موسكو – (رياليست عربي): من المقرر أن تلغي بلغراد حظراً استمر لمدة 35 عاماً على بناء محطات الطاقة النووية في صربيا، وهو ما يمثل تحولاً كبيراً في سياستها المتعلقة بالطاقة، حيث بدأت الحكومة الصربية تدرس إمكانية بناء محطات نووية كخيار قابل للتطبيق، للحد من انبعاثات الكربون وتعزيز استقلال الطاقة في البلاد.
- وتأتي هذه الخطوة في الوقت الذي تواجه فيه البلاد ارتفاعاً في الطلب على الطاقة النووية المتسارعة لدعم الإقتصاد وزيادة مصادر الطاقة الكهربائية، حيث بدأ النقاش حول مجال الإستخدام السلمي للطاقة النووية في شهر أبريل 2024، عندما وقعت الحكومة الصربية مذكرة تفاهم مع شركة الكهرباء الحكومية الفرنسية، وهي شركة رائدة عالمياً في إنتاج الكهرباء، للتعاون في تطوير برنامج للطاقة النووية.
- ومن بعدها أعلنت وزيرة التعدين والطاقة الصربية (دوبرافكا ديدوفيتش هاندانوفيتش) خلال شهر يونيو 2024 أن الحكومة الصربية ستضع حجر الأساس لبرنامج الطاقة النووية الصربية، وأكدت هاندانوفيتش على أهمية تنويع محفظة الطاقة في صربيا لضمان إمدادات الطاقة المستقرة في البلاد.
- وبناءً على هذا الإعلان، بدأت الحكومة الصربية في مطلع هذا الأسبوع بمناقشة مختلف التعديلات على قوانين الطاقة في البلاد، والتي تتضمن إضافة فصل جديد مخصص للطاقة النووية، حيث ستحدد هذه التعديلات (الدستورية و القانونية) المقترحة من قبل الحكومة الصربية، برنامجاً مكون من ثلاث مراحل للتطبيق السلمي للتكنولوجيا النووية، بدءاً بتقييم جدوى الطاقة النووية، ثم تطوير البرنامج النووي الصربي، وانتهاءً بتنفيذه على أرض الواقع. وستتضمن التعديلات أيضاً الإستراتيجيات المتاحة أمام حكومة بلغراد لتطوير واستخدام الطاقة الحرارية والهيدروجين، وهو ما يعكس جهداً حكومياً أوسع نطاقاً لتنويع مصادر الطاقة في جمهورية صربيا.
- وأكدت وزيرة التعدين والطاقة الصربية في حكومة بلغراد الحالية (دوبرافكا ديدوفيتش هاندانوفيتش) أنه وفي حال تمت الموافقة على هذه التعديلات، فإن الحكومة الصربية ستلغي بنود القانون القديم بشأن حظر بناء محطات الطاقة النووية في جمهورية يوغوسلافيا الإتحادية (سابقاً)، وهو القانون الذي كان سارياً منذ ثمانينيات القرن العشرين.
آراء المراقبين والمحللين والخبراء في مراكز الدراسات السياسية والإستراتيجية الروسية والعالمية:
- يرى العديد من المراقبين والمحللين والخبراء في مجال العلاقات الدولية من المختصين بملف دول الإتحاد اليوغسلافي السابق، وعلى رأسها جمهورية صربيا، ومنهم الخبراء الصرب ضمن برنامج مؤسسة (BFPE) في بلغراد، وهي مؤسسة بحثية تهدف إلى بناء القدرات والمهارات والمعرفة لدى مختلف الجهات الفاعلة في مجالات ومشاريع الطاقة، أن هذه الخطوة الجرئية التي قامت بها الحكومة الصربية من شأنها أن تساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وأن تعمل على تحسين التعاون الإقليمي المتعدد الأطراف بين جمهورية صربيا وبقية دول منطقة البلقان، وذلك في سياق سعيها للتكامل الأوروبي.
- ويؤكد الخبير الصربي العالمي، السيد (ستيفان فلاديسافليف) المدير العام لمؤسسة (BFPE) في بلغراد أن جمهورية صربيا بدأت تفكر برفع الحظر عن استخدام محطات الطاقة النووية المفروض عليها منذ 35 عاماً لتنويع مصادر الطاقة الخاصة لدى صربيا، ومن أجل الحد من الإعتماد على الغاز الروسي.
- ويؤكد الخبير(ستيفان فلاديسافليف) أن القرار سيفتح أمام صربيا مجالاً جيوسياسياً واسعاً ومعقداً في الوقت نفسه، حيث يجب على حكومة بلغراد اختيار شركائها المحتملين مثل جمهورية الصين الشعبية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب فرنسا التي وقعت معها صربيا مؤخراً إتفاقية للتعاون في هذا المجال، مع عدم إهمال بلغراد لطموحات ومشاريع بقية عواصم الغرب مثل واشنطن ولندن وباريس، لأن طموحات جمهورية صربيا النووية سيكون لها تأثيرات كبيرة على منطقة البلقان وكذلك على سوق الطاقة الأوروبية الأوسع.
- ويضيف الخبير (ستيفان فلاديسافليف) أن حكومة بلغراد باتت مدفوعة بحاجتها لتنويع قطاع الطاقة الخاص بها والتحول بعيداً عن شحنات الغاز الروسي الرخيص، ولذلك ستسعى صربيا لإنهاء سياسة العقود القديمة التي تحظر بناء محطات للطاقة النووية فوق أراضيها، بغض النظر عن تبعات هذا القرار على القرار السياسي للحكومة الصربية لأنها باتت مضطرةً لاتخاذه.
- ولهذا السبب أعلنت عدة وزارات صربية بأنها ستجري دراسات حول نية إنهاء الحظر المفروض على مفاعلات الطاقة النووية، والبالغ من العمر 35 عاماً منذ عهد يوغوسلافيا السابقة، حيث ذكرت أنه سيتم فتح حوار عام حول تغيير سياسة بلغراد الطاقية الطويلة المتماسكة، وفي حال نجاح هذا الجهد، فستجد الحكومة الصربية نفسها على خط جديد ضمن التحول الجيوسياسي الإقليمي في البلقان، والذي سيغير مصير الطاقة النووية في دول شرق أوروبا برمتها.
- ويضيف الخبير (ستيفان فلاديسافليف) أن كل ما يحدث حالياً نابع من الرغبة السياسية السرية لدى الرئيس الصربي (ألكسندر فوتشيتش) في التعامل مع الواقع الجديد ضمن مجال الطاقة الصربي، والناتج عن الحرب الحالية (الروسيية الأوكرانية) والتي بدأت تفرض على حكومة بلغراد القيام بسلوك إستراتيجية التحوط المستخدمة من قبل بلغراد، وفتح قنوات الإتصال مع الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي رغم موقفهما المعادي لبقية حلفاء صربيا كروسيا الإتحادية والصين الشعبية وذلك بسبب تناقض مواقفهم ضمن مجموعة من القضايا الأمنية وملفات السياسية الخارجية.
- ويؤكد الخبير (ستيفان فلاديسافليف) أنه وبالرغم من أن جمهورية صربيا لم تكن صارمة في مواجهة روسيا الإتحادية كما فعل الإتحاد الأوروبي، إلا أن بلغراد ما زالت تسعى للحفاظ على توازن علاقاتها مع بقية عواصم الغرب، أي أنها تتحرك بعيداً عن روسيا الإتحادية لتنفيذ مشاريع إستراتيجية كبيرة، خاصةً وأن بلغراد كانت قبل بدء الحرب (الروسية الأوكرانية) في شهر فبراير 2022، تعتمد على العمالة المحلية الرخيصة وكذلك على الغاز الروسي المخفض لجعل صناعتها التعدينية والتصنيعية أكثر تنافسية وجاذبية للمستثمرين. لكن فرض العقوبات الغربية والإضطرابات في السوق العالمية مؤخراً، قد تسببت جميعها بزيادة سعر الغاز الروسي، بعد فرضِ كل من واشنطن وبروكسل تكلفة سياسية على إبرام أي صفقات تجارية جديدة مع أي شركات روسية، وخاصةً مع شركات الطاقة الروسية.
- كل هذه الأسباب قد فرضت على الرئيس الصربي (ألكسندر فوتشيتش) واقعاً سياسياً جديداً، جعلته يمشي على حبل مشدود بين الحاجة لتعزيز أمن الطاقة في جمهورية صربيا من جهة، وبين التفكير بإضافة الطاقة النووية والإعتبارات الجيوسياسية التي تأتي بناءً على استخدامها والشريك الذي سيقدمها إلى جمهورية صربيا من جهةٍ أخرى، وهو الأمر الذي بات يدفع بجمهورية صربيا لتكون من بين الدول التي بدأت تبحث عن طرق جديدة لنفسها، كي لا تعتمد على روسيا الإتحادية التي سيطرت على قطاع الطاقة النووية في صربيا، رغم وجود دول أخرى جديرة في هذا المجال مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، وجمهورية الصين الشعبية، وفرنسا التي تمَّ التوقيع معها مؤخراً.
حسام الدين سلوم – دكتوراه في تاريخ العلاقات الدولية – خبير في العلاقات الدولية الروسية.