باريس – (رياليست عربي): تحفل الجمهورية الفرنسية في الـ 14 من شهر يوليو من كل عام بذكرى اندلاع الشرارة الأولى للثورة الفرنسية والتي استمرت ما يزيد عن 10 أعوام متصلة حتى وضعت أوزارها في التاسع من شهر نوفمبر من عام 1799.
هذا اليوم هو العيد الوطني لفرنسا، حيث يتم الاحتفال به، ويشمل على الفقرة الرئيسية والمهمة بعرض عسكري مهيب في ميدان النصر، وباحة الشانزليزيه الشهيرة، يُدعى إلى حضوره كبار قادة العالم.
وهو احتفال رسمي وشعبي ينتظره الجميع، ويحرص السياح على حضور ومشاهدة فقرات العرض، التي تبدأ في الصباح الباكر وتنتهي بعد الظهيرة بقليل.
وتحل الذكرى الـ 34 بعد المائتين، في ظل ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية استثنائية، خاصة بعد أحداث الشغب والحرائق والاعتداء على المحال والممتلكات العامة والخاصة وقوات الشرطة والأمن من قبل المتظاهرين في باريس والمدن الكبرى مثل مدينة ليون “العاصمة الاقتصادية” ومدينة مارسيليا الساحلية علي البحر المتوسط “وهي الميناء البحري الرئيس” وذلك عقب قيام شرطي بمقتل مراهق يبلغ من العمر 17 عاماً، وهي تلك الأحداث التي ألقت بظلالها على فرنسا قيادة وشعباً.
وعقب حالة الهدوء التي تشهدها البلاد حالياً، وبعد حلقات النقاش والمجادلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خلال الأيام الماضية “يطرح سؤال مهم، هل هي حالة هدوء تسبق العاصفة؟” أم أنها كالأحداث السابقة تحدث مظاهرات واضرابات وتشابك بين قوات الأمن وتعدي وتكسير وحرائق، ومن ثم تهدأ وتنتهي الأمور!
وتحضرني الذاكرة أنه عند قدومي للعمل بفرنسا، قال لي أحد الزملاء المغاربة، إن فرنسا بلدٍ المظاهرات والإضرابات، حيث بين الحين والآخر يحضر إلى مقر العمل متأخراً، بسبب إضراب عمال النقل والمواصلات، وهي سمة اعتاد عليها المواطن الفرنسي، وتأقلم معها.
هل هي مشكلة مهاجرين؟ أم مشكلة سياسية واقتصادية واجتماعية؟
المهاجرون واللاجئون
لقد هدأت حدة المظاهرات كثيراً، وتلاشت، ولكن ماذا بعد؟ والإجابة هي:
- خسائر مادية كبيرة للمحال والمتاجر وحرق لوسائل نقل عامة وخاصة السيارات، حافلات، ترام واي، دراجات، والتي قدرت بمبالغ ضخمة، وكما أعلن ستلتزم الدولة وشركات التأمين بصرف تعويضات مالية عن كافة تلك الخسائر.
- قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تشكيل لجنة تقصي حقائق لتحديد جزور المشكلة والأسباب التي أدت اليها، ووضع السبل والسياسات الكفيلة بتجنب تلك الأزمات مستقبلاً.
- بناءً على البيانات الرسمية وتصريحات السيد وزير الداخلية الفرنسي، بلغت أعداد من تم القبض عليهم أكثر من ألفين مواطن فرنسي منهم حوالي ما يقرب من 80 فرد لا يحملون أوراق رسميةً وسيتم ترحيلهم الي بلادهم فور انتهاء التحقيقات.
وأهم ما جاء في تلك البيانات أعمار هؤلاء الذين تم توقيفهم، حيث تتراوح أعمارهم بين 12-18 عاماً، أغلبهم ولدوا في فرنسا من آباء مهاجرين معظمهم من دول المغرب العربي، وخاصة الجرائر.
وهذا يؤكد أن الجيل الثالث والرابع من المهاجرين، لديه غضب وتذمر ضد الدولة الفرنسية، فهل هو ناتج عن الأوضاع والأحوال والظروف المعيشية ومشاعر التفرقة التي تحيط بهم، أم أنها نتيجة توارث تلك المشاعر العدائية والعنيفة من الآباء والأجداد؟ ولكن من الملموس والواضح للجميع أن تلك المشاعر العدائية تزداد يوماً بعد يوم، ومع الأجيال القادمة “مكمن الخطورة”.
(الفتى الذي قتله الشرطي، فرنسي من أصول جزائرية)، والباقي من أصول إفريقية وأخرى.
الأوضاع الداخلية والاقتصادية
عزا كثير من المحللين والباحثين، اندلاع تلك الأحداث الدامية، إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها سكان الضواحي خارج إطار العاصمة الفرنسية باريس، وأيضاً قاطني الأحياء السكنية الفقيرة والتي بها أعداد كبيرة من المهاجرين واللاجئين “وفقاً للبيانات الرسمية تبلغ نسبتهم حوالي 10% من إجمالي عدد السكان الإجمالي والذي يبلغ ما يقرب من 75 مليون”.
ومعاناتهم من التهميش والبطالة والعنصرية والاضطهاد الاجتماعي والأمني والعنف من قبل رجال الشرطة، وظروف اقتصادية ومادية صعبة للغاية.
الجانب السياسي
شهدت الحياة السياسية أغلبية ومعارضة، اشتراكية وسط ويمين وأقصى اليمين، حالة من النقاش الحاد، للاستفادة من تلك الأحداث، والتي تناولت عدة جوانب متنوعة، ولكنها مهمة للغاية، حيث عزا هؤلاء إلى أن أسباب تلك الأحداث هي:
أولاً، قانون 2017 والمعرف بقانون كازينوف “وزير الداخلية ورئيس الوزراء السابق” والذي يمنح لرجل الأمن الحق في إطلاق النار في حال عدم امتثال المشتبه فيهم للتعليمات، بالمناسبة فقد قابلت، كازينوف، بعد خروجه من منصبه يتسوق كفرد عادي دون أية حراسة أمنية او خلافه، ويحمل كيساً من البلاستيك لحمل مشترياته، كأي موطن عادي، وهو السائد في غالبية النظم الديموقراطية الحقيقية المحترمة.
ثانياً، البعض يحمّل الجزائريين، ولبعض من السياسيين بالجزائر، باستغلال تلك الحادثة.
- قيام السلطات الفرنسية بإعداد مشروع إلغاء اتفاقية عام 1968، والتي تمنح المواطن الجزائري مزايا كبيرة في الإقامة والعمل، وحرية التنقل والسفر.
- الضغط على القيادة الفرنسية للاعتراف بارتكاب فرنسا جرائم إبادة جماعية إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر.
- أشار مراسل لقناة إخبارية شهيرة إلى معانة أبناءً دول المغرب العربي، من البطالة بسبب الاضطهاد والتمييز العنصري، وضرب مثال على ذلك، بان مواطن فرنسي من أصول جزائرية، رغم حملة شهادات دراسية متميزة، كان يستبعد من الوظائف بسبب أنه يحمل اسم عربي، وعندما قام بتغير اسمه لاسم أوروبي، تم تعينه، بل وتهافت الشركات على استقطابه، وقد أعلن هذا الشخص أنه هو ذات الشخص الذي سبق لهذه الشركات رفض تعينه، وذلك كما جاء برواية مراسل القناة الإخبارية الشهيرة.
كما أفاد بعض السياسيين أن القادة السياسيين الجزائريين دأبوا على مخاطبة الفرنسيين من أصول جزائرية على أنهم مواطنون جزائريون وعدم الاكتراث والانتباه بأنهم يحملون الهوية الفرنسية ويعيشون ويعملون على الأراضي الفرنسية، وهم أولاً واخيراً مواطنون فرنسيون، وعليهم فهم واحترام ذلك.
الغضب المكتوم بين القيادة الجزائرية الحالية بقيادة الرئيس تبون ضد القيادة الفرنسية الحالية بزعامة ماكرون والاختلاف حول قضايا مهمة، أهمها عدم وضوع الموقف الفرنسي من قضية النزاع الجزائري مع المملكة المغربية بخصوص الصحراء والبوليساريو، وخاصة بعد تأييد الإدارة الأمريكية ثناء الرئيس السابق دونالد ترامب بالاعتراف بحقوق المغرب وتأييد حقوقها في قضية الصحراء، بعد توقعيها اتفاقيات ومعاهدات أبراهام مع إسرائيل.
كما أن هدوء الأحداث الآن، هو هدوء حذر، قد يشتعل في أي وقت ودون سابق إنذار، والكل ينتظر محاكمة الشرطي الذي تسبب في قتل الفتى نائل، والذي وجه له المدعي العام الفرنسي “محامي الشعب” اتهام بالقتل العمد، فإذا حدث وأن اصدرت المحكمة حكم مخفف أو تبرئته “احتمال وارد” فهناك احتمال كبير لاشتعال الموقف وعودة أعمال عنف جديدة بل وأشد، كما افاد بعض المحللين.
وقد قام بعض السياسيين المتشددين، إلى حد وصف تلك الأحداث بأنها حرب أهلية guerre civil بسبب أنها بين أبناء الوطن الواحد “رجال الأمن والمواطنين”، وهنا مكمن الخطورة، أن بعض السياسيين وللأسف يستغلون تلك الأحداث للعب بالنار، واستغلال العواطف والشاعر الوطنية والإنسانية لدى المتشددين، وتأجيجها ضد المهاجرين واللاجئين والأجانب.
وبصرف النظر عن كافة هذه الآراء أو تلك الأسباب، بين مؤيد ومعارض، مع أو ضد، سواء: سياسية، اقتصادية، اجتماعية أو غيرها، فإن لم تعالج جذور مشكلة المهاجرين من قبل الطرفين “مهاجرين ومسؤولين”، فعلى المهاجرين احترام النظام والقانون بدول المهجر، والاندماج بفاعلية وتأثير إيجابي، والبعد عن نغمة الاضطهاد والعنصرية ” فقد تكون مضطهد عنصرياً في بلدك الأم أيضاً”، وعلى المسؤولين في دول مستقبلي المهاجرين، تحسين ظروفهم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، يساعدهم على الاندماج والشعور بالأمن والاستقرار “المهاجرين واللاجئين في كل مكان”، مواطن اليوم قد يصبح لاجئ أو مهاجر غداً، كلنا شركاء في الإنسانية وكوكب واحد، مع الأوضاع والأزمات والصراعات النزاعات المسلحة في مناطق كثيرة من العالم، وخاصة وأن الصراع الروسي الأوكراني يزداد حدة يوم بعد آخر في ظل الأحداث المتسارعة، وإصرار حلف الناتو على مد الجانب الأوكراني بأنواع أسلحة حديثة تعتبرها روسيا بمثابة دخول الخلف وأعضائه الحرب ضدها، وأن العالم على وشك حرب عالمية ثالثة، كما جاء على لسان بعض القادة السياسيين والعسكريين الروس .
فهي مسؤولية مشتركة بيننا جميعاً، فالأمن والسلم والاستقرار الوطني، ينتشر ويعم كالأواني المستطرقة لينعم بها الجميع، والعكس صحيح.
وإذا لم ننتبه جميعاً، لهذه المخاطر التي تزداد وتنمو في اماكن متفرقة حول العالم، ومأساة الغواصة تيتان عبرة ودرس لنا جميعاً، رغم العلم والتقدم التكنولوجي الفريد والأخذ بالأسباب، تلاشت في ثواني هي ومن عليها.
خاص وكالة رياليست – د. خالد عمر – فرنسا.