بعد مرور الذكرى الثلاثين لإعلان مشروع البيريسترويكا، قال ميخائيل غورباتشوف: ” إن دولا تحاول أن تهيمن على العالم على نحو انفرادي مثل الولايات المتحدة الأمريكية، تحتاج الى عملية بيريسترويكا لإصلاح أوضاعها وللحد من هذه المحاولات”.
تغيرات جيوسياسية
صادفت هذه التصريحات المثيرة فترة الرئيس الأمريكي أوباما الذي انطلقت حكومته في مغامرات جيوسياسية خطيرة مثل خلق ودعم ثورات في العالم تهدف إلى زرع الفوضى وبوادر التقسيم في مناطق عدة، بعضها يعد ضمن نفوذ روسيا في حدودها الجغرافية مثل الثورة الأوكرانية (أزمة القرم 2014) وأخرى في مناطق نفوذها البعيدة كأمريكا اللاتينية، حيث خرجت الحشود في فنزويلا ضد هوغو تشافيز بشكل متزامن مع احتجاجات أوكرانيا، وكذلك اضطرار كوبا العنيدة بعدها إلى تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد ما يفوق الخمسين عاما من الحصار الأمريكي الخانق. وقبل هذه المناطق كانت الثورات انطلقت في العديد من الدول العربية التي لها علاقات استراتيجية مع روسيا وعلى رأسها سوريا.
عروض مغرية
يبدو أن كلمات غورباتشوف ضد هذا التوحش الجيوسياسي الأمريكي كانت مقدمة لمخطط روسي يشبه ما قامت الولايات المتحدة الأمريكية قبيل نهاية الحرب الباردة عن طريق إغرائها لغورباتشوف بالقيام بإصلاحات مهدت لتفكيك منظومة الاتحاد السوفياتي بضمان عدم ضم دول حلف وارسو إلى حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، وما إن إنهار الاتحاد السوفياتي حتى بدأ الناتو في استقطاب دول أوروبا الشرقية لضمها لحلف الناتو عبر عروض مغرية.
هل تنهار الولايات المتحدة؟
إن ما يقوم به ترامب اليوم من إصلاحات هيكلية داخلية وترشيد لنفقات الحروب الأمريكية خارج الحدود وتحجيم للنفوذ الأمريكي في الخارج بإيعاز وتنسيق روسي يمكن اعتباره بمثابة عملية “بيريسترويكا” معاكسة تشبه إلى حد كبير عملية الهيكلة التي قام بها غورباتشوف وكانت وبالا على الاتحاد السوفياتي وأدت إلى انهياره وتفككه دون تحقق الإصلاح الذي أغرته به الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها. وقد كشف خصوم ترامب عدة علامات تشير إلى وجود علاقات مريبة وقديمة تعود لسبعينيات القرن الماضي بين الروس وبين ترامب الذي حاولت استخبارات الاتحاد السوفياتي (ك جي بي) تجنيده ويقال بحسب تقارير أنها استمرت إلى أن تكللت بإيصاله إلى الحكم عبر ما يعرف بقضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب.
إحياء مبدأ مونرو
اتخذ ترامب منذ قدومه للبيت الأبيض قرارات جريئة عطلت مشروع الشرق الأوسط الكبير وألجمت طموحات المحافظين الجدد وهم الخصوم التقليديين لروسيا والذين استغلوا نفوذهم السياسي داخل الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق مخططاتهم عبر تحويلها إلى دولة تمارس حروبا بالوكالة عن لوبيّات المال والمركب الصناعي العسكري. من أهم تلك القرارات إعادة “مبدأ مونرو” للسياسات الخارجية الأمريكية بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وانطلاقا من ذلك اتخذ عدة إجراءات مثل:
1-إعلانه الرغبة في إيقاف الحرب في أفغانستان.
2-إخراج الجيش الأمريكي من سوريا.
3-مهاجمته لغزو العراق 2003 وتقويضه لمشروع بايدن لتقسيم العراق.
4-ختم تلك الإجراءات بطرده لعاشق الحروب جون بولتون من منصبه كمستشار للأمن القومي والذي كان يحرض على الحرب ضد إيران.
لكن أخطر التغييرات التي قام بها على الإطلاق هي إيقافه لدعم الانفصاليين (الأكراد مثلا) والثوار فيما يعرف في المصطلح الجيوسياسي الإمريكي بـ”الشرق الأوسط” وكذلك إحراجه للاستخبارات الأمريكية بتعقبه لإرهابيي داعش وقتله لزعيمهم البغدادي. وكلهم أدوات استخباراتية استخدمت لتقسيم الدول وإدخالها في “فوضى خلاقة” تحقق مخطط المحافظين الجدد خصوم الروس التقليديين.
نهج خطير
إن تلك الإصلاحات الخارجية التي توقف سلوك أمريكا التوسعي كانت مصحوبة بسياسات داخلية ترفع شعارات يمينية متقوقعة على الذات مثل الأولوية للوطن ومعادات الأجانب والمهاجرين، والتي تهدد مقومات بنية الولايات المتحدة الأمريكية المبنية تاريخيا على الهجرة وتجعلها تنعزل تدريجيا وتفقد التناغم بين الولايات وهو ما سيغري بعض الولايات المتذمرة من سياساته بالانفصال عن السلطة الفيدرالية المركزية
كلها عوامل تجعل من سياسات ترامب فاصلا بين ماضي “الإمبراطورية الأمريكية” مترامية النفوذ وبين أمريكا الدولة التي تنكفئ على ذاتها معرضة للتفكك تاركة المجال لقوى أخرى مثل روسيا لتوسع أدوارها على حساب انهيار القطب الأمريكي الأوحد، وترد الصفعة التي تلقتها أيام غورباتشوف.
أمين صوصي علوي- باحث في مجال البروباجندا، خاص لوكالة “رياليست” الروسية.