تمر هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى على استيلاء حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، وهو استيلاء من الممكن وصفه بأنه “مسرحية عبثية” سُلمت فيها السلطة على طبق من ذهب إلى هذه الحركة بعد انسحاب القوات الأمريكية خبيث النوايا، ومنع القوات الأفغانية من مقاومة مسلحي طالبان، وتقييد تحركاتها من قبل أطراف داخلية وخارجية عمدًا.
وطالبان هي حركة سياسية ذات أيديولوجيات دينية متطرفة، وضع لبنتها الأولى مُلا “محمد عمر” عام 1994 في ولاية “قندهار” الواقعة جنوبي أفغانستان بهدف إقامة “إمارة إسلامية”، وقد سُميت الحركة باسم “طالبان” أي “الطلاب” لأنها تشكلت في بداية الأمر من طلاب المعاهد الدينية التقليدية في باكستان؛ وهي معاهد تبنت الفكر الوهابي المتشدد. وتمثل قومية “البشتون” أو “البختون” الغالبية العظمى من أعضاء هذه الحركة، وهم يقطنون المناطق الشرقية والجنوبية في أفغانستان والمناطق الشمالية في باكستان؛ فيما يُعرف اصطلاحيًا باسم “بشتونستان” أي “أرض البشتون”.
ويفصل “خط ديورَند” Durand Line بشتون أفغانستان وباكستان عن بعضهما بعضًا، وهو خط حدودي يبلغ طوله ما يقرب من 2500 كيلو متر، ويعيّن الحدود بين الدولتين. وقد رُسم هذا الخط بموجب معاهدة “خط دیورند” الموقعة في 12 نوفمبر 1893بين الأمير الأفغاني “عبد الرحمن خان” وحكومة الهند البريطانية، أو كما يُطلق عليها باللغة السنسكريتية الهندية “الراج البريطاني”، أي “الحكم البريطاني”؛ وهي فترة استعمار بريطانيا لشبه القارة الهندية – الهند وباكستان وبنجلاديش حاليًا – بداية من عام 1858 حتى عام 1947. وكان السير “هنري مورتيمر ديورند” Sir. Henry Mortimer Durand سكرتير الشؤون الخارجية في حكومة الهند البريطانية يرأس الوفد البريطاني في مباحثات عقد المعاهدة ومراسم توقيعها، لذا أُطلق اسمه على هذا الخط. وقد هدفت معاهدة “خط ديورَند” تحديد مناطق النفوذ السياسي بين الحكومة الأفغانية وحكومة الهند البريطانية، وكان الإنجليز في ذلك الوقت يتحكمون في سياسات أفغانستان الخارجية وعلاقاتها الدبلوماسية مع البُلدان الأخرى. وبموجب هذه المعاهدة، اُستقطعت أجزاء كبيرة من الأراضي البشتونية الأفغانية “بشتونستان”، وسُلخ إقليم “بلوشستان” من أفغانستان، وتم ضمهما إلى باكستان، مما أدى إلى نشوب نزاع مسلح على طول الشريط الحدودي بين البلدين عام 1950، وحدوث توتر شديد في العلاقات الأفغانية الباكستانية على مدار التاريخ.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشعب الأفغاني ينقسم إلى عدد من “المجموعات الإثنية” Ethnic Groups، لكل واحدة منها لغة، وثقافة، وعادات وتقاليد، وسمات خَلقية وخُلقية تختلف عن الأخرى كالبشتون، والطاجيك، والهزارة، والأوزبك، والتُركمان، وغيرهم. وعلى الرغم من أن هذه المجموعات تتعايش في تلاحم وانسجام مع بعضها بعضًا مكوّنة النسيج القومي للشعب الأفغاني، فيما يشبه لوحة فُسَيفِساء متباينة القطع والألوان والأشكال، إلا أن كل مجموعة منها يتركز وجودها بكثافة في مناطق محددة بالدولة.
وتُصنف حركة طالبان ضمنيًا “جماعة إرهابية” لضلوعها في إراقة دماء الشعب الأفغاني قرابة 3 عقود من الزمان تحت اسم تطبيق الشريعة الإسلامية من منظرها المتطرف، وكذلك لارتباطها المباشر وغير المباشر بأغلب تنظيمات وجماعات الإرهاب الدولي كالقاعدة وشبكة حقاني والجهاد الإسلامي وغيرها، وهو ما جعل أغلب بلدان العالم لا تعترف رسميًا حتى الآن بحكومة طالبان المؤقتة التي أطلقت على نفسها اسم “الإمارة الإسلامية”.
وتنقسم حركة طالبان حاليًا إلى فصيلين رئيسين، وما يقرب من 15 فصيلًا فرعيًا، إلا أنها تشهد في الآونة الأخيرة صراعًا كبيرًا بين فصيليها الرئيسين من أجل انفراد كل واحد منهما بالسلطة؛ الأول “فصيل قندهار”، ويضم “البشتون الدُرّانيين” ويُعرفون أيضًا بـ “الأبداليين” القاطنين جنوبي أفغانستان، والثاني “فصيل شبكة حقاني”، ويضم “البشتون الغِلجيين (الغِلجائيين)” القاطنين شرقي أفغانستان.
فصيل قندهار
يتزعم فصيل قندهار ملا “عبد الغني بَرادر” رئيس المكتب السياسي والنائب السياسي لحركة طالبان، والقائم بأعمال نائب رئيس الوزراء في الحكومة الحالية. ويعد ملا برادر من الحرس القديم بحركة طالبان، فهو من مؤسسيها الرئيسين وأخر من تبقى منهم على قيد الحياة. كان صديقًا مقربًا لملا عمر وزوج أخته، لذا لقبه ملا عمر بـ “برادر” أي “الأخ”. وقد شغل برادر منصب نائب وزير الدفاع في حكومة طالبان الأولى (1996: 2001)، وعقب الغزو الأمريكي لأفغانستان وسقوط حركة طالبان، عينه ملا عمر نائبًا له. وفي عام 2010 ألقت فرقة من المخابرات الباكستانية والأمريكية القبض على برادر في باكستان، وتم حبسه هناك، لكن بِناءً على طلب الولايات المتحدة أُطلق سراحه عام 2018 حتى يمثل حركة طالبان في مفاوضات السلام مع أمريكا، حيث لعب دورًا محوريًا في تاريخ هذه الحركة قبل وصولها إلى سُدة الحكم في أفغانستان للمرة الثانية.
وقد جرت هذه المفاوضات في العاصمة القطرية الدوحة بين برادر نائبًا عن حركة طالبان، والدبلوماسي الأمريكي أفغاني الأصل “زَلمِي خليل زاد” مبعوث الولايات المتحدة إلى أفغانستان، وانتهت بتوقيع “اتفاق الدوحة” المعروفة رسميًا باسم “اتفاق إحلال السلام في أفغانستان” في 29 فبراير 2020 بين الطرفين. وقد نص هذا الاتفاق على انسحاب القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) من الأراضي الأفغانية نهائيًا، في مقابل تعهد حركة طالبان بمنع تنظيم القاعدة من القيام بأية عمليات عسكرية في المناطق الخاضعة لسيطرتها والدخول في مفاوضات سلام مع الحكومة الأفغانية آنذاك، وهو ما لم يتحقق منه على أرض الواقع سوى الجزء الأول المنوط بالقوات الأجنبية فحسب.
ويعتبر برادر من وجوه حركة طالبان المعروفة دوليًا، فعقب توقيع اتفاق الدوحة التقى الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” Donald Trump، وبهذا يكون أول زعيم من طالبان يلتقي رئيسًا أمريكيًا وجهًا لوجه. وفي يناير 2021 توجه إلى طهران يترأس وفدًا من حركة طالبان، والتقى وزير الخارجية الإيراني السابق “محمد جواد ظريف”، وبحث معه سبل تشكيل حكومة إسلامية موسعة في أفغانستان. وفي 28 يوليو من العام نفسه توجه إلى الصين، والتقى وزير الخارجية “وانج يي” Wang Yi بمدينة تيانجين الساحلية.
وعقب استيلاء حركة طالبان على السلطة في أفغانستان وفرار رئيس الجمهورية “محمد أشرف غني” خارج البلاد في أغسطس 2021، ألقى برادر خطاب تولي طالبان الحكم على عموم الشعب الأفغاني، وفي 17 من الشهر نفسه قابل مدير المخابرات الأمريكية “ويليام برنز” William Burns الذي أبلغه رسالةً شخصيةً من الرئيس الأمريكي “جو بايدن” Joe Biden لا يعلم أحد مفادها حتى كتابة هذه السطور.
ومن الممكن اعتبار “اتفاق الدوحة” بمثابة ضوء أخضر أعطته الولايات المتحدة لحركة طالبان كي تقفز على كرسي الحكم في أفغانستان مرة أخرى، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من عامين، وكأن السلطة الأفغانية الممثلة في رئيس الجمهورية “محمد أشرف غني”، ورئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية “عبد الله عبد الله” آنذاك، ليس لهما محل من الإعراب في هذا الاتفاق.
