تتعمد الدول المحورية المنخرطة في حروب ونزاعات متعددة حول العالم، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، تكثيف حضورها، سواء على الصعيدين السياسي أو العسكري، تصويباً لمسار الفشل الداخلي في بلادهم، بعدما تعرضوا لعددٍ من الإنتكاسات الداخلية، ليس أولها العمليات الإرهابية، ولا تزوير نتائج انتخابات رئاسية أو تردّي الأوضاع الاقتصادية.
بيئة خصبة
لطالما تميّزت الولايات المتحدة الأمريكية بإفتعال الحروب وتأجيج النزاعات على إمتداد الكرة الأرضية، فإن لم يكن عبر حروب وأعمال عسكرية مباشرة، يأتي ذلك من خلال تضييق الحصار الاقتصادي وفرض عقوبات على الدول المُراد تحطيمها، إذ تقوم بذلك إما بشكل فردي، أو بمساعدة حلفائها المخلصين، في مقدمتهم بريطانيا وفرنسا.
وبالنظر إلى الواقع الحالي عبر إتباع سياسة التطويع والتركيع، وتحطيم دولٍ بعينها، هو أمر حقيقي، إذ تنظر واشنطن إلى الشرق الأوسط، بنظرة دونية، وتعمل على إفراغه إقتصادياً، مستغلة كل النزاعات الحاصلة، ليس أولها ما يحدث في العراق أو لبنان وإيران وسوريا، وليس آخرها ما حدث من ضربٍ للناقلات النفطية في مضيق هرمز ونهب دول الخليج، إذ يكاد لا يوجد دولة في الشرق الأوسط إلا ولواشنطن وجود فيها، فبعد أن حظيت واشنطن بدعم شعبي أمريكي منقطع النظير إبان حرب فيتنام والحرب الباردة، تراجعت شعبيتها ودعم سياستها الخارجية في العشر سنوات الأخيرة، في ضوء تدخلاتها في شؤون البلاد الخارجية.
فعندما تقف واشنطن مع ثورات العالم وتدعم المتظاهرين، حريٌّ بها إلغاء العقوبات عنهم في بادرة حُسن نيّة غير متوفرة لدى كامل الحكومات الأمريكية المتعاقبة، والأجدر بها الاهتمام بقضاياها الداخلية على أن تزعزع إستقرار العالم.
إستعمار متجدد
لا تبدو فرنسا أوفر حظّاً من شريكها الأمريكي، إذ عصفت بفرنسا أزمات داخلية كادت أن تطيح برئيسها الحالي إيمانويل ماكرون على خلفية فرض الضرائب وعدم رفع الحد الأدنى للأجور، الذي أدى إلى ثورة شعبية عارمة أطلقت على نفسها إسم “السترات الصفراء” علها تستطيع التأثير على الحكومة الفرنسية وتغير الواقع المعيشي هناك، فما كان من باريس إلى أن حذت حذو واشنطن وصدّرت أزمتها الداخلية إلى الخارج، فمع سقوط حكم عمر البشير في السودان، كانت فرنسا من أوائل الدول التي أبرمت إتفاقيات مع المسؤولين الجدد في الخرطوم، وتوسعت لأن يحدث صدام مع جارتها إيطاليا حول ليبيا والتنافس فيها.
فلطالما كان الوجود الفرنسي في القارة الأفريقية على شكل إستعمار ومالي خير دليل، لكن كل هذا يحتاج إلى زمن طويل لكي يتحقق، فتوسعت الإدارة الفرنسية بأن تنغمس مع قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن ي سوريا، وأن تعيد نشر 200 جندي فرنسي بعد القضاء على تنظيم داعش، للحصول على مكاسب من سرقة النفط السوري.
فالهروب الفرنسي من الداخل إلى الخارج، كشف زيف إدعاءات الغرب وتغنّيهم بديمقراطية زائفة تجلت بإنفجار شعبي لم يحدث منذ ما بعد الثورة الفرنسية الكبرى.
سلام على هدير الدبابات
بعد أن تربّع الحزب الحاكم التركي لعقود على عرش الإمبراطورية التركية، ونقل تركيا إقتصادياً إلى مستويات متطورة جدا، ما لبث أن هبط هذا الحزب وحدثت فيه نكسات كإستقالة أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية التركي الأسبق، إضافة إلى خسارة الانتخابات المحلية البلدية في أهم المدن التركية الكبرى كإسطنبول وأنقرة وإزمير، وهبوط حاد لليرة التركية، كل هذه العوامل فرضت على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان توسع إمبراطويته إلى خارج الأسوار التركية، فالجميع يعلم ماهية الدور التركي في سوريا والعراق، وليبيا، والعداء مع مصر والإمارات والسعودية، وحتى العلاقات ما بين انقرة وموسكو وواشنطن، هذه التجاذبات دفعت الرئيس أردوغان إلى إعادة إحياء الطورانية سواء مع أذربيجان أو كازاخستان ودول الجوار.
لم يتوقف الأمر هنا، إمتد الهروب من الأزمة الداخلية لأن تعبر البحر المتوسط، الأمر الذي نقل الموضوع إلى الأمم المتحدة بعد الخلاف التركي وشبه جزيرة قبرص، وإعتماد مشاريع مد الغاز سواء مشروع الغاز الجنوبي أو مشروع تاب، أو مشروع تاناب الأخير لإيصال الغاز إلى أوروبا الذي قد يخلق أزمة مع روسيا.
من هنا، إن إعتماد هذه الدول الذهاب خارج دولهم وتنشيط السياسة الخارجية على حساب الوضع الداخلي المتأزم في بعض هذه الدول، قد يخفف من حدة الازمات على المدى المنظور، لكن على المدى البعيد، سيخلق بيئة مؤاتية لخصوم تلك الدول، ولمعارضتها الداخلية، على تغيير واقع الحكم والقطبية المتبعة، كما حدث في الانتخابات التركية المحلية كما أشرنا أعلاه، إذ لا يهم أي شعب في العالم ما يحدث في الشرق الأوسط أو هونغ كونغ، طالما أن الجوع يدق بابه، فالسياسات الخارجية أثبتت فشلها على الرغم من قدرتها على تدمير الدول والإستفادة من ذلك.
فريق عمل “رياليست”