهدف الوجود العسكري للقوات السورية الجديدة.
ختاماً، يبدو واضحاً أن روسيا والإدارة السورية الجديدة لا يريدان جفاءً سياسياً أو قطيعة تخلفها تحديات جمّة، ولعل اعتماد البراغماتية منطلقاً للجانبين كفيلاً بإعادة هيكلة العلاقات بين البلدين على أسس جديدة، لكن لابد من النظر إلى سياق أخر. هو سياق قد تحدده الاشتراطات الأوروبية التي ترتكز على ضرورة إخلاء القواعد الروسية في طرطوس وحميميم لرفع العقوبات عن دمشق، وهو ما يدفع الأخيرة للموازنة بين مصلحة بقائها ومصلحة رفع العقوبات، لكن دمشق غير مستعجلة على اتخاذ هذا الموقف مع دولة مهمة مثل روسيا قبل أن يكون هناك مقابل مستحق. بهذا المعنى قد تتأثر علاقات موسكو بدمشق إلى حدٍّ كبير بمستوى علاقة روسيا مع الدول الإقليمية المؤثرة في سوريا، خصوصا تركيا والسعودية وقطر والمحيط العربي الذي بات يبحث عن علاقات متوازنة بين الغرب ومحور الصين روسيا، ليبقى شكل العلاقات السورية الروسية محكوماً بما سيقدمه الغرب من بدائل للإدارة السورية الجديدة.
أمجد إسماعيل الآغا – كاتب وباحث سياسي – سوريا.