والحقيقة أن الولايات المتحدة كانت تدرك جيدًا أن خروجها من أفغانستان يرادف عودة طالبان، ويبدو أنها كانت تريد ذلك، فالأمريكيون منذ عام 2011 يسعون بشتى الطرق إلى صعود حليف لهم ذي خلفية دينية إلى رأس السلطة في المنطقة، يحمي مصالحهم ويحقق أهدافهم، وذلك اعتقادًا منهم بشعبية جماعات الإسلام السياسي في دولها، وهو أمر خطِئ في تقديره الأمريكيون تمامًا. وقد بدأت هذه المساعي مع جماعة “الإخوان المسلمين” المصنفة حاليًا “جماعة إرهابية”، ولما آلت إلى الفشل بانكشاف حقيقة هذه الجماعة الإرهابية ومخططاتها الخبيثة مع الدول الأجنبية، عاد الأمريكيون إلى حليفهم القديم “حركة طالبان”.
ويضم فصيل قندهار أيضًا ملا “محمد يعقوب” الابن الأكبر لملا عمر، والنائب الثاني لزعيم حركة طالبان حاليًا ملا “هِبة الله آخوند زاده”، والقائم بأعمال وزير الدفاع في الحكومة الحالية. نال ملا يعقوب تعاليمه الدينية في المعاهد الدينية المختلفة بمدينة “كراتشي” الباكستانية، وحتى وفاة والده عام 2013، لم يكن قد تولى بحركة طالبان أية مناصب رسمية، لكن في عام 2016 ضمته طالبان إلى مجلس قيادتها المعروف باسم “مجلس شوراى كُويته”، وقلّدته منصب آمر اللجنة العسكرية في 15 ولاية أفغانية من أصل 34 ولاية. وفي عام 2020 أصبح يعقوب رئيس اللجنة العسكرية لحركة طالبان، وبعد إصابة زعيم الحركة ملا هبة الله بفيروس كورونا في العام نفسه، تولى قيادة طالبان بصفة مؤقتة.
وطبقًا لما يذكره خبير الجماعات الإسلامية بالمعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI) في لندن “أنطونيو جوستوزي” Antonio Giustozzi، أن يعقوب يعد من الوجوه المعتدلة نسبيًا في حركة طالبان، حيث يؤيد إنهاء الحرب في أفغانستان عن طريق التفاوض، ويتحدث دائمًا عن ضرورة مواجهة المقاتلين الأجانب الناشطين في الأراضي الأفغانية والقضاء عليهم، لذا يتهمه منافسوه في السلطة بأنه على اتصال بالحكومة الأفغانية السابقة، ويعمل لصالح الأمريكيين.
وعلى الجانب الآخر يذكر الصحفي المختص بالشؤون الأفغانية في إذاعة أوروبا الحرة (RFE/RL) “فرود بيژن”، نقلًا عن مصدر أمني أفغاني، أن يعقوب يستمد مكانته في حركة طالبان من كونه نجل مؤسس الحركة ملا عمر، لكنه لا يتمتع بشعبية واسعة بين زعماء الحركة وأعضائها، كما أنه يجهل حقائق الأوضاع السياسية في أفغانستان لأنه نشأ وترعرع خارج البلاد.
وتذكر المخابرات الأفغانية أن يعقوب قد تلقى تدريبات على حرب العصابات على يد ميليشيا “جيش محمد” المتخذة من باكستان مقرًا لها، وهي “جماعة إرهابية” تشن هجمات مسلحة على الهند والشطر التابع لها في إقليم كشمير المتنازع عليه بين نيودلهي وإسلام آباد، حيث تسعى هذه الجماعة إلى ضم الإقليم بأكمله للسيادة الباكستانية. يُذكر أن مؤسس جيش محمد “محمد مسعود أظهر علوي” قد التقى مؤسس حركة طالبان “ملا عمر”، ومؤسس تنظيم القاعدة “أسامة بن لادن”، وجمعته علاقات بهما.
فصيل شبكة حقاني
أما الفصيل الآخر في حركة طالبان فهو شبكة حقاني، ويتزعمه واحد من أخطر زعماء طالبان وأوسعهم نفوذًا وأكثرهم تشددًا فكريًا في الحركة “سراج الدين حقاني” النائب الأول لزعيم طالبان، والقائم بأعمال وزير الداخلية في الحكومة الحالية. وهو زعيم “شبكة حقاني” المصنفة حاليًا “جماعة إرهابية”، ونجل “جلال الدين حقاني” مؤسس هذه الشبكة.
وشبكة حقاني هي ميليشيا ناشطة في المناطق الحدودية بين أفغانستان وباكستان تتبع حركة طالبان، إلا أنها تحتفظ بمخططاتها الخاصة كجماعة مستقلة بنفسها، وترتكز معظم عملياتها العسكرية في المناطق الشرقية من أفغانستان خاصة ولايات بكتيا، وبكتيكا، وخوست. وليس معلوم على وجه الدقة المقر الرئيس لشبكة حقاني، لكن تشير بعض التقارير إلى أن المنطقة الجبلية “وزيرستان الشمالية” الواقعة في المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية بباكستان، توجد بها أهم قاعدة لهذه الشبكة.
أسس جلال الدين حقاني هذه الشبكة المسلحة عام 1970 مع بدايات انهيار الحكم الشيوعي في أفغانستان، وخلال سنوات الحرب المتعاقبة بالبلاد، انخرطت الشبكة في عمليات الاغتيال والخطف والابتزاز وتهريب المخدرات وتصنيع الأسلحة والمعدات العسكرية، واستطاعت جمع ثروة طائلة من جراء ذلك، كما قامت الشبكة بالعديد من العمليات الإرهابية ضد القوات الدولية والوطنية في أفغانستان. وفي عام 1995 بايعت شبكة حقاني حركة طالبان، وتعهدت لها بالولاء، ومنذ ذلك الوقت أصبحت أحد الأذرع العسكرية لطالبان.
وفي مايو 2011 أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “هيلاري كلينتون” Hillary Clinton أن الولايات المتحدة وضعت شبكة حقاني في قائمة “الجماعات الإرهابية”. كما قام مجلس الأمن في العام نفسه بتجميد أرصدة 5 أفراد من عائلة حقاني في البنوك الدولية؛ من بينهم: جلال الدين، وابنه سراج الدين، وأخيه خليل الله الذي يشغل حاليًا منصب القائم بأعمال وزير شؤون المهاجرين والعائدين في حكومة طالبان. هذا فضلًا عن رصد مكتب التحقيقات الفيدرالي مكافأة مالية قدرها 10 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات عن مكان سراج الدين، ومكافأة أخرى بقيمة 5 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات عن مكان عمه خليل الله.
وقد قام سراج الدين حقاني بتخطيط العديد من العمليات الإرهابية؛ كان أشهرها محاولة اغتيال الرئيس الأفغاني الأسبق “حامد كرزاي” في أبريل 2008، وهذا باعترافه بنفسه. وفي عام 2010 نشر كتابًا باللغة البشتونية بعنوان “الدروس العسكرية المفيدة للمجاهدين”، ويوضح الكتاب آراء حقاني الأكثر راديكاليةً من آراء حركة طالبان نفسها، وتأثره الشديد بفكر تنظيم القاعدة الإرهابي الداعي إلى الذبح وقطع الرءوس والعمليات المفخخة والانتحارية.
حقاني والقاعدة
وطد جلال الدين حقاني علاقته بالزعيم الأسبق لتنظيم القاعدة “أسامة بن لادن”، وغدا واحدًا من أقرب مرشديه. كما وفرت شبكة حقاني لزعماء التنظيم وأعضائه ملاذًا آمنًا في أفغانستان، وذلك عقب تخطيطهم لهجمات 11 سبتمبر 2001 على مركز التجارة العالمي بمدينة نيويورك الأمريكية. وما يعضد هذه المعلومات أن بعض المصادر داخل تنظيم القاعدة قد ذكرت أن زعيمها السابق “أيمن الظواهري” كان يأمل بعد وصول حركة طالبان إلى سدة الحكم في أفغانستان، أن يتمكن فصيل من حلفائه من السيطرة على الأمور في “الإمارة الإسلامية”، لذا عقب مقتل الظواهري بمنزله في الحي الدبلوماسي “شيربور” بالعاصمة الأفغانية كابُل (كابول)، إثر غارة جوية بطائرة مسيرة نفذتها المخابرات أمريكية في 31 يوليو 2022، أشارت العديد من التقارير إلى أن الظواهري كان في أفغانستان بعلم من شبكة حقاني وتحت حمايتها، ولهذا السبب حاولت الشبكة إخفاء وجود الظواهري في أفغانستان عقب الغارة الأمريكية، كما أنكرت حركة طالبان وجود أي عنصر من عناصر القاعدة في البلاد. وعلى الجانب الآخر قالت تقارير أخرى إن حقاني قد أوشى للأمريكيين بمكان الظواهري في محاولة منه للمصالحة معهم، ورفع شبكته من قائمة الجماعات الإرهابية، وكذلك رفع اسمه من قوائم المطلوبين من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي بعد وصوله إلى سدة الحكم.
على أية حال أثار مقتل أيمن الظواهري خلافات شديدة داخل حركة طالبان خاصة بين أقطابها الثلاثة سالفي الذكر ملا برادر، وملا يعقوب، وحقاني، لأن وجود الظواهري في أفغانستان يخالف بنود اتفاق الدوحة المبرم بين الحركة والأمريكيين، ويفتح الباب أمام العديد من السيناريوهات والتكهنات حول التدخل الأمريكي في أفغانستان مرة أخرى، ومستقبل العلاقات بين طالبان والولايات المتحدة من ناحية، وبين طالبان وسائر دول العالم من ناحية أخرى.
أمير قندهار
بعيدًا عن مقتل الظواهري وعواقبه، شهد العام المنصرم على تولي حركة طالبان الحكم في أفغانستان احتدام الصراع بين فصائلها المختلفة حول استحواذ كل واحد منها على السلطة؛ ملا عبد الغني برادر وملا يعقوب من ناحية، وسراج الدين حقاني من ناحية أخرى، هذا فضلًا عن تفرد ملا هبة الله آخوند زاده بالسلطة المطلقة باعتباره يتبوأ أعلى منصب ديني في الحركة، وهو “أمير المؤمنين”، وبالتالي يعد بصفته الدينية الحاكم الفعلي لأفغانستان، فأغلب زعماء جماعات الإسلام السياسي يخلعون على أنفسهم ألقاب دينية سامية مُستوحاة من عصر صدر الإسلام وما تلاه من عصور حتى يظهروا أمام الناس في هالة من القداسة الدينية لا يجرؤ أحد على المساس بها أو التعرض لها قولًا أو فعلًا، وتصبح التبعية العمياء لهؤلاء الزعماء أمرًا واجبًا لا جدال فيه، فتم تداول ألقاب مِثل: خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، والمرشد العام، والمرشد الأعلى….. والقائمة تطول.
وقد طغى هذا الصراع السلطوي بين زعماء حركة طالبان على المشهد السياسي الأفغاني على الرغم من سيل المشكلات والأزمات التي أغرقت البلاد بسبب استيلائهم على الحكم، ففي هذا الصدد يقول الدبلوماسي الألماني “ماركوس بوتزيل” Markus Potzel القائم بأعمال مبعوث الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة إلى أفغانستان: “إن العلاقة بين الحكومة في كابل، وزعيم حركة طالبان هبة الله المقيم في قندهار مبهمة وغير واضحة، فطالبان تتجاهل الشائعات المستمرة عن خلافاتها الداخلية، وتدعي أنها مؤسسة حكومية موحدة ومتماسكة، وتعقد الحكومة المستقرة في كابل اجتماعاتها بانتظام، وينشر المسؤولون الرسميون نتائج هذه الاجتماعات علنًا”.
ويشير حديث السيد بوتزيل عن غموض العلاقة بين حكومة طالبان في كابل وزعيمها في قندهار إلى أن مركز القوة الرئيس لهذه الحركة ليست العاصمة كابل، لكنها مدينة قندهار، وأن هبة الله يسيطر على شؤون أفغانستان من هذه المدينة.
وهذه ليست المرة الأولى التي تشير فيها تقارير مسؤولي الأمم المتحدة إلى وجود خلافات بين مختلف الفصائل في حركة طالبان، وتصف العلاقات بين زعيم الحركة وأعضاء الحكومة بأنها غير واضحة. ففي أبريل الماضي صرحت السيدة “میته کنسود سن” المبعوث السياسي للأمين العام للأمم المتحدة إلى أفغانستان، أن وضع الحكومة الأفغانية غامض، وهناك قرارات مهمة تُتخذ خارج حكومة من قبل أطراف أخرى داخل الهيكل التنظيمي لحركة طالبان.
