لم تعد الآمال المخادعة والوعود الكاذبة من قبل الحكومات العربية لشعوبها تجدي نفعاً، لقد طمى الخطب حتى غاصت الركب في وحل التردي السياسي والاقتصادي، في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، خرج آلاف المتظاهرين إلى شوارع العاصمة بغداد ومدن الجنوب يهتفون ضد الفساد والبطالة والمطالبة باستقالة رئيس الحكومة عادل عبد المهدي وتغيير النظام السياسي، فما كان من الحكومة إلا أن فرضت حظر التجول في البلاد، ومع تصاعد وتيرة الاحتجاجات وعدت الحكومة بإصلاحات، ولكن المتظاهرين وجدوا أن الحكومة تأخرت في قراراتها، فاستمروا في التظاهر بالرغم من زيادة عدد الشهداء في صفوفهم كل يوم.
بعدها بقليل رأينا لبنان في17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، يحتج هو الآخر بعد أن أقرّ مجلس الوزراء فرض حزمة ضرائب جديدة، منها زيادة الرسوم على المشتقات النفطية والسجائر، وفرض رسم 6 دولارات على الاتصالات بواسطة تطبيق واتساب، قطع المتظاهرون الطرق وأعلنوا إضراباً مفتوحاً حتى استقالة الحكومة. لاحقاً استقال عادل عبد المهدي في العراق واستقال سعد الحريري في لبنان ولكن المتظاهرين في كلا البلدين باتوا يطالبون بتشكيل نظام سياسي جديد بالكامل في بلدانهم بعيداً عن المحاصصات المذهبية والطائفية، يريدون وجوهاً مستقلة بعد أن ملُّوا الوجوه الموجودة في السلطة منذ الغزو الأمريكي على العراق 2003، أو في لبنان من بعد اتفاق الطائف1989.
قواسم مشتركة كثيرة بين التظاهرتين أو الاحتجاجين في بغداد وبيروت لسنا بصدد شرحها بالتفصيل، ولكننا سنركز على مشهد حضور إيران على خلفية هذه الاحتجاجات.
تأثير إيران الواسع على العراق
في العراق رأينا المتظاهرين ينددون بالوجود الإيراني على أراضيهم في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، حاول المتظاهرون إشعال النار في مبنى القنصلية الإيرانية في النجف مرتين خلال أسبوع، المدينة الشيعية المقدسة الكبيرة، في حين تمّ عرض الأعلام العراقية على واجهة مبنى القنصلية للتعبير عن رفضهم للتدخل الإيراني، وكان المشهد نفسه قد حدث بالفعل قبل عام في القنصلية الإيرانية في البصرة.
منذ الغزو الأمريكي للعراق في 2003 قامت عدة احتجاجات، لكنها المرة الأولى التي يأخذ فيها الاحتجاج هذا المنحى الواسع. بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، أصبح تأثير إيران واسع الانتشار على جميع مناحي الحياة في العراق: سياسي واجتماعي واقتصادي (إيران هي أكبر شريك تجاري للعراق). يتمّ تمويل الكثير من المدارس والمراكز الثقافية من قبل طهران، التي تسلّح أيضا مليشيا “الحشد الشعبي” الذي يتهمه ناشطون بقمع المتظاهرين أما الأخير فينفيها دائماً.
لقد خنقت الحكومة العراقية الشعب على حساب دعم عملاء إيران، والعراق بلد يعاني من البطالة فيه أكثر من خُمس شبابه بلا عمل، أضف أن لا استقرار فيه منذ عقود، يعتبر العراق من أكثر الدول فساداً في العالم فهي تحتل المرتبة 168 من بين 180 دولة من قبل منظمة الشفافية الدولية غير الحكومية. إيران تقلق من الاحتجاجات التي تجتاح المدن الشيعية في العراق كما تعبر عن استيائها من احتجاجات لبنان.
