دمشق – (رياليست عربي): لم يكن الهجوم الإسرائيلي الذي تعرضت له طهران مؤخراً، سوى جُزئية في مسار الصراع المضبوط بدقة بين البلدين، ولا يمكن النظر إلى هذا الصراع إلا وفق منظور “مسرحي” تُوظف من خلاله الأدوات السياسية والعسكرية، لإبقاء حالة الردع والردع المضاد في أعلى مستوياتها، وبصرف النظر عن قيام إسرائيل باستهداف العمق الإيراني وما تلا ذلك من تصريحات وسيناريوهات تبتعد جملةً وتفصيلاً عن ماهية وحقيقة الصراع الذي يحكم البلدين، إلا أن واقع الصراع بمعطياته الإقليمية الحالية يؤكد بأن كل ما يحدث لجهة الاستهداف والاستهداف المضاد بين طهران وتل أبيب وبشكل مباشر بعيداً عن الأذرع والأدوات، يجري وفق سيناريو بمعطى واحد يتمحور حول عدم رغبة الطرفين بالانجرار إلى مواجهة أعمق، وإبقاء الصراع وفق مساراته الحالية، مع الإبقاء على حالة استثمار التطورات في المنطقة.
على هامش ما سبق، فإن الهجوم الإسرائيلي الذي تعرضت له طهران، خلط الأوراق مجدداً أمام القيادة الإيرانية التي اعتبرت أنها استطاعت استعادة قوة الردع في الهجوم الصاروخي الذي قامت به مستخدمةً مئات الصواريخ البالستية، بعد أن تعرضت منظومة محور المقاومة لـ صدمة كبيرة جراء اغتيالات طالت رأس إيران الإقليمي، عبر اغتيال إسماعيل هنية في طهران وحسن نصر الله في لبنان، وضمن ذلك فإن الرد الإسرائيلي أجبر إيران على الوقوف أمام خيارين، إحداهما الرد على الهجوم الإسرائيلي لإعادة معادلة الردع والردع المضاد إلى سيرتها الأولى، وإما الصمت الإستراتيجي المؤطر بـ الرضوخ للضغوط الدولية والإقليمية بعدم الرد وجر المنطقة والعالم ووضعهما أمام إمكان دخول حرب مفتوحة على جميع الاحتمالات.
أمام ما سبق فإن القيادة الإيرانية وعلى رأسها المرشد، كانوا يدركون بأن إسرائيل سترد على الهجوم الصاروخي الذي قامت به طهران ضد أهداف عسكرية في مطلع تشرين الأول الماضي، وأن إيران ضمن هذا ستكون أمام اختبار الرد على الهجوم الإسرائيلي من أجل تثبيت قدرتها على الردع، ومنع المساس بسيادتها الإستراتيجية أمام أي اعتداء، لكن اليوم فإن القيادة الإيرانية تبحث عن آلية للرد. هذه الآلية المعقدة ستكون مضبوطة بدقة ضمن خيارات التصعيد أو التهدئة، خاصة أن القيادة الإيرانية تدرك بأن طبيعة وآلية الرد ستكون مصيرية لـ إيران حيال استقرارها وموقعها ودورها إقليمياً ودولياً.
بهذا المعنى فقد بدا واضحاً أن إيران وساستها ومُنظروها حاولوا الابتعاد عن تضخيم الاستهداف الإسرائيلي الذي كان مؤلماً، وبذات التوقيت فإن المرشد الإيراني وضع الحدث في إطاره السياسي الاستثماري الذي يمكن من خلاله التوصل إلى تفاهمات إقليمية حيال نفوذ إيران ومسار الحرب في لبنان وفلسطين، وذلك عندما دعا إلى عدم التقليل من شأن الهجوم الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه دعا أيضاً إلى عدم تضخيمه وتقديم خدمة مجانية للعدو، وفي ذات السياق فإن ما رسمه المرشد لجهة مسار التصعيد بين طهران وتل أبيب، يُعيدنا إلى القول بأن أسس الصراع بين البلدين لا يمكن النظر إليها إلا وفق منظور مسرحي تُوظف من خلاله الأدوات السياسية والعسكرية، وبهذا المعنى فإن المرشد حين يتحدث عن أن إيران لن تتردد في الرد على أي اعتداء، وفي الوقت نفسه لن تتسرع في هذا الرد، فإن ذلك يأخذنا مباشرة إلى جملة من المعطيات السياسية والخيارات الدبلوماسية.
صحيح أن إيران صرحت بأنها تحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين على الاستهداف الإسرائيلي، إلا أن الصحيح أيضاً بأن المسار السياسي والدبلوماسي الذي تُهندسه القيادة الإيرانية يشي بوجود توجهات لـ إفساح المجال أمام الفرص الجديدة التي يمكن أن تؤدي إلى إعلان وقف لإطلاق النار المتزامن على جبهتي لبنان وغزة، تمهيداً لإطلاق عملية سياسية جدية تشمل مستقبل الصراع والأزمة الإقليمية الحالية.
قد يكون ما أعلنه مصدر إيراني بأن طهران قد ترد على الهجوم الإسرائيلي قبل الانتخابات الأميركية، ورقة ضغط يتم إشهارها في هذا التوقيت، بغية إجبار الولايات المتحدة على وقف إطلاق النار في لبنان وغزة بشكل متزامن، وهذا ما يمكن أن يُجنب إيران الرد على الاستهداف الإسرائيلي المباشر لها، خاصة أن القيادة الإيرانية تدرك خطورة هذه المرحلة ودقتها إقليمياً، ولا ضير من توظيف إمكانية الرد، بغية فرض معادلة واضحة ترتكز على التخلي عن حقها في الرد مقابل التوصل إلى اتفاق لوقف طلاق النار في لبنان وغزة، ضمن الشروط التي لا تسمح بإلحاق الهزيمة بحليفيها حزب الله وحماس.
ما تبحث عنه طهران هو الابتعاد عن التصعيد والمواجهة المفتوحة مع إسرائيل، لكن في المقلب الآخر فإن إيران تدرك بأن فشل التوصل إلى معادلتها حيال وقف إطلاق النار، يعني بأنها ستكون مُضطرة إلى الرد من أجل إعادة ضبط معادلة الردع مع إسرائيل، وعليه فإن طهران ترجوا أن يتحقق مسار السلم الذي ترغب به، فهي من جهة لا ترغب بالدخول في مواجهة مفتوحة مع تل أبيب، لا سيما أن هذه المواجهة قد تؤدي إلى إضعاف إيران وسحب جميع أوراق القوة الإقليمية من يدها، من بوابة توجيه ضربة قاسية وقاسمة لرأس حربتها في لبنان، ما يعني إجبارها على العودة إلى داخل حدودها والتخلي عن نفوذها الإقليمي، وغياب تأثيرها كـ فاعل مؤثر في معادلات المنطقة.
واقعاً فإن طهران وفي حال تبنيها خيار التصعيد ضد إسرائيل، فإن ذلك يعني جُملة من التداعيات السلبية التي ستطال النفوذ الإيراني في كل المنطقة، وتقليم أظافرها عبر توجيه ضربات مركزة تطال أدواتها في كل مناطق نفوذها الإقليمي، نتيجة لذلك فإن طهران أمام تحدٍ من نوع آخر. هو تحدٍ يرتبط بتغليب لغة الدبلوماسية التي قد تُتيح لها “أي طهران” البقاء على طاولة الحلول والتسويات القادمة، فهي لا تريد خسارة المشاركة في صياغة معادلة الحل في المسألتين الفلسطينية واللبنانية، وتحقيقاً لذلك فإن طهران تسعى إلى إطلاق مسار دبلوماسي ترجمته تنقلات عباس عراقجي الإقليمية، بما يضمن لها أن تبقى شريكاً ضمن مسرح الصراع الإقليمي، وبما يُحقق لها التأثير والفاعلية في أي معادلات إقليمية مقبلة.
خاص وكالة رياليست – أمجد إسماعيل الآغا – كاتب وباحث سياسي – سوريا.