القاهرة – (رياليست عربي): اليهودية والإسرائيلية والصهيونية ثلاثة مصطلحات تستخدم دائمًا للإشارة إلى دولة إسرائيل؛ جميعها تنبع من منبع واحد، وتصب في بوتقة واحدة، وتدل على كيان محدد، لكن ثمَّة تباينًا كبيرًا بينها من حيث الأصل والمعنى والمغزى والدلالة، لذا علينا أن نستوضح هذه المصطلحات وسنتقرأها حتى ندرك طبيعة العقلية الإسرائيلية ونهجها الفكري في التعامل مع الآخر، وكيف تنظر إسرائيل إلى نفسها، وإلى العرب، وإلى العالم أجمع.
- اليهودية:
اليهودية هي الديانة أو مجموعة الشرائع والأحكام الخاصة بالعقيدة اليهودية المُنَزَّلة على النبي “موسى”، وترد في التوراة أو القسم الأول من “العهد القديم” المعروف باسم “التنَخ (التناخ)”.
ويطلق الكثيرون على الكتاب المقدس لدى اليهود اسم (التوراة)، وفي ذلك بعض اللبس، فالكتاب المقدس اليهودي يُعرف باسم “العهد القديم” للتفريق بينه وبين “العهد الجديد” الكتاب المقدس لدى المسيحيين.
مصطلح تناخ هو اختصار الحروف الأولى من عناوين أقسام العهد القديم الثلاثة؛ التوراة (القانون أو الشريعة)، نبيئيم (الأنبياء)، كتوبيم (كُتب الحكمة أو الأدبيات). وتُكتب كلمة تناخ في اللغة العبرية (تناك)، لكن تُنطق الكاف خاءً لورودها في نهاية الكلمة، وذلك وفقًا لقواعد اللغة العبرية. التناخ هو المصطلح الأكثر شيوعًا وتداولًا في الأوساط العلمية والبحثية الخاصة بالدراسات العبرية كمرادف للعهد القديم.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/مجموعة-من-لفائف-التناخ.jpg)
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/نسخة-من-كتاب-التناخ-في-المتحف-اليهودي-بسويسرا.jpg)
- الإسرائيلية:
- إسرائيل الاسم المقدس ذو الدلالات الدينية والأبعاد السياسية
إسرائيل هو اسم الدولة الحالي، وله قداسة كُبرى لدى اليهود، حيث إنه مستمد من العهد القديم.
بعد قيام الدولة اليهودية عام ١٩٤٨، استقرت الحكومة آنذاك على تسمية الدولة الوليدة “إسرائيل”. وقد وقع الاختيار على هذا الاسم من بين عدد من الأسماء المقترحة لسببين مُهمين، ربما يفسران ملامح العقيدة اليهودية التي يؤمن بها اليهود باعتبارهم شعب الله المختار، وكذلك الأيديولوجيات الفكرية والسياسية التي قامت عليها دولة إسرائيل، ولا تزال تطبقها حتى الآن. السبب الأول هو التأكيد على أن اليهود لن يشتتوا في بقاع الأرض مرة أخرى، وستكون لهم دولة واحدة مستقرة. أما السبب الثاني فهو ترسيخ فكرة الدولة المقدسة المباركة من الله والمستمدة شرعيتها من السماء. ونستوضح ذلك فيما يلي وفقًا لما يرد في العهد القديم، أو بالأحرى وفقًا لما يؤمن به اليهود.
تُشير كلمة “إسرائيل” في العهد القديم إلى النبي “يعقوب”، وهي كلمة عبرية قديمة مُكوَّنة من مقطعين؛ المقطع الأول (سرى) بمعنى (غالب أو منتصر)، والمقطع الثاني (إيل) بمعنى (الإله أو الله). وعلى هذا يُكَوِّن المقطعان مجتمعان معًا معنى (غالب الرب أو المنتصر على الله). هذه التسمية كانت نتاج واقعة واردة في التوراة، تذكر أن الله تجسد في هيئة رجل، وصارع يعقوب، فغُلب. وهي على النحو التالي:
“وبقيَ يعقوبُ وحدَهُ، فصارَعَهُ رَجلٌ –في بعض النسخ (إنسان)– حتى طُلوعِ الفَجرِ. ولمَّا رأَى أنَّه لا يقوى على يعقوبَ في هذا الصِّراعِ، ضرَبَ حُقَ –أي تجويف– وِرْكِ (يعقوب)، فاَنخلَعَ. وقالَ لِيعقوبَ: طَلَعَ الفجرُ فاَترُكْني!، فقالَ يعقوبُ: لا أتْرُكُكَ حتى تُبارِكَني، فقالَ الرَّجلُ: ما اَسمُكَ؟، قالَ: اَسمي يعقوبُ، فقالَ: لا يُدعَى اَسمُكَ يعقوبَ بَعدَ الآنَ، بل إِسرائيلَ، لأنَّكَ غالَبْتَ اللهَ والنَّاسَ وغلَبْتَ” (سفر التكوين، الإصحاح ٣٢، الآيات ٢٤: ٢٨).
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/لوحة-يعقوب.jpg)
لوحة رامبرانت توجد حاليًا في “معرض لوحات” Die Gemäldegalerie الواقع في منطقة “المنتدى الثقافي” Das Kulturforum ببرلين
بعد هذه الواقعة أو “المباركة الربانية” أُطلق على أبناء يعقوب الاثني عشر وذُريتهم ونسلهم “بنو إسرائيل”، وبالتبعية أينما حلوا في مكان أو استوطنوه أُطلق عليه “بيت إسرائيل” أو “أرض إسرائيل”، لذا تُسمى (فلسطين) في المتن التلمودي (التوراة الشفاهية) –ويقصد بها تفسير النص المكتوب وشرحه من قبل الحاخامات– (إيريتس يسرائيل) أي (أرض إسرائيل)، لأن الله أعطي بني إسرائيل أرض الكنعانيين (الوثنيين) أي فلسطين، وأمرهم بإبادة شعبها على بكرة أبيهم حتى لا يضلون بني إسرائيل عن دينهم، وذلك بحسب النص التوراتي، حيث جاء فيه:
“وَيَكُونُ مَتَى أدْخَلَكَ الرَّبُّ أرْضَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأمُورِيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ –شعوب أرض كنعان– الَّتِي حَلَفَ لِآبَائِكَ أنْ يُعْطِيَكَ أرْضًا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا” (سفر الخروج، الإصحاح ١٣، آية ٥).
كما جاء في قسم الأنبياء بالعهد القديم:
“فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ –شعب من أعداء بني إسرائيل– وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ، بَلِ اُقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا” (سفر صموئيل الأول، الإصحاح ١٥، آية ٤).
بالإضافة لما سبق، تُشير كلمة “إسرائيل” في العهد القديم إلى “مملكة إسرائيل” التي جمعت تحت لوائها كل أسباط بني إسرائيل. وقد سماها باحثو التوراة “مملكة إسرائيل الموحدة” للتفريق بينها وبين مملكتين انفصلتا عنها لاحقًا، وهما مملكة (إسرائيل) أو (إفرايم)، ومملكة (يهوذا). يُقدِّر معظم دارسي العهد القديم، تبعًا لما جاء فيه، عمر هذه المملكة بأكثر من 100 عام، أي منذ سنة 1050 حتى سنة 930 قبل الميلاد تقريبًا. تولى حُكم مملكة إسرائيل الموحدة شاؤول –طالوت في القرآن – وهو أول ملوك بني إسرائيل، وأعقبه على حكمها كل من داوود وابنه سليمان.
تُجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن داوود وسليمان في العهد القديم ملكان عظيمان توحد اليهود تحت حُكمهما، وليسا نبيين من أنبياء بني إسرائيل كما هو مذكور في القرآن.
هذا هو معنى إسرائيل كما يراه ساسة هذه الدولة وحاخاماتها، وهذه هي لمحات من العقيدة اليهودية كما يؤمن بها أهلها.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/لوحة-شاؤول-وداوود.jpg)
- الصهيونية:
نشأة الصهيونية وتطورها وقيام الدولة: هرتزل ووايزمان وبلفور
الصهيونية هي حركة سياسية يهودية المذهب، ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي بوسط القارة الأوروبية وشرقها. وقد دعت هذه الحركة إلى هجرة اليهود من جميع أنحاء العالم إلى أرض فلسطين بحُجة أنها أرض الأسلاف المقدسين (النبي يعقوب وبنيه الاثني عشر)، أو كما تُعرف في التوراة الشفاهية “أرض إسرائيل” كما أسلفنا القول. كما دعت الحركة إلى رفض تعايش اليهود واندماجهم مع الأمم الأخرى من أجل التحرر من أفكار معاداة السامية والاضطهاد الديني والشتات في بقاع الأرض.
يرى مؤسسو الحركة الصهيونية الأوائل وأخلافهم وأتباعهم وأنصارهم أنها حركة تحرير وطنية، تهدف إلى إعادة شعب مضطهد إلى موطن أجداده، كان يعيش في أقليات دينية بمختلف دول العالم شرقًا وغربًا.
وقد ساهمت محرقة “الهولوكوست” ودعاوى المظلومية في إقناع اليهود بأفكار هذه الحركة، وترك أوطانهم الأم حيث ولدوا وعاشوا، والهجرة إلى فلسطين والاقتتال عليها. لكن الصهيونية في جوهرها هي حركة سياسية ذات أيديولوجيات استعمارية وعنصرية، روجت عبر تاريخها إلى استخدام العنف والقتل إبان الانتداب البريطاني على فلسطين، وتسببت في نزوح العديد من الفلسطينيين إلى دول الجوار، ثم إنكار حقهم في العودة إلى أراضيهم وممتلكاتهم المسلوبة خلال حربي 1948 و1967.
والحقيقة لو اتخذنا ما دعا إليه مؤسسو الحركة صهيونية معيارًا أساسيًا من معايير السياسيات الدولية، فسيكون على العرب المسلمين المطالبة بحقهم التاريخي في إسبانيا، وسيكون على الهنود أيضًا المطالبة بحق عودتهم إلى الأراضي الأمريكية باعتبارهم السكان الأصليين، هذا فضلًا عن مطالبة الأفغانيين بحقوقهم التاريخية في كل من طاجيكستان وباكستان وإيران، و… القائمة في هذا الصدد تطول.
الانتداب البريطاني على فلسطين (1920: 1927)
كانت الحماية البريطانية قد فُرضت على فلسطين وشرق الأردن بموجب “معاهدة سيفر” الموقعة بين قوى المركز (الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية النمساوية – المجرية، والدولة العثمانية، ومملكة بلغاريا)، ودول الحلفاء (بريطانيا العظمى، وفرنسا، واليابان، وإيطاليا) في 10 أغسطس 1920، وذلك عقب هزيمة قوى المركز في الحرب العالمية الأولى (1914: 1918)، حيث فُرض الانتداب البريطاني على فلسطين، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان. أما تركيا فقد تمكنت بعد حرب الاستقلال (1919: 1923) بين “الحركة الوطنية التركية” و”وكلاء دول الحلفاء” من نيل حريتها بموجب “معاهدة لوزان الثانية” الموقعة بين الجانبين في 24 يوليو 1923، حيث تأسست جمهورية تركيا الحديثة بزعامة “مصطفى كمال أتاتورك” على أطلال الدولة العثمانية في الأناضول وتراقيا الشرقية.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/عملة-المل.jpg)
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/50-مل.jpg)
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/خريطة-إقليم-جزيرة-العرب.jpg)
تأسيس الحركة الصهيونية
يُنسب تأسيس “الحركة الصهيونية” ومن بعدها “المنظمة الصهيونية العالمية” إلى الكاتب والناشط السياسي النمساوي المجري “تيودور هرتزل” Theodor Herzl الملقب بـ “الأب الروحي للدولة اليهودية”. لم يكن هرتزل أول ناشط أو مُنَّظِر صهيوني يدعو إلى إقامة دولة لليهود في أرض فلسطين، فقد سبقه عدد من الحاخامات يدعون إلى الفكرة نفسها أمثال الحاخامين السفرديين (الشرقيین) “يهودا بيباس” Yehuda Bibas، وتلميذه “يهودا القلعي” Judah Alkalai، والحاخام الألماني “تسفي هيرش كاليشر” Zvi Hirsch Kalischer، لكن هرتزل يعتبر “عَرَّاب” الرؤية النظرية والعملية للصهيونية الحديثة، لأنه أول من قدم إطارًا نظريًا للفكر الصهيوني وبرنامجًا عمليًا للحركة السياسية.
أسباب ظهور الصهيونية
يُرجِع البعض ظهور الحركة الصهيونية إلى أسباب عدة كان منها؛ فشل المسيحية الغربية في التوصل إلى رؤية واضحة لوضع الأقليات الدينية عمومًا، واليهود خصوصًا باعتبارهم “قتلة المسيح”، ثم الشعب الشاهد في “الرؤية الكاثوليكية”، وأداة الخلاص في الرؤية “البروتستانتية”.
كما لعب وضع اليهود في المجتمعات الغربية، كجماعات مستقرة ماديًا تعمل في جباية الضرائب وتحصيل الجمارك وسك العملة، وكذلك قطاعات التجارة والصناعة والزراعة ومنح القروض، دورًا كبيرًا في ظهور الطبقات البورجوازية المحلية والتيارات القومية والعلمانية، فاهتز وضع اليهود المادي في المجتمع الغربي، وشرعوا في البحث عن وظائف جديدة تدر عليهم ما كانوا يحصلون عليه من أموال وفيرة، وتوفر لهم ما كانوا يتمتعون به من مكانة مرموقة في المجتمع. هذا فضلًا عن احتدام النقاش بينهم حول قضية تحرير اليهود من قيود النفعية باعتبارهم فئة تنتفع منها المجتمعات الغربية.
بالإضافة لما سبق، يرى بعض محللي الحركات السياسية أن هناك عدة عوامل مجتمعة أدت إلى ظهور الحركة الصهيونية وساعدت على شحذ شوكتها مثل رهاب اليهود ومعاداة السامية، والاضطهاد الديني، والإبادة العرقية كالهولوكوست، والاستعمار الأجنبي لدول الشرق الأوسط.
مؤتمرات بازل ووعد بلفور
قام هرتزل بنشر كتاب “الدولة اليهودية” Der Judenstaat عام 1896، وطرح فيه أسباب معاداة السامية وكيفية علاجها، داعيًا إلى إقامة وطن لليهود على أرض فلسطين لما تتمتع به من مكانة دينية لدى اليهود وموقع جيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط، فاتصل بإمبراطور ألمانيا “فيلهلم الثاني” Wilhelm II –المعروف في المصادر العربية باسم “جليوم الثاني”– ونجح في الحصول على دعمه، كما اتصل بالسلطان العثماني “عبد الحميد الثاني”، لكن الأخير رفض طلبه.
في عام 1897 نظم هرتزل أول “مؤتمر صهيوني” في بازل بسويسرا، حضره ما يقرب من 200 مشارك من 17 دولة من جميع أنحاء العالم، من بينهم 69 ممثلًا عن مختلف الجمعيات اليهودية، أما باقي المشاركين فقد حضروا بصفة شخصية. صاغ المشاركون “برنامج بازل” أو “بيان بازل” الذي يعد أول برنامج سياسي للحركة الصهيونية، وشكل المؤتمر لجنته الدائمة، وكلفها بإنشاء فروع لها في مختلف أنحاء العالم.
عندما فشل هرتزل في مساعيه الدبلوماسية مع السلطان عبد الحميد الثاني، وجه جهوده نحو بريطانيا، لكن بريطانيا قدمت دعمًا ماليًا لإقامة الدولة اليهودية في “أوغندا”، فانشقت الحركة الصهيونية ما بين مؤيد ومعارض لهذا الاقتراح، كما رفضت الحكومة الأوغندية آنذاك إقامة دولة لليهود على أراضيها.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/مؤتمر-بازل-الأول-وفي-الواجهة-يظهر-هرتزل.jpg)
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/صورة-تذكارية-للمشاركين-في-مؤتمر-بازل-الأول.jpg)
توالى عقد مؤتمرات الحركة الصهيونية في بازل الواحد تلو الآخر، إلى أن تمكنت الحركة من تحقيق حلمها البعيد بإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين، بعد الحصول على وعدٍ من وزير الخارجية البريطاني “آرثر بلفور” Arthur Balfour المعروف تاريخيًا باسم “وعد بلفور” عام 1917، أعقبه الإعلان عن “قيام دولة إسرائيل” على أرض الواقع عام 1948، وذلك عن طريق الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية بطرق مشروعة وغير مشروعة، والتهجير الطوعي والقسري، والمذابح الوحشية التي شهدها الشعب الفلسطيني على مدار عقود طويلة، ولا تزال مستمرة حتى كتابة هذه السطور.