حزب الله حصان إيران في لبنان
في بلد الأرز أيضاً بلغ السخط الشعبي ذروته، اللبنانيون يتظاهرون ساخطون على قادة فاسدين وغير قادرين على استعادة الاقتصاد الذي بات على وشك الانهيار، لبنان ينهار تحت دين يعادل 150 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وأكثر ذلك فإن واحد من كل أربعة أشخاص يعيشون تحت خط الفقر.
زعيم حزب الله حسن نصر الله “حصان إيران” في لبنان حذر من أن تؤدي الاحتجاجات التي تجتاح لبنان إلى حرب أهلية، رافضاً الدعوات المطالبة باستقالة الحكومة أو إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، لم يعد كلامه مقنعاً كما كان من قبل ولأول مرة منذ 30 عاماً تصل المظاهرات إلى المناطق الشيعية التي يهيمن عليها حزب الله وحليفه حركة أمل، حيث هاجم المتظاهرون العديد من ممثلي الحزبين في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أشعل المتظاهرون النار في مكتب النائب محمد رعد، أحد الشخصيات الرئيسية لحزب الله، في معقله في النبطية، جنوب لبنان، لم يسبق أن حدث مثل ذلك من قبل، حيث غالباً ما يتعرض معارضو حزب الله للترهيب والانتقام الشديد.
إذا بقي نصر الله متجاهلاً الشعارات التي ينادي اللبنانيون بها فإن “حصان طهران” سيخسر كثيراً لأنه يساند سياسيين فاسدين ليبقوا في الحكم. بعد استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري في 29 أكتوبر/ تشرين الأول، طالب المحتجون بتشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراط مستقلين عن الأحزاب الحاكمة، تكون مسؤولة عن تنظيم انتخابات مبكرة. إذا نجحت هذه الانتخابات فإن هذه الصيغة ستخلق مشكلة بالنسبة لحزب الله فهو الميليشيا الوحيدة التي لم تتخلَّ عن أسلحتها بعد الحرب الأهلية في لبنان.
يعتمد حزب الله على غطاء سياسي داخل السلطة التنفيذية اللبنانية لإضفاء الشرعية على وجود ترسانته العسكرية، ونجح حزب الله، بتحالفه في عام 2005 مع حزب التيار الوطني الحر، الذي شكله رئيس الجمهورية ميشال عون، لتعزيز وجوده على الساحة السياسية اللبنانية. في الانتخابات الأخيرة في عام 2018، تمكن حزب الله مع حلفائه من الحزب الشيوعي وحركة أمل من الفوز بأغلبية برلمانية نسبية. من المرجح أن تزيل رياح التظاهرات التي في لبنان اليوم هذه المكاسب، مما يثير جزع طهران حيث سيتم اختبار الحزب لأول مرة في صناديق الاقتراع.
خامنئي يتهم وبلاده تتورط
في 30 أكتوبر/ تشرين الأول حمَّل المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي الولايات المتحدة وإسرائيل، المسؤولية عن أعمال الشغب وانعدام الأمن في العراق ولبنان، واتهم دولاً غربية أخرى بأموال بعض الدول الرجعية في زعزعة استقرار البلدين وقال “أكبر ضربة يمكن أن يوجهها الأعداء إلى أي بلد هي أن يسلبوه الأمن”. لكن إيران نفسها لم تستطع أن توقف مد الاحتجاجات التي وصلت إليها منذ 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 وأصبحت مسرحاً لمظاهرات كبرى ضد الارتفاع المفاجئ في سعر البنزين. إيران اليوم في وضع لا تحسد عليه بسبب إخفاقها في سياساتها الداخلية والخارجية فبعد أن كانت سبباً في إغراق الكثير من دول المنطقة في دوامة كبرى من الفوضى والحروب نجدها اليوم تغرق معهم.
خاص وكالة “رياليست” – فراس الراعي، كاتب سوري.