أفصحت الحالة الليبية عن كثير من المتناقضات في المجتمع الليبي، والذي ظل لأكثر من 60 عاما تسوده الأُلفة والهدوء، غير أنه بمجرد أن أتيحت فرصة للخلاف، ظهر ما كان خفي داخل عمق المجتمع الليبي، والذي كانت تمنع ظهوره، قوة قبضة نظام حكم معمر القذافي، خصوصاً منذ بداية فترة السبعينات، وحتى منتصف التسعينات من القرن الماضي.
فلقد عانت ليبيا المكونة تاريخياً من 3 أقاليم، برقة في الشرق، وطرابلس، في الغرب، وفزان في الجنوب، من تسلط النظام المركزي ، الذي بدأ مع الغاء الحكم الفيدرالي عام 1963 ، لتصبح كل أمور الدولة، تدار من غرب البلاد، وتكدست أهم المشاريع في مدن الغرب، خصوصاً مصراته وطرابلس والزاوية.
كما أن نظام المركزية أتاح لأبناء مناطق غرب ليبيا، العمل بمؤسسات الدولة الرسمية بصورة كبيرة، واحتكار العمل السياسي بنسبة تفوق الـ”80%” من قبل تكوينات سكان مناطق غرب ليبيا، مع اتاحة فرصة هامشية لبعض الشخصيات من إقليمي برقة وفزان، واللذين مُنع اسميهما من التداول زمن القذافي ، واستعيض عنهما بوصف شرق وجنوب ليبيا.
لقد جرب نظام القذافي عدة أنماط من الحكم المحلي، ولم يكن يستقر على نظام معين، فبعد سنوات انقلابه الأولى في السبعينات، والتي استمر فيها على نظام المحافظات ، وكان يتم تعيين المحافظين من رئاسة مجلس قيادة الثورة أو مجلس الوزراء ، وكانت هذه أفضل سنوات حكم القذافي، غير أنها لم تستمر طويلاً ، فسرعان ما أستعيض عنها بنظام البلديات، ثم دخلت ليبيا مرحلة فوضى عارمة، بتطبيق ما أطلق عليه نظام الجماهيرية وسلطة الشعب.
المرحلة الأخيرة والتي استمرت منذ عام 1977 حتى سقوط نظام القذافي، كان أهم ما يميزها التغيير المستمر، وعدم استقرار الإدارات، بتغيير المسميات والمهام، وظلت السلطة الفعلية ، تدار من مقر العقيد القذافي في باب العزيزية بطرابلس ، وتصدر بالخصوص قرارات شكلية وفق المسميات عبر اللجنة الشعبية العامة ( رئاسة الحكومة ).
في ظل هذه الفوضى المنظمة والمتحكم بها النظام عبر أدواته العديدة، من لجان شعبية وثورية، ومخابرات وأجهزة أمنية ، تجسدت في ليبيا فكرة أن كل شيء يجب أن يكون في المركز، والمركز هنا العاصمة طرابلس، وبالمناسبة لا يوجد نص دستوري، أو قرار صادر عن أي هيئة زمن المملكة الليبية ( 1951-1969) أو زمن جماهيرية القذافي ( 1969 – 2011) ينص على أن طرابلس هي عاصمة ليبيا.
ووفق الواقع الحالي لليبيين ، ومدى الابتعاد الذي حدث بين مناطق الدولة، وكذلك ما ينضح الآن من رؤى سياسية دولية ومحلية، فإن الحل السياسي صار صعباً، إذا كان يدور حول فكرة اعادة الدولة المركزية، التي ورثت أفكارها من المرحلة السابقة، والتي تقوم على المغالبة، حتى وإن كانت هذه المغالبة تأتي عبر شعار جميل، يتمحور حول الاحتكام إلى الصندوق.
يتخوف سكان اقليمي برقة وفزان، من أن الاحتكام للصندوق في ليبيا ، يأتي عبر رؤية التيار المتأسلم ، ومعهم قيادات وشخصيات سياسية كثيرة من غرب ليبيا، وهذه الرؤية عبارة عن آلية يتم اختيارها وفق الآتي ” يكون مجموع شخصيات الغرب الليبي+ التيارات المختلفة اسلامية ومليشيات جهوية في الغرب أكثر من عدد شخصيات برقة + فزان ” في أي هيكل تشريعي حالي أو مُقبل، مما يعني أن الصندوق سيعطيهم ما يريدون، وسيكون المشاركين من برقة وفزان ، عبارة عن كومبارس يزينون واجهة دولة مخصصة لتيارات وجهة معينة ، وليست دولة لكل الليبيين.
ورغم أن الحل الفيدرالي لم يكن يلقى صدى كبير في مناطق برقة وفزان، إلا أن تمسك قيادات الغرب الليبي، بكل تفاصيل المسئولية في الدولة الليبية، وعدم ايمانهم بمشاركة بقية الليبيين، دفعت سكان برقة وفزان بقوة نحو البحث عن آلية تجعل قرارهم المحلي بأياديهم.
وصار اختيار نظام فيدرالي يتم تداوله بقوة حالياً، ومن يتبنون هذا المقترح يرون أنه الأفضل لجميع الليبيين، ويدعو أنصار هذا الخيار إلى أن الحكومة المركزية، برئاستها وحكومتها المركزية بوزارة خارجيتها ودفاعها، تمثل الدولة الليبية وواجهة لها، وتترك الأمور الاقتصادية والتعليمية والصحية، والأمنية الخ لحكومات الأقاليم ، وبالتالي يتم توزيع الميزانية، بنسب السكان والمساحة، ومواطن الثروات.
يذكر أن بعض أنصار النظام الفيدرالي بعد سقوط نظام القذافي، حاولوا الدعوة إلى عودة النظام الاتحادي ، على أساس المناطق التاريخية الثلاث ، لكن لم تنجح هذه الدعوات ،لأنها لم تعكس حينها الحقيقة على أرض الواقع حينها، لأن الأجيال الحالية خصوصاً في برقة وفزان في تلك الفترة ، لم يعد لها تواصل مع ذاكرة أقاليمها التاريخية، كما أن الفترة التي ظهرت فيها الدعوة، للعودة إلى النظام الفيدرالي، كانت فترة حالمة لليبيين، وكانوا يظنون بأن المشكلة ، تتمثل شكل النظام الذي فرضه القذافي.
ومع تغير الواقع واصطدام سكان برقة وفزان ، بتسلط المتنفذين في غرب ليبيا على مقدرات الأمور، السياسية والاقتصادية ، صار مؤيدي النظام الفيدرالي في تزايد ، ومع استمرار حالة الجمود السياسي ، وتصدي التيار المتأسلم ، ورفض قيادات المليشيات في غرب ليبيا، لأي حل يجمع الليبيين للمشاركة في إدارة الدولة ، سيكون للنظام الفيدرالي قوة أكثر مما يتوقعه الكثيرون داخلياً وخارجياً.
خاص وكالة “رياليست” – عبد العزيز الرواف – كاتب وصحفي ليبي.