وقد دعمت بريطانيا فكرة إنشاء وطن لليهود لسببين رئيسين؛ أولهما الخوف من دعم اليهود الأمريكيين لألمانيا ضد الاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية، وثانيهما الضغط الكبير الذي مارسه المهاجر اليهودي روسي الأصل “حاييم وايزمان” Chaim Weizmann على الحكومة البريطانية.
وكان وايزمان قد طور عملية التخمير الصناعي بطريقةٍ ساعدت على إنتاج مركب “الأسيتون” Acetone السائل بكميات كبيرة، فعلى الرغم من أن الأسيتون يستخدم حاليًا في إزالة طلاء الأظافير، إلا أنه كان يستخدم في إنتاج مادة “الكوردايت” شديدة التفجير؛ وهي المادة الدافعة في القذائف الصاروخية والمدافع والأسلحة النارية، حيث استخدمتها بريطانيا خلال الحرب العالمية بشكل كبير، لذا حظي وايزمان برعاية البريطانيين وحمايتهم آنذاك.
يعتبر وايزمان ثاني شخصية مؤثرة في تاريخ اليهود السياسي بعد هرتزل، وأول من ترأس المنظمة الصهيونية العالمية ما بين عامي 1920 و1946، ثم اُنتخب كأول رئيس لدولة إسرائيل في عام 1949.
جدير بالذكر أن بعض كُتاب السياسة المتأدبين ينعتون كل مَن يعتنق أيديولوجية سياسية وينحاز لها بشدة بـ “صهيوني”، انطلاقًا من أن الصهيونية قامت منذ نشأتها على التعصب الفكري، لكن ما يثير الدهشة أن الكثيرين يستخدمون مصطلح “الكيان الصهيوني” في وصف إسرائيل كسُبة، مع أنه صفة يفتخر بها كل إسرائيلي يؤمن الفكر الصهيوني وعودة اليهود إلى أرض فلسطين وتأسيس دولة إسرائيل.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/وايزمان-وهرتزل.jpg)
الصهيونية: أصل التسمية
جبل صهيون: البقعة المقدسة والخلاص الفردوسي
مثلما قرر أعضاء الحكومة اليهودية أن يطلقوا على دولتهم الطُّفيلية على أرض فلسطين اسم “إسرائيل” لما له من دلالات دينية وأبعاد سياسية في العهد القديم، نسب مؤسسو الصهيونية حركتهم السياسية إلى كلمة “صهيون” لما لها من دلالات دينية وأبعاد سياسية في العهد القديم أيضًا، فقد هدف مؤسسو الحركة من اختيار هذا الاسم كما هدف مؤسسو الدولة التأكيد على قيام دولة اليهود الموحدة ذات القداسة الدينية والمباركة الإلهية.
الصهيونية مصطلح منسوب إلى كلمة “صهيون”، وهو اسم جبل شيد عليه النبي داوود عاصمة مملكته، حيث تلقبت المدينة باسم الجبل. كما عُرفت مدينة “أورشَليم” في العصور القديمة باسم “صهيون”. وأورشَليم هو اسم مدينة (القدس أو القدس الشريف أو بيت المقدس) كما تذكرها المصادر العبرية وترددها ألسنة اليهود.
وقد وردت كلمة “صهيون” في “العهد القديم” حوالي 200 مرة، أما “مدينة داوود” المذكورة؛ فتوجد آثارها الآن في الناحية الجنوبية من المسجد الأقصى بحي “وادي حلوة” في بلدة “سلوان” بالقدس الشرقية.
يقع “جبل صهيون” جنوب غربي مدينة القدس القديمة خارج أسوارها، لكنه يعتبر جزءً لا يتجزأ من المدينة.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/جبل-صهيون-من-ناحية-حي-أبو-طور-أبو-ثور.jpg)
أرض الميعاد
وفقًا لما جاء في العهد القديم، فإن جبل صهيون هو مسكن (يَهوَه) أي (الله) ومحل الخلاص على يد “المَشيَّح (الماشيَّح)” في العقيدة اليهودية.
و”الماشيَّح” أو “المَسيَّا” هي كلمة عبرية تعني “المسيح المُخلِّص”، وجاءت منها كلمة “مشيحيوت” أي “المشيحانية”؛ وهي الاعتقاد بـ “مجيء الماشيَّح”، والكلمة مشتقة من الفعل “مشح” أي “مُسح” بالزيت المقدس. وكان اليهود، على عادة الشعوب القديمة، يمسحون رأس الملك والكاهن بالزيت قبل تنصيبهما كعلامةٍ على أنهما قد وصلا إلى مكانة سامية ربانية، وأيضًا كعلامةٍ على أن الروح الإلهية أصبحت تحل فيهما وتسري. ويتسع مدلول كلمة ماشيَّح في العقيدة اليهودية ليضم كل أنبياء اليهود وملوكهم، وكل فرد يقوم بتنفيذ مهمةٍ خاصةٍ يوكلها إليه الله، كما توجد إشارات عديدة في سفر المزامير إلى أن الشعب اليهودي شعبٌ من “المشحاء (المُسحاء)”، والمقصود شعب “مبارك” أو “مختار” من قبل الله.
إلى جانب كل هذه المدلولات؛ تشير كلمة الماشيَّح في العقيدة اليهودية الآن إلى شخص مُرسَل من الله له قداسة خاصة، فهو إنسان سماوي ومُعجِز خلقه الله قبل دهور، يبقى في السماء حتى تحين ساعة إرساله. ويُسمى هذا الشخص “ابن الإنسان” لأنه سيظهر في صورة إنسانية لكن جوهره سيجمع بين الله والإنسان، لذا فهو محل الحلول الإلهي المكثف في جسد إنساني محدد. والماشيَّح ملك من نسل النبي داوود سيأتي بعد ظهور النبي “إيليا” –الذي سيأتي قبل مجيء الماشيَّح– ليعدل مسار التاريخ اليهودي، بل مسار التاريخ البشري كله، فيُنهِي عذاب اليهود، ويأتيهم بالخلاص، ويجمع شتاتهم، ويعود بهم إلى أرض الميعاد (جبل صهيون)، ويقضي على أعداء (بني إسرائيل)، ويتخذ أورشَليم (القدس) عاصمة له، ويُعيد بناء هيكل سليمان (البيت المقدس)، ويحكم بالشريعتين المكتوبة والشفوية (التوراة والتلمود)، ويُرجِع كل مجامع اليهود القديمة مثل “المجلس الأعلى” أي “السنهدرين” –ويُقصد به محل اجتماع اليهود وعبادتهم ومحكمتهم العُليا– ثم يبدأ الفردوس الأرضي الممتد ألف سنة.
والمسيح المخلِّص –أو المهدي المنتظر لدي الشيعة– هو معتقد يوجد في الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلامية على اختلاف مذاهبها، لكن مما لا شك فيه أن ظهور المسيح المخلِّص في اليهودية يختلف عن عودة المسيح بن مريم في المسيحية أو نزوله في الإسلامية في نهاية الزمان.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/مجسم-عام-للمدينة-المقدسة-القدس-لدى-اليهود-يتوسطه-معبد-هيرودِس-الهيكل-الثاني-بمتحف-إسرائيل.jpg)
لمحة من الماضي السحيق: حصن يبوس
صهيون كلمة عبرية تعني (حصن)؛ والمقصود به حصن “اليبوسيين”، وهم بناة القدس الأولون، وكانت تُدعى في عهدهم مدينة “يبوس” نسبة إليهم.
واليبوسيون بطن من بطون العرب “الساميين” الأوليين، نشأوا في قلب الجزيرة العربية، وترعرعوا في أرجائها، ثم نزحوا مع أقرانهم من القبائل الكنعانية، فاستوطنوا مدينة القدس. وأغلب الظن أن هذا الأمر حدث حوالي عام 3000 قبل الميلاد.
كان أول من خطط مدينة القدس وبناها ملك اليبوسيين “ملكي صادق”، وقد عُرف بالبَرَّ والجنوح إلى السلام، فأُطلق عليه “مَلك السلام”، ومن هنا جاء اسم المدينة “سالم” و”شالم” أي “السلام”. كما قيل إن “سالم” هو اسم إله “الغسق والعالم السفلي” لدي الكنعانيين، ومنه جاء اسم المدينة.
بعد “ملكي صادق” جاء الملك “سالم اليبوسي”، فزاد من أبنية المدينة، وشيد على الأكمة الجنوبية المعروفة حاليًا باسم “جبل صهيون” برجًا من أجل حماية المدينة والدفاع عنها من غارات المعتدين، فعُرفت المدينة من وقتها حتى الآن بالاسم الكنعاني “أورو – سالم” أي “مدينة السلام”، لذا فإن “أورشَليم” ليس اسمًا عبريًا كما يدعي اليهود لكنه كنعاني.
لما استقر المقام بالكنعانيين في القدس سُميت المنطقة وتُخومها بأرض (كنعان)، وكانوا قومًا ذا بأس وقوة، وكانت مدينتهم “يبوس” تتمتع بموقع حصين، حيث وقعت فوق تلال مرتفعة وطُوقت بسور عال وأبراج منيعة، لكن مع مرور الزمان تفرقت كلمة اليبوسيين، فاستغل العبرانيون –اليهود البدو الرُحَّل قبل تأسيس مملكتهم– الفرصة، وراحوا يشنون غاراتهم على يبوس الواحدة تلو الآخر إلى أن تمكن النبي داوود من احتلال “تل أوفيل” –تلال الظهور– الكائن في جنوبها والمطل على بلدة “سلوان”، فأصبحت عين “روجل” –سلوان أو أم الدرج حاليًا– ملك يده، وكانت هذه العين هي النبع الوحيد الذي يستقي منه اليبوسيون. على هذا النحو سقطت يبوس في أيدي العبرانيين عام 1049 قبل الميلاد، وأسسوا مملكتهم المستحدثة على أنقاض هذه المدينة، وتشبهوا بالكنعانيين في الهيئة ونمط الحياة.
لما دخل داوود يبوس أسرته بجمالها وبهائها، حيث كانت ذات حضارة وبها صروح ومنازل متقنة البناء، فاتخذها عاصمة مملكته، لكنه أبقى على اسمها الكنعاني (أورو – سالم)، واسماها (مدينة داوود).
تضم مدينة داوود الغابرة أو منطقة صهيون الحالية عددًا من الآثار الدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية، تعكس أسباب الخلاف الدائر بين أتباع الأديان السماوية الثلاثة حول حق كل منهم في السيطرة على مدينة القدس، لكن الحديث عنها يحتاج إلى مقام ومقال آخرين.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/بناء-حجري-مدرج-يدعي-اليهود-أنه-جزء-من-مدينة-داوود-حي-وادي-حلوة-–-بلدة-سلوان.jpg)
دولة إسرائيل الثيوقراطية
اليهودية والإسرائيلية والصهيونية مصطلحات ثلاثة تشكل أعمدة رئيسة، قامت عليها دولة إسرائيل منذ نشأتها ولا تزال ترتكز عليها حتى الآن؛ فهي بالترتيب الدين الرسمي والاسم التاريخي والأيديولوجية السياسية ذات الوسمة المقدسة. هي مصطلحات تشكل جوهر الحكومة الثيوقراطية في إسرائيل؛ نعم.. إن النظام الحاكم في إسرائيل نظام ثيوقراطي، فعلى الرغم من أن الحكومة الإسرائيلية لا تعتمر كيباهًا، ولا تطرح فوق رأسها طيلسانًا، ولا تجبر الرجال على إطلاق اللُحيّ والنساء على ارتداء العباءات الفضفاضة والبراقع، لكنها تطبق سياسات متطرفة تجاه كل من يعارضونها، وتدعوهم بـ “معاديّ السامية”، في حين أن مَن تتهمهم إسرائيل بمعاداة السامية هم في الأصل “ساميون”.
هذا التوجه المتطرف الذي تنتهجه الحكومة الإسرائيلية لا يختلف كثيرًا عن توجهات الجماعات الإرهابية التي تخفي أهدافها المغرضة وراء ستار ديني.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/11/منظر-عام-لمدينة-القدس-حاليًا-يتوسطه-المسجد-الأقصى.jpg)
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر