القاهرة – (رياليست عربي): أولاً: قبل الخوض في الكلام.. في العلاقات الدولية، لا صداقة تدوم ولا عداوة تدوم؛ فأصدقاء اليوم أعداء الغد، وأعداء اليوم أصدقاء الغد.. إن إيران ليست بُعبُعًا، ولم تفعل ما فعلته إسرائيل مع العرب كمثالٍ، لكن أنهار الدماء المراقة بنُصُول السيوف السُنية والشيعية على مدار مقاطع متعاقبة ومتقطعة من التاريخ الإسلامي كفيلة بأن تغرق الأرض وما عليها.. يكفي أن نستقرأ بتمعُّن ما جرى في عهد الخليفة عُثمان بن عفان وما تلاه من أحداث أسفرت عن تشرذم المسلمين أشياع وفرق ومذاهب متناحرة سنوات وسنوات كي نعي لمَ ينظر السُنة إلى الشيعة بحذر وتربُّص؟، ولمَ أصبح الشيعة غُلاة إلى حد القسوة والكراهية؟
ثانياً: إن العلاقات الإيرانية الخليجية جيدة في العموم، ومع بعض الدول شبه ممتازة كسلطنة عُمان وقطر والكويت. والقاصي والداني يعلم جيدًا أن مسقط تلعب عادة دور الوساطة في تحسين العلاقات الإيرانية مع أغلب دول العالم، خاصة في أوقات احتدام الأزمات بين طهران والغرب، هذا فضلًا عن دورها المحوري في إبرام الاتفاق النووي عام 2015. إذن القضية تكمن في دولتين السعودية والبحرين، وهنا نتوقف قليلاً:
– تقطن في المناطق الشرقية من المملكة العربية السعودية أقلية شيعية تثير قلق الأسرة الحاكمة ومخاوفها، وكان إعدام رجل الدين الشيعي “نمر باقر النمر” عام 2016 بتهمة إثارة الفتنة والتحريض على الإرهاب، ثم الهجوم على البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران السبب الرئيس في قطع العلاقات بين البلدين. فهل بعد اتفاق استئناف العلاقات الإيرانية السعودية المبرم بوساطة صينية، وما سيترتب عليه من تفعيل اتفاقيات التعاون الشامل بين الطرفين، ستكفل الرياض لأقليتها الشيعية حرية ممارسة الشعائر المذهبية والاندماج الحكومي والمجتمعي مع أغلبيتها السُنية؟ .. وهل سترفع طهران يدها عن دعم الحوثيين في اليمن الذين باتوا شوكةً تقض مضاجع حكام السعودية؟
– من الممكن اعتبار مملكة البحرين العقبة الحقيقية أمام تطبيع العلاقات الخليجية مع إيران. فقد كانت البحرين في العصور القديمة جزءًا من الإمبراطوريات الفارسية قبل الإسلام (الأخمينية والساسانية). وفي العهود الحديثة، وتحديدًا في عام 1815 استنجد أمير البحرين آنذاك الشيخ “سلمان بن أحمد بن محمد آل خليفة” بالمقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي “وليام بروس” William Bruce كي يحميه من غارات الإيرانيين والأتراك العثمانيين والصراعات القبلية على السلطة في عُمان وساحلها. ومنذ ذلك الوقت غدت البحرين تحت الحماية البريطانية بموجب اتفاقيات أعوام 1820 و1861 و1868 و1880 و1892 و1893 المبرمة بين حكام الدولة ومقيمي الحكومة البريطانية في الخليج إلى أن طلبت البحرين الاستقلال عن بريطانيا عام 1970، وحينها ادعت إيران بأن لها حق السيادة على هذه الدولة بحكم الخلفية التاريخية، وبالتالي لجأت البحرين إلى منظمة الأمم المتحدة مطالبةً بالاستقلال عن بريطانيا، حيث جاء في تقرير ممثل الأمين العام للمنظمة أن “الشعب البحريني يرغب في أن تكون دولته مستقلة وذات سيادة كاملة وحرة، تقرر بنفسها طبيعة علاقاتها مع الدول الأخرى”. وبناء عليه أصدر مجلس الأمن بالإجماع القرار رقم 278 في 11 مايو 1970 القاضي باستقلال البحرين عن بريطانيا، وهو القرار الذي نُفذ فعليًا في أغسطس 1971. لذا تنظر إيران إلى البحرين على إنها جزيرة واقعة على الخليج العربي – الفارسي من وجه النظر الإيرانية – تابعةً لها شأنها شأن الجُزر الإماراتية الثلاث طُنب الكُبرى وطُنب الصُغرى وأبو موسى. فهل ستتعامل إيران مع البحرين على أنها دولةٌ مستقلةٌ ذات سيادة أم جزيرةٌ تابعة لها؟ .. وهل البحرين لن تضع نصب أعينها أن إيران كانت أو لا تزال لديها مطامع استعمارية في أراضيها؟
ثالثاً: مثلت حقبة الزعيمين الراحلين محمد أنور السادات ومحمد رضا بهلوي العصر الذهبي في تاريخ العلاقات المصرية الإيرانية (1970: 1979)، وربما لم تشهد دولتان في العالم علاقةً وطيدةً مثلما شهدت القاهرة وطهران آنذاك. لكن مع اندلاع الثورة الإيرانية في عام 1979 قُطعت العلاقات بين البلدين بشكل كامل، وهي قطيعة لا يمكن مقارنتها بقطع العلاقات بين إيران وأية دولة خليجية أو عربية أخرى، لأن تلك القطيعة تنبع من أيديولوجيات سياسية وقومية وعقائدية متنافرة في كل من الدولتين، وليس حدث عابر يُمكن معالجته بين ليلة وضحاها.. نظرة إيران إلى السادات والسلام مع إسرائيل، شارع خالد الإسلامبولي الممتد في العاصمة طهران، علاقة إيران بالإخوان والتيارات الدينية المتشددة في المنطقة، رؤية إيران وتفسيراتها لثورتي 2011 و2013، حضور الشهبانو “فرح ديبا” كل عام إلى مصر وزيارتها لضريح الشاه القابع في مسجد رفاعي بوسط القاهرة إلى جوار ضريح عائلة الملك فاروق؛ جميعها قضايا لن تُحسم بالوجوه الباشة والربت على الأيادي والأكتاف والتشدق بخطب رنانة، لكنها تستدعي الجلوس إلى طاولة مفاوضات مباشرة وصريحة كي تُضع النقاط فوق الحروف، وتُحدد ملامح العلاقة في الوقت الراهن من قبل الجانبين.
رابعاً: صرح أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني “عليِّ شمخاني” خلال زيارته الأخيرة إلى الإمارات في 16 مارس، ولقائه بمستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ “طحنون بن زايد آل نهيان”، أن دول المنطقة بمثابة “أفراد عائلة واحدة”، داعيًا إلى التحاور وإبداء حسن النوايا لحل “الخلافات العائلية”.. ونحن في انتظار أن تنفذ الحكومة الإيرانية على أرض الواقع ما قالته على لسان مسؤولها الأمني. مصر على مدار تاريخها لم تكن لديها مشكلة مع أية دولة في العالم، ولم تتدخل في شؤون غيرها من الدول، لكن دول عديدة تريد التدخل في الشؤون المصرية والعبث باستقرارها وتغيير هويتها، فإن كفت هذه الدول عن مساعيها المغرضة، مما لا شك فيه أن مصر ستمد يدها لأية دولة تبرز حسن النوايا.
خامساً: إن إيران دولةٌ مهمةٌ وفاعلةٌ في المنطقة، وتمتلك مفاتيح حل العديد من القضايا الإقليمية، وشئنا أم أبينا لا يستطيع أحد أن ينكر الدور الإيراني في بقاء النظام السوري حتى الآن وإعادة ترتيب أروقة البيت العراقي. أما عن قضية المد الشيعي فقد أصبحت لقمةً مَلوكةً في أفواه الجميع، فنسبة الشيعة في دول الخليج حاليًا ليست قليلة.. سلطنة عُمان على المذهب الشيعي (الإِبَاضِيَّ)، والشيعة الاثنا عشرية والعلوية والزيدية ينتشرون في طول دول الخليج وعرضها – بالإضافة إلى وجودهم الواضح في عدد من الدول العربية الأخرى كسوريا والعراق ولبنان واليمن – والجالية الإيرانية في الكويت والإمارات واحدة من أكبر الجاليات الأجنبية في الدولتين.. إذن عن أي مد شيعي نتحدث في ظل هذا الوضع القائم منذ سنوات عديدة في دول مستقرة سياسيًا ومتوافقة مذهبياً!!
خلاصة القول.. يستطيع العرب ذوو الأغلبية السُنية أن يقيموا علاقات مع إيران الشيعية بما يتوافق مع مصالحهم القومية، وهو ما فعله السادات بحِنكة شديدة منذ سنوات عديدة. إن القضية الإيرانية ليست قضية تشيع، فالدولة الشيعية قائمة في البلاد منذ ما يزيد عن 5 قرون، لكن القضية الحقيقية هي الدولة الثيوقراطية المتمخضة عن الثورة “الإسلامية” والساعية إلى التمدد جيوسياسياً.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر.