أعلن الرئيس التركي في أكتوبر/ تشرين الأول الحالي عن عملية عسكرية ضد وحدات حماية الشعب الكردي المصنفة إرهابياً من قبل السلطات التركية(1) حيث ظهرت منطقة شرق الفرات محسومه لصالح أنقرة في الساعات الأولى في ظل انسحاب القوات الأميركية من معظم نقاط المواجهة على طول خط التماس التركي السوري(2) وتمكنت القوات التركية من السيطرة على رأس العين وبدأت بمحاصرة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي وتزامن المشهد مع موجة نزوح كبيرة من المناطق التي سيطرت عليها القوات التركية.
وبعد ساعات من التدخل التركي ولاسيما بعد الإنسحاب الأمريكي الأخير، أعلنت قسد عن مفاوضات عاجلة مع دمشق برعاية روسية أفضت الى اتفاق أولي يقضي بدخول الجيش السوري إلى مدينتي منبج وعين العرب في ريف حلب الشرقي(3). حيث إختلطت الفواعل الناشطة في تلك المنطقة، فما هي الأطراف الفاعلة في شرق الفرات؟
الفاعل الأول، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وذراعه العسكرية وحدات حماية الشعب، التي تُعتبَر المكون الأساس لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المسيطرة راهناً على كامل منطقة شرق الفرات. ويرتبط حزب الاتحاد الديمقراطي أيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً بحزب العمال الكردستاني.
الفاعل الثاني هي الحكومة السورية، التي تسعى إلى السيطرة على منطقة شرق الفرات في إطار استراتيجيته لاستعادة السيطرة على كامل التراب السوري، بدعم من روسيا وإيران.
والفاعل الثالث هو تركيا، التي تَعتبر هيمنة أي طرف كردي على منطقة بالقرب من حدودها أمراً يمس أمنها القومي، وتتوخَّى تركيا إخراج منطقة شرق الفرات من سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي.
أما الفاعل الأخير فهو الولايات المتحدة؛ التي تهدف من وجودها العسكري في منطقة شرق الفرات. ولكن هنا تغيرت الحسابات في السياسة الأمريكية عقب الانسحاب من شرق الفرات.
ازدواجية أمريكية وتخبط داخلي
عندما دخلت القوات التركية إلى شرق الفرات، هدد الرئيس الأمريكي، أنقرة بتدمير اقتصادها القومي إذا لم توقف الحرب على القوات الكردية في شرق الفرات(4) وإذا تجاوزت الحدود السورية، وفي الوقت ذاته أعلن البيت الأبيض عن سحب قوات أمريكية إلى الحدود السورية العراقية، وبالتوازي مع ذلك في الجلسة الطارئة لمجلس الأمن، أعلنت الولايات المتحدة عدم إدانتها للعملية العسكرية التركية في شرق الفرات (5) فبالنظر تحليلياً إلى كل ذلك يتضح ما يلي:
أولاً: هناك تضارب شديد بين المؤسسات الأمريكية ما بين مؤيد ومعارض بخصوص الانسحاب الأمريكي من شرق الفرات.
ثانياً: عملياً يتضح أن هناك ازدواجية في التصريحات الأمريكية والخطوات الأمريكية داخل الميدان السوري، حيث صرح ترامب بإدانته للعملية العسكرية التركية في شرق الفرات وفي الوقت ذاته أعلن ترامب والبيت الأبيض بعد ساعات قليلة من إدانته للعملية التركية سحب معظم القوات الأمريكية من منطقة شرق الفرات وهي تقدر بألف جندي إلى الحدود السورية – التركية، وهذا يضع الولايات المتحدة محل تناقض شديد، ما بين التصريحات التي تدلي بها الإدارة الأمريكية وعلى رأسها ترامب وبين الخطوات الفعلية التي تنفذها وتتخذها تجاه العمليات في سوريا.
ثالثاً: عدم رضى بعض المؤسسات الأمريكية وعلى رأسها الكونجرس الأمريكي عن سياسة ترامب في سوريا، وذلك بتصويت الكونغرس بمشروع قانون يدين قرار ترامب في سوريا.(6)
مكسب روسي-سوري-إيراني
التحليل الأولي، يمكن فهمه على أن الانسحاب الأمريكي نتيجة تفاهم دولي على أُطر الحل في سوريا، مع إعلاء قيمة التفاهم الروسي – الأمريكي، وهذا ما يصدر للقارئ العربي، ولكن هناك مقاربة أخرى مختلفة يمكن فهمها حول المكسب الروسي من الانسحاب الأمريكي وفقًا لما يلي:
بلا شك أتى الإنسحاب الأمريكي كورقة ربحتها موسكو في الميدان السوري، إن لم يتراجع الرئيس الأمريكي مستقبلاً ويعدل عن قرار انسحاب القوات الأمريكية، فروسيا كانت تنادي دائماً منذ تدخلها شرعياً في الأزمة السورية عام 2015، على ضرورة إخراج جميع القوات الغير شرعية من سوريا منها القوات الأمريكية، والسماح بإنتشار الجيش السوري على كامل أراضيه، وفقاً لتفاهمات أستانا، فيأتي الانسحاب الأمريكي هنا تحقيقا للمطالب الروسية.
وبالتالي فإن الإنسحاب مقبول روسيًا كونه أتى ضمن تفاهمات أستانا وخطوطه العريضة، وهو ما سيدفعها لأخذ حصتها في المنطقة، وانتشار نفوذها كضامن يمنع الاضطرابات في شرق الفرات بين باقي القوى، فمن خلال الاتفاق الأمني الذي أبرمته روسيا بين الأكراد ودمشق كضامن لدخول القوات السورية لشرق الفرات، تصبح روسيا والقوات الحكومية السورية لهما النفوذ الأكبر على مجمل الأراضي السورية، ويصبح نفوذ القوى لصالحهما فيما تصبح الولايات المتحدة هي الخاسر الأكبر في تلك اللعبة، ويأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة بالنسبة للخسارة هم حزب الاتحاد الديمقراطي وفصائله العسكرية، حيث اتجهوا في نهاية المطاف إلى الدولة السورية والتي بطبيعة الحال ترفض أي نوع من الحكم الذاتي الكردي وبالتالي، أصبحت المطالب الكردية التي تنادي بالحكم الذاتي وهنة إلى حد ما. أما إيران هي أيضا ستجد في الانسحاب الأمريكي مكاسب عدة، منها التوسع والانتشار في المناطق التي ستسيطر عليها القوات السورية في شرق نهر الفرات بالإضافة لباقي المناطق في سوريا.
أما على صعيد روسيا والولايات المتحدة سياسياً فأن الإنسحاب الأمريكي والتدخل التركي للأراضي السورية هو أفضل، وفيه مصلحة لموسكو سياسياً، لأن هناك ليونة سياسية بين موسكو وأنقرة ويستطيعان كلاهما أن يتفاوضان عقب إنتهاء العملية العسكرية وتستطيع من خلال هذه المفاوضات أن تسترجع روسيا الأراضي التي سيطرت عليها أنقرة في الداخل السوري وتسلمها للدولة السورية، أما الولايات المتحدة فلم تستطيع موسكو مستقبلاً أن تحصل على ضمانات منها للخروج من المناطق المسيطرة عليها الثانية في مناطق ومدن شرق الفرات، لذلك خطوة الانسحاب الأمريكي جاءت كمكسب قوي لبعض القوى في الميدان السوري خصوصاً في الوقت الحالي بالنسبة لروسيا.
نجاح تركي وسط تفاهم أمريكي_تركي
أعلن نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس في الساعات الأخيرة بعد اجتماع مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه تم الاتفاق على وقف لإطلاق النار في شمال سوريا لمدة خمسة أيام، وأضاف في مؤتمر صحفي بعد الاجتماع مع أردوغان: “تركيا ستوقف العملية العسكرية للسماح بانسحاب وحدات حماية الشعب خلال 120 ساعة”.(7) ومن الجدير بالذكر هنا أن تركيا قامت بتنفيذ ثلاثة عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية لمواجهة الأكراد المرة الأولى كانت عملية “درع الفرات” التي انطلقت في أغسطس/ آب 2016، والمرة الثانية كانت عملية “غصن الزيتون” التي انطلقت في عام 2018. بالإضافة للعملية الأخيرة الحالية في شرق الفرات، ففي العمليتان الأولى والثانية إستطاعت تركيا الحصول على ضوء أخضر روسي لتنفيذ عملياتها على الوحدات الكردية في غرب الفرات وفي العملية الأخيرة إستطاعت أيضاً الحصول على موافقة أمريكية بالإضافة إلى روسيا للدخول إلى شرق الفرات، حيث يوجد سبب واحد يفسر موقف روسيا الإيجابي تجاه العملية التركية على أرض سوريا ، وهي أن روسيا تحاول بكل الطرق كسب الساحة السورية وتفريغها من جميع القوى المناهضة لها، وبالتالي جاء التنسيق التركي – الروسي لهذا السبب كون أن هناك تناغم سياسي بين تركيا وروسيا.
ومن هنا يتضح أن هناك تفاهم واضح بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا فيما يخص العملية العسكرية أو فيما يتعلق بالسياسة التركية في سوريا بشكل عام، فهناك نجاح تركي فيما يتعلق بالوضع الحالي على الساحة السورية، حيث إستطاعت تركيا أن تنفذ أهدافها في الداخل السوري وإبعاد وحدات حماية الشعب الكردي عن الحدود المشتركة للعمق السوري بواقع 32كلم، وذلك وسط تحدي للتنديدات الدولية، والعقوبات الأمريكية التي أعلنت عليها الولايات المتحدة، وعلى الرغم من ذلك هناك حراك تركي حالي لتفادي اي خطوات عكسية من المجتمع الدولي قد تؤثر سلبياً على اقتصادها داخلياً بسبب الحملة العسكرية، ومن هذا المنطلق وافقت تركيا على مقابلة نائب الرئيس الأمريكي وعقد إجتماع معه.
سيناريوهات مستقبلية
من المتوقع أن تكون هناك سيناريوهات محتملة للأوضاع في شرق الفرات وفق لما يلي:
السيناريو الأول: أن تحتفظ تركيا بما حققته من تقدم عسكري في قرى شرق الفرات، وألا تتقدم عسكرياً أكثر من ذلك تفادياً لأية عقوبات دولية سواء من الاتحاد الأوروبي أو من واشنطن، وهو الهدف ذاته الذي جعل تركيا أن تتوقف مؤقتاً عن العمليات العسكرية في شرق الفرات.
السيناريو الثاني: هذا السيناريو مرتبط بتنفيذ الأول منه، وهو بعد هدوء الأوضاع عسكريا في شرق الفرات وينفذ وقف إطلاق النار، ستدخل روسيا وتركيا في مفاوضات مستقبلية لوضع المناطق التي سيطرت عليها تركيا سواء في شرق الفرات أو في غرب الفرات تحت الإدارة السورية، وهو ما صرح به الرئيس التركي أكثر من مرة حيث قال؛ “نريد تسليم الأراضي لأصحابها ولا نريدها لنا”(9) ولكن بشرط وحيد وهو إعطاء ضمانات روسية لأنقرة بأن لا تسيطر وحدات حماية الشعب الكردي والقوات المؤيدة لها على تلك القرى مجددا.
السيناريو الثالث: استخدام المماطلة السياسية من قبل تركيا تجاه كل من دمشق وموسكو، بمعنى عدم تسليم أيً من تلك القرى التي تسيطر عليها تركيا في الشمال السوري لدمشق واستخدام تلك الورقة للمراوغة بها سياسياً في العملية السياسة السورية المستقبلية، عبر الضغط على موسكو لدخول المجموعات المؤيدة لها وهم من جماعة الإخوان المسلمين وغيرها في أي خطوة للعملية السياسية في سوريا.
وبناءً على ما سبق، فإنه ليس من مصلحة الحكومة التركية فتح أي جبهة صراعية عسكرية جديدة، بعد الذي أحرزته حالياً في شرق الفرات، خاصة أن هذا الصراع لن يكون ضد مصالحها الخارجية فحسب، بل ضد توافقه مع الروس أيضاً، ولذلك فإن السيناريو الأول هو الأقرب الى الوضع الحالي.
محمد نبيل البنداري-باحث سياسي مختص في العلاقات الدولية، خاص لوكالة أنباء “رياليست” الروسية.
المصادر:
(1) تركيا تصنف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية، تاريخ الدخول، 17 أكتوبر 2019، الرابط
(2) انسحاب القوات الامريكية من شرق الفرات، تاريخ الدخول، 17 أكتوبر 2019، الرابط
(3) الجيش السوري يتجه مالاص بعد الاتفاق مع الاكراد، تاريخ الدخول، 17 أكتوبر 2019، الرابط
(4) ترامب يهدد تركيا بتدمير اقتصادها اذا تجاوزت الحدود، تاريخ الدخول، 17 أكتوبر 2019 الرابط
(5) الولايات المتحدة ترفض ادانة العملية العسكرية التركية في مجلس الأمن تاريخ الدخول 17 أكتوبر 2019، الرابط
(6) الكونجرس الأمريكي يصوت ضد قرار ترامب “سحب القوات من سوريا”، تاريخ الدخول 17 أكتوبر 2019، الرابط
(7) مايك بنس: اتفقنا مع الرئيس التركي على وقف لأطلاق النار، تاريخ الدخول، 17 أكتوبر 2019، الرابط
(8) الجامعة العربية تدين التدخل التركي في شمال سوريا، تاريخ الدخول، 17 أكتوبر 2019، الرابط
(9) أردوغان نريد تسليم منبج لأصاحبها، تاريخ الدحول، 18 أكتوبر 2019، الرابط