رغم الصورة المُضطربة للعلاقات بين حلف “الناتو” وروسيا؛ التي أشارت إليها مُخرجات قمة لندن يوم الأربعاء الفائت (4 كانون الأول) في الذكرى السبعين لتشكيل الحلف، إلا أن لا جديد قدّمه اجتماع الدول الأعضاء في العاصمة البريطانية في هذا السياق، فالتوتر بين الجانبين بات أمراً اعتيادياً في ظل التحديات المستمرة التي تواجه الحلف الذي تتزعمه الولايات المتحدة.
مباحثات ساخنة
لقد كانت قمة “الناتو” المنتهية أعمالها الأكثر صعوبة خلال السنوات الماضية، بسبب العملية العسكرية “نبع السلام” (9 تشرين الأول) التي أطلقتها تركيا (1) ضد مناطق شمال شرقي سوريا لمواجهة “وحدات حماية الشعب” الكردية والتي تُشكّل العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، والذين تعتبرهم أنقرة خطراً على أمنها القومي وامتداداً لحزب العمال الكردستاني، فضلاً عن شراء أنقرة (2) لمنظومة الدفاع الجوي الروسية “S 400” مقابل اعتراض أعضاء في الحلف على ذلك، وفي سياق آخر نجد أزمة أخرى تمثلت بتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي وصف استراتيجية الحلف بأنها “ميتة إكلينيكيا”، فضلاً عن أن باريس كانت من أشد المعارضين للعملية العسكرية التركية.
كانت التوقعات قبل بدء أعمال اجتماع أعضاء “الناتو” أن يكون الملف السوري أشد الملفات سخونة على طاولة مباحثات الدول المتدخلة في الشأن السوري، وذلك في ظل الرفض الذي لاقته عملية “نبع السلام” من قبل دول أوروبية وعلى رأسهم فرنسا (3)، فضلاً عن الموقف التركي المساوم ما بين دعم أنقرة للخطة الدفاعية الذي يريده “الناتو” انتهاجها في دول البلطيق وبولندا، وما بين اشتراطها (4) الموافقة لهذه الخطة بشرط تلقيها الدعم السياسي لمحاربتها وحدات “حماية الشعب” الكردية بشمال سوريا، وفرض تثبيت إقامة “المنطقة الآمنة”.
بات أمام أعضاء “الناتو” تحديات جديدة تضاف إلى قائمة التحديات السابقة، فمن ناحية لا يزال خطر تنظيم “داعش” الإرهابي يجثم على صدور الغربيين لأكثر من 5 سنوات، و ليضاف إلى هذا التحدي الملف المتعلق بمعتقلي “داعش” الأجانب المحتجزين لدى “قسد”، حيث ترفض الدول الأوروبية استلام العناصر الحاملة جنسياتها (5)، فضلاً عن تحدي احتواء الخروج البريطاني المرتقب من كنف الاتحاد الأوروبي ومعالجة تأثيراته على مناخ الحلف، مقابل تململ فرنسي من استراتيجية الحلف (6) ما قد ينذر بفكفكة التكتل الأوروبي في “الناتو”، فيما انضمت الصين إلى روسيا بالنسبة للدول التي أشار أعضاء “الناتو” إلى ضرورة مواجهتها؛ (7) وهو البيان الأول الذي يعترف بالتحدي الاستراتيجي المتزايد الذي تمثله الصين.
ولكن يبقى التساؤل هنا في مدى إمكانية المواجهة مع موسكو في الوقت الذي أبقى فيه الحلف على احتمال إقامة “علاقة بناءة مع روسيا عندما تجعل تصرفات روسيا ذلك ممكناً”، وقال أمين عام “الناتو” ينس ستولتنبرغ؛ حول ذلك (8) أنهم يؤمنون بالحوار مع روسيا ويحتاجون علاقات أفضل معها.
روسيا على أبواب الناتو
يُدرك أعضاء الحلف أن روسيا أصبحت على أبواب “الناتو” من خلال زيادة نفوذها في الملف السوري بعد التواجد في مناطق شمال شرقي سوريا وتطوير علاقاتها في هذا الملف مع الشريك التركي (العضو في الحلف)، بل وحتى من خلال إقامة قواعد عسكرية لها قبالة قاعدة الحلف في تركيا (انجرليك)، ابتداءً من قاعدة حميميم في محافظة اللاذقية (9)، وصولاً إلى قاعدة القامشلي (القريبة من الحدود التركية) والتي نقلت لها روسيا معدات عسكرية “َضخمة” خلال الأيام القلية الماضية (10).
ولا يبدو في هذا المقام أن تركيا خارج إطار التنسيق مع الشريك الروسي ضمن نطاق اتفاقها الموقع في سوتشي حول مناطق شمال شرقي سوريا (11)، وهو ما قد بدأ تنفيذ بنود عدة منه كان أهمها تسيير دوريات مشتركة (روسية-تركية) ضمن مناطق الاتفاق (12)، ما يعني بشكل جلّي عمق التفاهمات الآخذة في التوسع بين أنقرة وموسكو انطلاقاً من الملف السوري بشكل أساسي، و ما يُصعّب الأمور أكثر على قيادة “الناتو” في تحريك أدوات مواجهتها صوب الجانب الروسي؛ الذي بات على “مرمى حجر” من حدود “شمال الأطلسي”.
كل ذلك يفسر دعوة الرئيسان الأميركي دونالد ترامب، والفرنسي إيمانويل ماكرون في قمة “الناتو” الأخيرة، إلى الحوار مع روسيا، حيث قال ماكرون إنه من المستحيل بدون موسكو بناء بنية أمنية أوروبية جديدة، معتبراً أن الحوار الاستراتيجي مع روسيا ضروري، في حين قال ترامب أنهم يستطيعون ترتيب العلاقات مع موسكو، مشيراً إلى اتجاهات محددة للتعاون مع روسيا (13).
ماذا تحمل الأيام المُقبلة؟
لا يقتصر الأمر فقط على تفاهم مشترك بين أنقرة وموسكو على الصعيد العسكري في الملف السوري، أو نجاح روسيا في تثبيت نفوذها من خلال إنشاء قواعد عسكرية ذات أهمية استراتيجية عالية، سواء إن كان يتصل بعلاقة روسيا مع الناتو؛ أو دور روسيا المحوري في الملف السوري و الذي يحكم مسائل عديدة في المنطقة، بل ما حققه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال عقد القمة الرباعية الخاصة بالشأن السوري على هامش قمة لندن بين زعماء فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا (14).
حيث تم الاتفاق على تهيئة الظروف لعودة اللاجئين السوريين على نحو آمن وطوعي ومستدام وذلك ما أكد على إيجابيته أردوغان، في إشارة إلى أن تمرير موافقة أنقرة على الخطة الدفاعية لحلف “الناتو” (15) كان يتصل بموافقة “كبار” الحلف على دعم تركيا في مشروعها بسوريا والمتعلق بشكل أساسي بتثبيت “المنطقة الآمنة” التي تريدها أنقرة؛ و كانت موسكو وافقت عليها ضمن آلية واستراتيجية يتم بناء دعائمها لها بين الطرفين.
إن بند دعم عودة اللاجئين السوريين المشار إليه آنفاً؛ قد يكون منح موسكو خلال الفترة المقبلة ورقتين كانت تضغط بشأنهما على الدول الأوروبية على وجه الخصوص، أولهما الدعوة الفعلية لتحريك ملف عودة اللاجئين وهو ما سيتحقق بصورة أولية عبر دعم دول الحلف لتثبيت “المنطقة الآمنة”، ما يعني عودة لاجئين سوريين إلى المنطقة الآمنة التي تنادي بها تركيا وأسست لها عملياتياً من خلال معركة “نبع السلام” بعد سيطرتها والقوات السورية المعارضة المدعومة من قبلها على مناطق حدودية في شمال شرقي سوريا (شرق الفرات).
و تتلازم مسألة عودة اللاجئين إلى “المنطقة الآمنة” مع ضرورة تمهيد البنى التحتية لهذه المنطقة وهو ما يعني عملياً البدء بمرحلة أولية في “إعادة إعمار” هذه المنطقة، الأمر الذي يُفسح المجال لتعميم هذه الجزئية على مناطق أخرى من سوريا لاحقاً، وذلك أيضاً خطوة كانت تدفع روسيا للمضي بها.
وفي السياق ذاته فإن دعم تثبيت “المنطقة الآمنة” يقضي بموافقة ضمنية على التوافق الروسي-التركي حول تفاهمات “المنطقة الآمنة”، ما يبدد مساعي التدخل الغربي عبر “الناتو” في هذه المنطقة، الأمر الذي ينسجم مع التوجه الروسي الذي كان يرفض أي مشاركة دولية في هذه المنطقة (16).
المصادر:
(1) عملية “نبع السلام”.. قوات تركيا والمعارضة السورية تبدأ هجوما بريا شرق الفرات، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر نوفمبر 2019، الرابط
(2) روسيا تعلن موعد دخول “إس-400” الخدمة القتالية في تركيا، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
(3) توتر بين تركيا وفرنسا.. ماكرون ينتقد “نبع السلام” وجاويش أوغلو يتهمه بدعم الإرهاب، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
(4) مصدر تركي: لن نتراجع عن موقفنا بشأن خطط الناتو الدفاعية، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019 الرابط
(5) لماذا ترفض أوروبا استعادة مواطنيها المنتمين لتنظيم الدولة؟، تاريخ الدخول، 7 نوفمبر 2019، الرابط
(6) ماكرون: حلف الناتو ميت سريريا والاتحاد الأوربي في مهب الريح، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
(7) رغم تبادل الإهانات.. قادة الناتو يتفقون على “روسيا والصين”، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
(8) أمين عام الناتو: نؤمن بالحوار مع روسيا والحاجة إلى علاقات أفضل معها، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
(9) مدرج وحظائر للطائرات.. روسيا توسع قاعدة حميميم السورية، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
(10) قافلة روسية ضخمة تصل إلى قاعدة القامشلي الجوية شمال شرقي سوريا، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
(11) بنود الاتفاق الروسي – التركي بخصوص الوضع في شمالي سوريا، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
(12) تسيير دوريات روسية تركية في عين العرب شمالي سوريا، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
(13) في قمة الناتو الأخيرة.. ترامب وماكرون يدعوان للحوار مع روسيا، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
(14) تعرّف على أبرز مخرجات اجتماع لندن الرباعي حول سوريا، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
(15) أردوغان يوضح سبب موافقته على خطة الناتو للبلطيق وبولندا، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
(16) لافروف: نرفض سيطرة الناتو على المنطقة الآمنة في شمال سوريا، تاريخ الدخول، 7 ديسمبر 2019، الرابط
مالك الحافظ- باحث و محلل سياسي، خاص لوكالة أنباء “رياليست”