القاهرة – (رياليست عربي): من بين جميع الفرق والمذاهب الشيعية، يعتبر الحشاشون الطائفة الأكثر شهرةً والأوسع صيتًا في التاريخ الإسلامي، ليس لما تركوه من أثرٍ في المذهب الشيعي، لكن لما شكلوه من خطرٍ هدد العالم الإسلامي بأسره، وكاد يُصَّدع الأرض تحت عرش الدولة السلجوقية (1037: 1194م) أعظم إمبراطوريات ذاك العصر وأقواها. فقد اتبع الحشاشون سياسة القتل والاغتيال والإطاحة بكل من عارضهم أو ناهضهم، شأنهم شأن الجماعات الإرهابية في عصرنا الحديث التي تتخذ من الدين الإسلامي البريء منها ستارًا، تُخفِي ورائه أهدافًا خبيثةً وأجندات خارجية.
أسس طائفة الحشاشين الداعي الإسماعيلي “حَسن الصبَّاح”، وظهور هذه الطائفة يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالانقسام الثاني في المذهب الشيعي الاثني عشري الذي يعد أكبر المذاهب الشيعية، وأوسعها انتشارًا في العالم الإسلامي.
الخلفية الدينية
بعد وفاة الإمام “جعفر الصادق”، سادس الأئمة الاثني عشرية، عام ٧٦٥م، انقسم البيت الشيعي إلى فرقتين؛ الأولى رأت أن الإمامة لابن جعفر الصادق الأكبر “إسماعيل المبارك”، وفقًا لوصية أبيه. أما الفرقة الثانية فقد رأت أن الإمامة لأخيه “موسى الكاظم”، لثبوت وفاة المبارك في حياة أبيه. كان هذا الانقسام أول انشقاق يحدث في المذهب الشيعة تبعته انشقاقات أخرى عديدة مع مرور السنوات، قادها أشخاص كحسن الصبَّاح.
كانت الدولة الفاطمية الحاكمة في مصر آنذاك تتبع المذهب الشيعي الإسماعيلي، حيث نسب “عُبيد الله بن الحُسين المهدي”، مؤسس الدولة الفاطمية، نفسه إلى الإمام “إسماعيل المبارك”، وصولًا إلى السيدة “فاطمة الزهراء” ابنة الرسول الكريم (ص)، وعنها اتخذ الفاطميون اسم دولتهم. كما أُطلق عليهم اسم “الدولة العُبيدية” نسبةً إلى مؤسسها. والدولة الفاطمية هي الدولة الشيعية الوحيدة التي حكمت العالم الإسلامي لما يزيد عن قرنين ونصف من الزمان منذ عام ٩٠٩م حتى عام 1171م.
حسن الصبَّاح والدعوة النزارية
ولد “حسن الصبَّاح” في مدينة “الرِيّ” الإيرانية، وتاريخ ميلاده غير معلوم، لكنه كان في منتصف القرن الحادي عشر الهجري تقريبًا، ويرجع نسبه إلى قبيلة “حِمير” اليمنية، حيث قدم أبوه من اليمن إلى الكوفة، ومنها إلى قُم، ومنها إلى الرِي، فاستوطنها.
كان حسن الصبَّاح يتبع المذهب الشيعي الاثني عشري شأنه شأن آبائه وأجداده، وكان في الرِي رجل يُسمى “أُميرة الضرَّاب” يتبع المذهب الإسماعيلي الفاطمي، وكان الاثنان يتناظران في أمور الدين وأحكامه، فيهوِّد الضرَّاب مذهب الصبَّاح، ومع ذلك لم يسلم له الصبَّاح على الرغم من استقرار آراء الضرَّاب في قلبه. في تلك الأثناء، أُصيب الصبَّاح بمرضٍ شديدٍ، فقال في نفسه إن أُميرة على المذهب الحق، فشُفِي مما ألم به من مرض.