وتلّوح هذه التقارير إلى وجود خلافات جدية ودائمة بين مختلف الفصائل في حركة طالبان، ففي العام الماضي كلما تصاعدت حدة الخلافات في كابل، كانت الحركة تلجأ إلى قندهار حتى تجد سبلًا لحل هذه الخلافات، مما يدل على مركزية قندهار في اتخاذ القرار وأهميتها بالنسبة لطالبان. فعندما أعلنت حركة طالبان حكومتها المؤقتة في سبتمبر 2021، أفادت أحد التقارير أنه حدث تشابك بالأيدي بين القائم بأعمال نائب رئيس الوزراء “عبد الغني برادر”، والقائم بأعمال وزير شؤون المهاجرين والعائدين “خليل الرحمن حقاني” عم سراج الدين حقاني، كما وقع اشتباك مسلح بين أتباعهما. وبعد ذلك توجه برادر إلى قندهار غاضبًا، وتغيب فترة طويلة عن الظهور الإعلامي والاجتماعات الرسمية للحكومة، لكن في نهاية الأمر عاد إلى كابل واستأنف نشاطه بعد وساطة أحد الأشخاص المقربين لزعيم طالبان هبة الله. لم تكن عودة برادر من قندهار هي نهاية الخلافات بين كبار أعضاء حكومة طالبان، بل دفعت الخلافات بين عبد الغني برادر، ومحمد يعقوب، وسراج الدين حقاني، جميع أعضاء الحكومة للتوجه إلى قندهار مرة أخرى، والبحث عن سبل لحل هذه الخلافات في حضور هبة الله.
وكانت اجتماعات حكومة طالبان تُعقد دوريًا يوم الاثنين من كل أسبوع بقصر الرئاسة في كابل، لكن في الفترة الممتدة من 21 حتى 23 مارس 2022 أصبحت تُعقد في قندهار. وطبقًا لمصادر موثوقة، كانت أحد أهداف هذه الاجتماعات هو حل الخلافات بين كبار أعضاء حكومة طالبان. وبالإضافة إلى ذلك عقدت حركة طالبان في 18 أغسطس الماضي مؤتمرًا شعبيًا كبيرًا بمدينة قندهار، حضره هبة الله، وألقى كلمة. وكان هذا هو الظهور الأول له على الملإ، فقبل ذلك لم يره أحد على الإطلاق. وعقب هذا المؤتمر، أجرى هبة الله تغييرات عسكرية وسياسية موسعة في الحكومة، وأصدر أمرًا مباشرًا بتغيير القادة العسكريين في ولايتي بنجشير وبغلان.
مكانة قندهار لدى طالبان
تحظى مدينة قندهار بمكانة روحية ودينية كبيرة لدى حركة طالبان، فأغلب زعماء الحركة وقادتها الكبار أو بالأحرى حرسها القديم قد قدموا من جنوبي أفغانستان حيث ولاية قندهار ومدينتها الشهيرة، كما ينظر أعضاء طالبان إلى هذه المدينة نظرة احترام وتقدير؛ فقد شهدت قندهار نشأة الحركة وانطلاقها السياسي والعسكري، وخرج من رحمها مؤسس الحركة وزعيمها الأول “ملا عمر”، لذا يعتبر زعماء طالبان مدينة قندهار “عاصمتهم الشعبية”، فيتخذون قراراتهم المهمة في هذه المدينة ومنها، ومما يدل على ذلك أنه بعد سيطرة حركة طالبان على أفغانستان مباشرة، ذهب معظم زعماء الحركة إلى مدينة قندهار أولًا، ومنها توجهوا إلى العاصمة الأفغانية كابل.
وبالإضافة إلى ذلك تعد قندهار منطقة اقتصادية مهمة لحركة طالبان، وممرًا حيويًا بالنسبة لها، حيث تستخدم الحركة طرق المدينة ومساراتها معبرًا لتجارة المواد المخدرة، وتجمع من وراء ذلك أموالًا طائلةً تتراوح ما بين 100 إلى 400 مليون دولار سنويًا، وهي الركيزة الاقتصادية الرئيسة في استمرار هذه الحركة سياسيًا وعسكريةً. ويتواجد في قندهار العديد من أصحاب النفوذ وكبار السياسيين والتجار المنتمين لقبيلة “دُرّاني البشتونية”، لذا يعتبر فصيل قندهار في حركة طالبان هذه المدينة قاعدة أساسية له ويوليها أهمية كُبرى.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أفغانستان تعد أكبر مُنتِج لمادة الأفيون المخدرة (نبتة الخَشخاش) عالميًا، وهي المادة المستخدمة في تصنيع الهيروين. وتقدر قيمة صادرات أفغانستان من الأفيون ما بين 1.5 إلى 3 مليار دولار سنويًا. وفي أبريل الماضي أصدر زعيم حركة طالبان هبة الله مرسومًا يحظر زراعة الأفيون في جميع أنحاء البلاد، وذلك على عكس تصريحات مسؤولي الحكومة الأفغانية السابقة وتقارير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) التي تؤكد أن طالبان تجيز زراعة الأفيون، وتحصّل ضرائب من مزارعيه وأصحاب المعامل التي تحوله إلى هيروين، وتجار المواد المخدرة ومهربيها في أفغانستان. ويبدو أن قرار هبة الله بحظر زراعة الأفيون هو محاولة منه لتبرئة طالبان من تُهمة الاتجار بالمخدرات.
وعلى الرغم من أن الخلافات الداخلية تتصاعد بين مختلف الفصائل في حركة طالبان، إلا أنه ليس واضح هل ستنجم هذه الخلافات في النهاية عن انشقاقات عدائية واشتباكات مسلحة، أم سيتمكن زعيم الحركة هبة الله بصفته أعلى مسؤول في طالبان من احتوائها؟ مما لا شك فيه أن احتواء الخلافات دون الالتفات إلى مطالب البشتون القاطنين شرقي أفغانستان ويتزعمهم سراج الدين حقاني، سيكون أمرًا عسيرًا على زعيم الحركة وكبار مسؤوليها.
ويبدو أن سراج الدين حقاني يستهدف الهيمنة الكاملة على حركة طالبان وحكومتها المؤقتة، متكئًا على دعم وكالة المخابرات الباكستانية (ISI) له، فطبقًا لما يذكره خبير الشؤون الأفغانية “علي جان أحمدي”، أن شبكة حقاني تستحوذ حاليًا على أغلب السلطة في إدارة حركة طالبان وحكومتها المؤقتة، حيث تسيطر على البنك المركزي، ووزارة المالية، ووزارة الاتصالات، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، ووزارة الداخلية، ومديرية الأمن الوطني (المخابرات). وتتلقى هذه شبكة أوامرها من المخابرات الباكستانية مباشرة، وفصيل قندهار بزعامة ملا برادر في حركة طالبان غير راض عن تدخل المخابرات الباكستانية في شؤون طالبان الداخلية، مما أدى إلى حدوث انقسام داخل الحركة. كما تسعى شبكة حقاني إلى انتزاع الزعامة الدينية من ملا هبة الله المقيم في أفغانستان، ونقلها إلى سراج الدين حقاني المقيم في باكستان، لكن فصيل قندهار يرفض ذلك شكلًا ومضمونًا.
عام من حكم طالبان
إن زعماء حركة طالبان بعد انقضاء عام على توليهم الحكم في أفغانستان جَلّ ما يشغلهم هو الصراع على السلطة فیما بينهم، وكأن البلاد كعكة يتبارى الجميع في التهام القطعة الأكبر منها، هذا فضلًا عن استئثار البشتون القومية الغالبة في طالبان بما يقرب من 98% من الحقائب الوزارية في الحكومة، مُنَحّين القوميات الأفغانية الأخرى من المشهد السياسي، ومتجاهلين المشكلات والأزمات العاصفة بالبلاد جراء توليهم الحكم، فعلى الصعيد السياسي لم تعترف أية دولة بحكومة طالبان رسميًا حتى الآن، خشيةً من علاقة الحركة بالتنظيمات والجماعات الإرهابية واحتضانها عدد من زعماء هذه الجماعات وأعضائها، ولعل مقتل أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة في كابل كان برهانًا لا يقبل الشك على هذا الأمر، وفي هذا الصدد طلبت دول الجوار من طالبان أن تتعامل بحزم وجدية مع المقاتلين الأجانب الناشطين في الأراضي الأفغانية، وبالتالي تعيش أفغانستان في حالة من العزلة الدولية والدبلوماسية.
وفي ظل العزلة السياسية والموقف الدولي المبهم تجاه حكومة طالبان، لا توجد أية استثمارات أجنبية أو محلية أو مشروعات بنية تحتية وتنموية في أفغانستان، مما جعل الحكومة تعجز عن دفع رواتب الموظفين والعاملين بالدولة، وتدعو إلى العمل التطوعي والمجاني، وقد بلغ الأمر بزعيم حركة طالبان هبة الله آخوند زاده أن يطلب من الشعب دعم الحكومة اقتصاديًا عن طريق دفع زكاة المال والزروع والثمار!! وبالتالي تعاني أفغانستان من ظروف اقتصادية متردية تنذر بوقوع أزمة كبرى قد تؤدي إلى إفلاس الدولة، خاصة أن أغلب الحكومات التي قامت في أفغانستان على مدار تاريخها المعاصر، لم تستطع الاستمرار طويلًا في ظل غياب المساعدات الأجنبية.
واجتماعيًا شهدت أفغانستان منذ استيلاء حركة طالبان على الحكم موجةً غير مسبوقة من اللجوء إلى أغلب دول العالم، خوفًا من عواقب عودة حكومة دينية متطرفة ارتكبت في حق الشعب الأفغاني أفعالًا وحشيةً وغير إنسانية بعيدة كل البعد عن الشريعة الإسلامية السمحة، ولا يمكن وصفها سوى بـ “التطرف والإرهاب” كالجلد، وقطع الأيدي، والإعدامات العلنية، وتفخيخ دور العبادة والأماكن العامة، واغتيال المعارضين، هذا فضلًا عن تقييد الحريات العامة للمواطنين كإجبار الرجال على إطلاق لُحاهم، والنساء على ارتداء النقاب، وهو ما شرع يتحقق على أرض الواقع، وكانت البداية قرارات حكومة طالبان الخاصة بتقييد حرية المرأة الأفغانية وسلب حقوقها المشروعة، ففي مارس الماضي، أصدرت الحكومة قرارًا بغلق مدارس الفتيات وحرمانهن من التعليم، ثم قرارًا آخر في مايو الماضي بارتداء النساء النقاب في الأماكن العامة، وإلا سيواجهن عقوبات مشددة، وأعقبه أمر بتغطية وجوه مذيعات التلفاز وسائر النساء اللائي يظهرن على الشاشة أثناء البث المتلفز. هذه القرارات ونظائرها ستؤديان تدريجيًا إلى تجريد الشعب الأفغاني من حقوق وحريات ومكتسبات مشروعة نالها على مدار 20 عامًا بعد سقوط حكومة طالبان الأولى عام 2001.
وقد قدرت بعض التقارير غير الرسمية أعداد اللاجئين الأفغانيين بعد تولي حركة طالبان الحكم بما يقرب من 5 مليون لاجئ حتى الآن، ومن المتوقع أن يزداد هذا العدد خلال الفترة القادمة. هذا بالإضافة إلى الأفغانيين المقيمين خارج البلاد سواء للدراسة أو العمل، فلم تعد لديهم رغبة في العودة إلى وطن بات يرونه بلا مستقبل في ظل حكومة طالبان، ولعل المشهد الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية، ويظهر فيه مئات المواطنين الأفغانيين وهم يلاحقون طائرة شحن عسكرية أمريكية – من طراز بوينج سي 17 جلوب ماستر 3 – كانت على وشك الإقلاع من مطار كابل الدولي، فرارًا من بلادهم، خير راو عن هلع الشعب من عواقب حكم طالبان.
هي 20 سنة ربما لم تكن الأفضل في تاريخ أفغانستان.. بدأت عام 2001 بالغزو الأمريكي وسقوط حكومة طالبان الأولى، وانتهت عام 2021 بانسحاب القوات الأمريكية وصعود حركة طالبان إلى سدة الحكم مرة أخرى. عقدان من الزمان يشبهان إلى حد كبير “أُرجُوحة التوازن”؛ طرف يعلو والآخر يهبط، والعكس صحيح. لقد شهدت هذه السنوات حضور أفواج مهولة من القوات النظامية، والمستشارين والخبراء العسكريين والتقنيين والميدانيين، والمتخصصين متعددي الجنسيات في مختلف المجالات إلى أفغانستان، تحت مُسمى إعادة الإعمار بعد الحرب ومساعدة القوات الوطنية في إقرار الأمن ومواجهة الجماعات الإرهابية، في مشاهد قد يعتبرها البعض احتلالًا مقنعًا لاستنزاف موارد أفغانستان وثرواتها الطبيعية، وقد يعتبرها البعض الآخر حُجة لمد النفوذ واستغلال الموقع الجيوسياسي للبلاد في سبيل تحقيق مصالح القوى العظمى وتنفيذ مخططاتها المغرضة في المنطقة، لكن ما نستطيع قوله إن أفغانستان على مدار هذه السنوات تمتعت بنوع ما من الهدوء والاستقرار والسلام النسبي، واستعادت علاقاتها الدبلوماسية مع أغلب بلدان العالم بعد سنوات طويلة من النزاعات والحروب الداخلية والخارجية، دفع ثمنها أبناء الشعب الأفغاني من دمائه ومصيره المرهون دائمًا بمصالح أطراف داخلية وخارجية. واليوم تُدشن حِقبة جديدة في تاريخ أفغانستان لا تختلف كثيرًا عن حِقب أخرى شهدتها البلاد قبل 20 عامًا، بل هي بالأحرى حقبة جديدة من إراقة الدم الأفغاني المستباح سفكه بأيدي الجميع منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمان.
خاص وكالة رياليست – د. محمد عمر سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر.