بغداد – (رياليست عربي): في لحظة إقليمية حافلة بالتقلبات، عاد الملف السوري إلى واجهة الأحداث الدولية، لكن هذه المرة من بوابة الاقتصاد لا السلاح. فزيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية في مايو 2025 حملت بين طيّاتها إعلانًا غير مسبوق: البدء برفع تدريجي للعقوبات الأميركية عن سوريا، كجزء من حزمة تحولات استراتيجية في الشرق الأوسط. هذه الزيارة – التي وُصفت بأنها “أكثر تحررًا من السقوف السابقة” – لم تكن مجرد محطة بروتوكولية، بل شكلت نقطة تحوّل في النظرة الغربية للملف السوري، بعد سنوات من الحصار والعزلة.
إن رفع العقوبات، بحسب ما تسرّب من تفاصيل اللقاءات بين واشنطن والرياض، جاء ضمن تصور أوسع “لتهدئة الجبهات الساخنة” في المنطقة وإعادة رسم خارطة النفوذ بطريقة تُضعف إيران دون إغراق سوريا في فوضى مفتوحة. الرئيس ترامب صرّح بأن “العقوبات الاقتصادية لم تُسقط النظام لكنها دمّرت المجتمع”، مشيرًا إلى أن الوقت قد حان لـ”نهج جديد” يسمح بعودة الاستثمار والتمويل مقابل ضمانات إقليمية بالتوازن الأمني وتخفيف الارتباط بمحور طهران.
هذا التحول الأميركي لم يأت من فراغ؛ إذ تزامن مع مؤشرات داخلية في سوريا تشير إلى نية الحكومة إطلاق ورشة إصلاحات اقتصادية، منها تعديل قوانين الاستثمار، وتشجيع رجال الأعمال في الخارج على العودة، وفتح قنوات مع حلفاء جدد كالصين والإمارات. غير أن هذا الانفتاح المرتقب يثير تساؤلات جوهرية: هل نحن أمام فرصة حقيقية لإنعاش سوريا؟ أم أن هذا “الانفتاح الموجّه” هو مجرد غلاف جديد لإعادة إنتاج السيطرة والنفوذ؟
الفرص: مساحات اقتصادية للتنفس ومداخل لإعادة التوازن
أبرز ما يحمله رفع العقوبات عن سوريا هو العودة المحتملة إلى دورة الاقتصاد الإقليمي والدولي. فطيلة السنوات الماضية، كانت العقوبات تشلّ حركة الاستيراد، وتمنع الشركات من التعامل مع السوق السوري، وتحاصر التحويلات المالية، مما عمّق الانهيار الاقتصادي. الآن، هناك أربع فرص رئيسية تظهر في الأفق:
أولاً، استعادة النشاط التجاري والاستثماري: ستفتح الشركات الخليجية والأوروبية قنوات جديدة للاستثمار في مجالات الطاقة، البنى التحتية، الزراعة، والخدمات اللوجستية. وستكون السوق السورية، رغم تدهورها، بيئة واعدة للاستثمارات ذات العائد السريع.
ثانياً، تحرير القطاع المصرفي والتجاري: بإعادة ربط المصارف السورية بالأنظمة المالية الدولية، سيكون بالإمكان تحويل الأموال، تمويل المشاريع، وتأمين العملة الصعبة، مما سيحسن من سعر صرف الليرة السورية ويعيد شيئًا من الاستقرار النقدي.
ثالثاً، إعادة الإعمار بدعم خارجي: المشاريع المتوقفة منذ 2012 ستحظى بتمويل مباشر من شركات روسية، إماراتية، صينية وحتى أوروبية، خاصة إذا ضُمنت التسهيلات البنكية من واشنطن أو تم استثناؤها من العقوبات.
رابعاً، تحسن معيشة المواطن السوري: من المتوقع انخفاض أسعار السلع الأساسية، وعودة وفرة الأدوية، وتحسن الخدمات تدريجيًا، خاصة مع دعم دولي لصناديق المساعدات المرتبطة برفع القيود الاقتصادية.
دبلوماسيًا، فإن تخفيف العقوبات سيُعيد فتح أبواب التعاون السياسي بين دمشق والعواصم العربية، وسيسهّل انخراط سوريا في مشاريع إقليمية ضخمة، كخط الغاز العربي، وربما مشاريع النقل السككي والطاقة البديلة التي تربط آسيا بأوروبا عبر الشرق الأوسط.
التحديات: حقول ألغام داخلية وفخاخ إقليمية
لكن، وكما هي حال كل الفرص التاريخية، فإن رفع العقوبات لا يأتي دون ثمن، ولا يخلو من مخاطر. التحديات التي تنتظر سوريا ليست قليلة، بل تمس جوهر النظام السياسي – الاقتصادي القائم، وتضعه في مواجهة استحقاقات طال تأجيلها:
أولاً، غياب البنية القانونية الشفافة: الاستثمار الأجنبي يحتاج إلى قضاء مستقل، ومناخ قانوني عادل، ونظام مصرفي خالٍ من التدخلات الأمنية. وهذه الشروط لا تزال بعيدة عن الواقع السوري، ما يهدد بتحويل الأموال القادمة إلى غنائم تُلتهم في منظومة الفساد.
ثانياً، الفساد والمحسوبيات: تخشى قطاعات واسعة من السوريين أن تُدار عملية الانفتاح عبر نفس الأطر التي أدارت الاقتصاد خلال سنوات الحرب، أي عبر طبقة من رجال الأعمال المرتبطين بالنظام، ما قد يُعيد إنتاج اقتصاد ريعي يخدم القلة ولا يلامس حياة الناس.
ثالثاً، الانقسام الجغرافي والسياسي: لا تزال سوريا عمليًا مقسّمة إلى ثلاث مناطق نفوذ (دمشق، الشمال الغربي، الشرق)، مما يعني أن أي مشروع استثماري أو إعمار سيواجه تعقيدات تتعلق بالسيادة والتشريعات المختلفة، إضافة إلى تواجد القوات الأجنبية.
رابعاً، مشروطية الدعم الغربي: رغم رفع العقوبات، فإن الإدارة الأميركية تربط الانفتاح الاقتصادي بتحقيق خطوات سياسية “رمزية” على الأقل، مثل الإفراج عن معتقلين، الحد من النفوذ الإيراني، أو إشراك المعارضة في بعض مؤسسات الدولة. هذه الشروط قد تتحوّل إلى أدوات ضغط مستمرة تُفرغ الانفتاح من مضمونه السيادي.
خامساً، خطر التبعية الاقتصادية: دون وجود مؤسسات وطنية رقابية، فإن أموال الإعمار قد تتحوّل إلى وسيلة لفرض وصاية غير مباشرة على القرار السوري، تحت شعار الشراكة والتنمية.
خلاصة تحليلية: سوريا أمام لحظة اختبار وجودي
رفع العقوبات عن سوريا في عهد ترامب الثاني ليس حدثًا تقنيًا، بل منعطفًا استراتيجيًا يعيد تشكيل موقع سوريا في النظامين الإقليمي والدولي. هو فرصة ثمينة لإعادة بناء الدولة وإنعاش الاقتصاد، لكنه في الوقت ذاته اختبار لقدرة دمشق على تبني نموذج تنموي مستقل ومتوازن، قادر على امتصاص الدعم دون الوقوع في فخ الوصاية أو الفساد.
المرحلة المقبلة لن تتعلق فقط بما تمنحه العواصم الكبرى، بل بما تفعله القيادة السورية داخليًا: هل ستختار طريق الإصلاح الحقيقي، والمساءلة، وتحديث مؤسسات الدولة؟ أم ستكتفي بقطف ثمار الرفع دون تغيير أدوات الإنتاج والسلطة؟
الجواب سيحدد إن كانت سوريا تدخل عهدًا جديدًا من التعافي، أو تعود إلى نفس الدائرة، ولكن تحت إضاءة جديدة… اسمها “الفرصة الضائعة”.
خاص وكالة رياليست – عبدالله الصالح – كاتب وباحث ومحلل سياسي – العراق.