وكان من جملة الشيعة الإسماعيلية في رِي أيضًا، رجل يُسمى “أبو نجم السرَّاج”، فذهب إليه الصبَّاح ليتعرف على أصول هذا المذهب، فشرح السرَّاج له أسس المذهب حتى وقف على دقائقه. وكان هناك رجل آخر يُسمى “مؤمن”، منحه “عبد المَلك بن عطَّاش”، داعي المذهب الإسماعيلي في العراق، إجازة القيام بالدعوة، فأراد الصبَّاح أن يأخذ عهد البيعة على يديه، فقال له مؤمن: “إن مرتبتكَ أعلى من مرتبتي؛ فأنتَ حسن، وأنا مؤمن، فكيف آخذُ عليكَ عهدًا؟”، لكن الصباح أخذ منه البيعة بعد إلحاح شديد. لما وصل “ابن عطَّاش” إلى الرِي عام 1071م، أعجب بالصبَّاح، وأمر بأن يتولى نيابة الدعوة، وأشار عليه بوجوب التوجه إلى الخليفة الفاطمي “المستنصر بالله” في مصر.
وصل الصبَّاح مصر عام 1078م، فأقام بها ما يقرب من سنة ونصف، وكان محل مدح وثناء من قبل المستنصر بالله. بعد وفاة الخليفة الفاطمي، كان الصباح يقوم بالدعوة باسم “نزار المصطفي لدين الله” الابن الأكبر للمستنصر بالله، وفقًا لأصول المذهب الإسماعيلي، لكن ظهرت وصية للخليفة، يُوصي فيها بأن تكون الإمامة لابنه الأصغر “المستعلي بالله”. وكان المستعلي متزوجًا من ابنة وزير البلاط الفاطمي أمير الجيوش “بدر الدين الجَمالي” الذي كان يهيمن على مقاليد الحكم، ويعارض إمامة نزار المصطفي.
على هذا النحو تولى المستعلي بالله الخلافة متكئًا على قوة حميه، فأمر بإلقاء القبض على أخيه الأكبر وحبسه، حيث ظل نزار في السجن حتى وافته المنية عام 1095م.
نظرًا لما سبق، نشب الخلاف بين الصبَّاح وبدر الجمالي، لكن الوزير الفاطمي أجبر الصبَّاح على الرحيل من مصر على متن سفينة متوجهة إلى المغرب مع بعض الفرنجة. اشتدت الرياح، وهطلت الأمطار، وهاج البحر أثناء الرحلة، وكادت السفينة أن تغرق، لكنها نجت بركابها، ورست على شواطئ الشام، فحط الصبَّاح رحاله هناك، ومنها توجه إلى حلب ثم إصفهان، حيث بدأ دعوة جديدة في جميع أنحاء إيران، يدعو فيها إلى إمامة “نزار بن المستنصر”. وقد حملت هذه الدعوة أسماء عِدَّة؛ الحشاشون، الدعوة الجديدة (الإسماعيلية النزارية)، الباطنية. وسنقوم بتفصيل هذه المسميات وشرحها في حينه.
قلعة آلَمُوت
راحت الدعوة النزارية تنتشر في ربوع إيران ونواحيها، وبات حسن الصبَّاح يشكل تهديدًا خطيرًا على الدولة السلجوقية، لذا كلف السلطان السلجوقي “مَلك شاه” وزيره “نظام المُلك الطوسي” بملاحقة الصبَّاح، فوجد الأخير أن حياته وحياة أتباعه باتتا في خطرٍ داهمٍ، وأن المصلحة تقتضي البحث عن مكان حصين يحتمي به، وينشر دعوته، فوجد ضَالَّته في قلعة “آلَمُوت” المنيعة الواقعة وسط سلسلة جبال “ألبُرز” في منطقة تحمل الاسم نفسه بقزوين.
وليس من المعلوم مَن قام بتشييد هذه القلعة، لكن قيل إن أحد الملوك الديالة قد أمر بتشييدها لنفسه. و”آلَمُوت (إله مود)” باللغة الفارسية تعني (عش العُقاب). وقيل أيضًا إنها تعني “العُقاب المُلِقن أو المُعلِم: آلوه آمُوت (آموخت)”، لأن هذا المكان هو موضع الماء الذي وصفه العُقاب لأحد الملوك القدامى.
كانت هذه القلعة تقع فوق ربوة عالية يصل ارتفاعها ٢١٦٣ مترًا عن سطح البحر، و٢٠٠ متر عن سطح الأرض، وتبلغ مساحتها ٢٠ ألف متر مربع. ويقول عنها المؤرخ الإيراني “عطا مَلك الجويني” في كتابه الشهير (تاريخ فاتح العالم: تاريخ جهانگُشای) إن قلعة آلَمُوت تُشبه الناقة الراقدة فوق الجبل.
والربوة التي بُنيت عليها القلعة، شديدة الانحدار، ولها جروف عميقة وخطيرة وصعبة الوصول، وتشكل جزءًا من تحصينات القلعة الطبيعية، وتمتاز الصخور المحيطة بها باللونين الأحمر والرمادي.
وكانت قلعة آلَمُوت تعتبر حصن حسن الصبَّاح وجماعته المنيع، نظرًا لما تتمتع به من تحصينات قوية، وما يحيط بها من تضاريس وعرة، حالت دون الوصول إليها.
الصعود إلى آلَمُوت
أرسل حسن الصبَّاح جماعةً من أتباعه يدعون إلى المذهب الإسماعيلي النزاري في قلعة آلَمُوت، وكان يتولى حُكمها من قبل السلطان السلجوقي رجل يُدعى “علوي المهدي”، فقبل دعوتهم، ثم دعوا بدورهم المهدي، فتظاهر بالقبول متبعًا الحيلة، حيث أنزل من القلعة كل من قبل الدعوة، وأغلق دونهم بابها، وبعد نقاش طويل سمح لهم بالدخول ثانية، فلم يقبلوا النزول من القلعة بمقتضى طلبه. بعد ذلك توجه الصبَّاح إلى منطقة “أَندَج رود” المتاخمة لآلَمُوت، فأقام بها فترة من الوقت، استطاع خلاله أن يوقع الكثير من أهالي هذه المنطقة في حبائله، فقبلوا دعوته، وحملوه إلى قلعة آلَمُوت مساء يوم الأربعاء التاسع من سبتمبر عام 1090م.
منذ ذلك اليوم، لم ينزل الصبَّاح من القلعة مطلقًا، حيث مكث في فيها قرابة 35 عامًا حتى وافته المنية عام 1124م، ودفن بها، يعكف على مطالعة الكتب، ويقرر أسس الدعوة، ويخطط لانتشارها وتمددها في بلاد فارس.
بعد صعود الصبَّاح إلى القلعة بقي متخفيًا فترة من الوقت، وسمى نفسه “دِهخُدا” أي “رب القلعة”، فلما اطلع المهدي على أمره، ووجد أنه عاجز عن مواجهته، تركه الصبَّاح يرحل عن القلعة، وحرر له سكًا بثلاثة آلاف دينار ذهبي ثمنًا لها.
تأسيس فرقة الفداوية
كان حسن الصبَّاح يبذل قصارى جهده في سبيل السيطرة على النواحي المتاخمة لآلَمُوت والمواضع القريبة منها، وكان يتسلم بيسرٍ كل مكان يقبل دعوته، أما من يرفض، فكان يستولي عليه بالحرب والقتل والسلب والنهب. كما كان يستولي على كل ما يستطيع من قلاع، وحيثما يجد منطقة صخرية تصلح للبناء، أقام عليها قلعة.
لما استفحل أمر الصبَّاح وكثر أتباعه، شرع السلطان السلجوقي “مَلك شاه” في شن حملات على قلعة آلَمُوت كي يستأصل شأفة الصبَّاح وجماعته، لكن هذه الحملات آلت بالفشل على الرغم من أنها كانت حامية الوطيس، وكادت تقضي على الصبَّاح أكثر من مرة.
وقد عمل الصبَّاح على التخلص من مناهضي دعوته، وكل من يحول دون انتشارها بشكل نهائي، وفي سبيل تحقيق هذا الأمر، أسس فرقة “الفداوية” أو “الفدائيين” التي تولت اغتيال كل من يناصب جماعة الصبَّاح العداء، وكان الوزير “نظام المُلك”، أشهر وزراء الدولة السلجوقية، أول ضحايا هذه الفرقة، حيث قُتل على يد شخص يُدعى “أبو طاهر الأراني” عام 1092م. وقد هدف الصبَّاح من اغتيال نظام المُلك إضفاء هالة من القوة والرهبة على جماعته، نظرًا لما يتمتع به هذا الرجل من مكانة رفيعة ونفوذ كبير في الدولة السلجوقية. عقب مقتل نظام المُلك، قامت فرقة الفداوية باغتيال عدد كبير من أعلام ذلك الزمان ومشاهيره، وغدا القتل نهج الصبَّاح في التعامل مع معارضيه.
على هذا النحو أسس حسن الصبَّاح “دولة الإسماعيلية”، متخذًا من القلاع الحصينة في بلاد فارس والشام نقاط تمركز لها، وهو ما جعل الهجوم عليها أمرًا عسيرًا. استمر الدولة الإسماعيلية قرابة قرنين من الزمان (1090: 1273م) إلى أن تمكن القائد المغولي “هولاكو” من اقتحام قلعة آلَمُوت عام ١٢٥٦م في أعقاب غزو إيران، وأمر بتدميرها وإحراقها.
طوال هذه السنوات ظل جزء من أسوار قلعة آلَمُوت قائمًا، لكن في عام ٢٠٠٤ وقع زلزال عنيف أسقط ما تبقى من أسوار القلعة، ومع ذلك لا تزال هناك آثار باقية منها حتى الآن، حيث تعتبر إحدى المقاصد السياحية التاريخية المهمة في محافظة قزوين.
أما عن قلاع الإسماعيلية في بلاد الشام فقد سقطت الواحدة تلو الأخرى على يد أول سلاطين دولة المماليك البحرية “الظاهر بيبرس البُندُقدارِي (1223: 1277م)”، وكان من أهمهم قلعة “مَصياف” معقل هذه الفرقة في حلب.
المصطلحات الثلاثة: الحشاشون، الدعوة الجديدة، الباطنية
يُشار إلى جماعة حسن الصبَّاح بعدة أسماء؛ الحشاشون، الدعوة الجديدة، الباطنية، وفيما يلي شرح لها:
الحشاشون
ثَمَّة اختلاف كبير حول أصل مصطلح “الحشاشين”، والتصاقه بجماعة حسن الصبَّاح، فإلى جانب المعنى العربي الواضح والصريح والمباشر أي “متعاطي الحشيش”، تُرادف كلمة “حشاشين” في اللغة الفارسية القديمة “بائعي الدواء”، ففي منطقة آلَمُوت كانت تنمو عُشبةً علاجيةً يقوم قاطنو قلعتها بتصديرها والمتاجرة بها، لذا أُطلق عليهم “الحشاشون”.
ومصطلح “حشاشين” لم يرد ذكره مطلقًا في المصادر الأوروبية، فقد لقب مؤرخو “الحروب السلجوقية البيزنطية (1046: 1243م)” أتباع “حسن الصبَّاح” بـ “القتلة” Assassins، لأنهم شكلوا فرقة “الفداوية” التي تولت اغتيال مناهضي الجماعة في مناطق تمركزها ببلاد فارس والشام. أما الروايات المتواترة والمنقول أغلبها عن كتاب “رحلات ماركو بولو” The Travels of Marco Polo، ففضلًا عما بها من مبالغات لا يصدقها عقل، فهي عارية تمامًا من الصحة لسبب بسيط. لقد دمر هولاكو قلعة آلَمُوت عام ١٢٥٦م، والرَحَّالة الإيطالي “ماركو بولو” ولد عام ١٢٥٤م، أي قبل تدمير القلعة بسنتين، فكيف تسنى له زيارتها وهو طفل رضيع ووصفها هذا الوصف الدقيق، متحدثًا عن قصور وجداول تفيض خمرًا وعسلًا، وفتيات حِسان يغنين ويرقصن ويعزفن الموسيقى، وشيخ الجبل (حسن الصبَّاح) يخدر أتباعه بالحشيش، واهمًا إياهم بأنهم في الفردوس الأعلى من أجل السيطرة عليهم وإذعانهم لأوامره؟
وإذا أتينا إلى المصادر الفارسية، وهي الأكثر دقةً وثقةً وتزامنًا مع زمن الصبَّاح وسقوط قلعة آلَمُوت، سنجد أنها لم تصف هذه الجماعة بالحشاشين، بل كانت تطلق عليها “الإسماعيلية النزارية” و”الملاحدة”. ومرجعنا في هذا الأمر كتابان؛ أولهما وأهمهما كتاب “تاريخ فاتح العالم” للمؤرخ “عطا مَلك الجويني” الذي صاحب هولاكو خلال غزو إيران واقتحام قلعة آلَمُوت. وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أن الجويني نقل فيه جزءًا كبيرًا من سيرة الصبَّاح وأفكاره وعقائده وتاريخ جماعته كما دونها صاحبها، وذلك بعدما استسمح هولاكو بألا يحرق مكتبة آلَمُوت كلها، والإبقاء على بعض منها للتأريخ. أما الكتاب الثاني فهو “جامع التواريخ” للمؤرخ والطبيب “رشيد الدين الهمداني” الذي يعد وثيقة مهمة لتاريخ المغول منذ عصر “جنكيز خان” حتى “غازان خان”.
أما المصادر العربية، فقد أشار الخليفة الفاطمي “الآمر بأحكام الله” إلى “الإسماعيلية النزارية” في رسالةٍ كتبها عام ١١٢٣م إلى إسماعيليِّ الشام، باسم “الحشيشية” مرتين، لكن دون تقديم سبب واضح. كما ذكر الأديب والمؤرخ “عماد الدين الإصفهاني” في كتابه “نُصرةُ الفَترة وعُصرةُ الفِطرة” الذي دونه عام ١١٨٣، ويعد من أهم مصادر التاريخ السلجوقي، “الإسماعيلية النزارية” باسم “الحشيشية” دون ذكر السبب أيضًا، إلى جانب اسمي “الباطنية” و”الملاحدة”.
على أية حال إذا فرضنا فرضية استنتاجية لما سلف ذكره، يمكننا أن نقول؛ ربما تحولت الكلمة الإنجليزية “أساسيان” Assassins في المراجع الأوروبية إلى كلمة “حشاشين” في المراجع العربية أثناء التعريب والترجمة. ومن ناحية أخرى، ما دامت عُشبة الحشيش (العلاجية) كانت تنمو في منطقة آلَمُوت، فلا يُستبعد أن جماعة الصبَّاح أو بعضًا من أفرادها كانوا يتعاطون العُشبة المخدرة، فالتصق بهم الاسم.
الدعوة الجديدة والباطنية
مصطلح “الدعوة الجديدة” يُقصد به “الدعوة النزارية” التي دعا إليها حسن الصبَّاح بعيدًا عن المذهب الإسماعيلي. أما مصطلح “الباطنية” فيُقصد به تأويل النص، حيث يرى معتنقو هذا الفكر أن النص الديني له معنيان؛ الأول ظاهر يدركه العامة، والآخر باطن يدركه الخاصة المصطفون من قبل الله. وفي المعنى العام يُظهِر الباطني عكس ما يُعلِن. على الرغم من أن الباطنية تندرج تحتها فرق ومذاهب عِدَّة، لكن المُسمى يُشير في مقامه الأول إلى “المذهب الإسماعيلي”.
ويذكر أتباع المذهب الإسماعيلي أن الصبَّاح أحدث تغييرًا كبيرًا في مبادئ الدعوة، جعلتهم يطلقون عليها من بعده اسم “الدعوة الجديدة”، حيث كان المتقدمون منهم قد أسسوا مذهبهم على تأويل التنزيل خاصة الآيات المتشابهات والاستنتاجات الغريبة من معاني الأخبار والأثار، وما شاكل ذلك. وكانوا يقولون إن كل تنزيل له تأويل، وكل ظاهر له باطن، لكن الصبَّاح فتح باب التعليم والتعلم على مصراعيه، وقال: (إن معرفة الله لا تكون بالعقل والنظر، بل بتعاليم الإمام، لأن أكثر الخلق في العالم عقلاء، وكل شخص له نظرة في طريق الدين، فلو كان نظر العقل كافيًا لمعرفة الله، لما اعترض أهل مذهب من المذاهب على غيرهم، وكان الجميع متساوين، لأن كل الناس متدينون بنظر العقل، غير أن سبيل الاعتراض والإنكار مفتوح، ويحتاج البعض إلى تقليد البعض الآخر، وهذا هو مذهب التعليم، يُبيِّن أن العقل غير كاف، بل ينبغي وجود إمام بتعاليمه يتعلم الناس في كل عصر ويتدينون).
الصبَّاح والعقيدة الشيعية
بسبب تدمير قلعة آلَمُوت وإحراق مكتبتها، والعمل على طمس تاريخ جماعة الحشاشين لما شكلته من تهديد كبير على العالم الاسلامي في تلك الفترة، أُضفى منحى أسطوري على “حسن الصبَّاح”، وخُلقت حوله روايات خرافية يستحيل تصديقها، لكن ما نستطيع قوله إن الصبَّاح كان شخصية كاريزمية، استطاع التأثير على الناس باسم الدين، ونُصرة الحق، ومجابهة الظلم، وهو لا يختلف كثيرًا عن أقرانه من المتاجرين بالدين في العصور المتقدمة أو المتأخرة. مَن أيَّده جعل منه عَالِمًا دينيًا وصاحب كرامات وباحثًا عن الحق، ومن عارضه جعل منه شيطانًا متجسدًا في هيئة فقيه.
والحقيقة أن إثارة المظلومية وعودة الإمام الغائب (المهدي المنتظر) كانت أساس الدعوة النزارية التي تزعمها حسن الصبَّاح، وهي نفسها جوهر العقيدة الشيعية. الزمان لا يخل من إمام حتى لو غاب، فهناك دائمًا نواب، والشيعة أصحاب مظالم على مر الزمان، فقد سُلب منهم الحق في الولاية بعد وفاة الرسول، وتكرر الأمر فيما بعد على مدار العصور التاريخية منذ نشأة التشيع حتى اليوم. هذه الفكرة بلورها الخُميني حينما قال: (إذا نهض فقيهٌ، عَالِمٌ، عادلٌ بأمر تشكيل الحكومة، فإنه يتولى من أمور المجتمع ما كان يتولاه النبي محمد، ووجب على الناس أن يستمعوا إليه، ويطيعوا أوامره). على هذا النحو يكون الخُميني قد رفع نفسه، ومَن يأتون بعده إلى مرتبة الرسول والأئمة المعصومين. هذه الفكرة كانت العامل الرئيس في التفاف الناس حول الخُميني وقيام الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر