موسكو – (رياليست عربي): بعد أن شارك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الجلسة الإقتتاحية لمنتدى (فلاديفستوك) الإقتصادي الدولي الروسي، ألقى الرئيس بوتين خطاباً هاماً في (الجلسة العامة) للمنتدى يوم الخميس الموافق لتاريخ 5 سبتمبر 2024، حيث تطرق إلى عددٍ من القضايا المالية والتجارية والإقتصادية، مثل ملفات النفط والغاز وملف العملة الروسية الروبل وكذلك ملف التعاون (الروسي – الصيني) في مختلف المجالات الإقتصادية وملف المحاولات الأمريكية الفاشلة لضرب الإقتصاد الروسي.
- فعلى صعيد الملفات الإقتصادية الخارجية: أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن روسيا الإتحادية لا تتبع سياسة التخلي عن الدولار لكن حظر التعاملات بالعملة الأمريكية دفع موسكو إلى استخدام عملات أخرى، وذلك بعد أن رفضت الولايات المتحدة الأمريكية تتقديم خدمات الدولار لروسيا الإتحادية معتقدة أن كل شيء سينهار في الإقتصاد الروسي، ولكنها أخطأت كثيراً في تقديراتها المالية. وأشار الرئيس بوتين في حديثه إلى أن عملة بلد معين، يمكن لها أن تعكس القوة الإقتصادية لهذا البلد، فكلما زاد عدد الشركاء الإقتصادين لهذا البلد ارتفع الطلب على عملته كما هو الحال مع الصين حالياً.
- وفي هذا الصدد ذكر الرئيس بوتين أن نتائج الحرب العالمية الثانية هي التي ساعدت الدولار على تعزيز مكانته في الإقتصاد العالمي، لأن الولايات المتحدة الأمريكية استفادت من نتائج تلك الحرب في المجال الإقتصادي، ونفذت خطة مارشال في أوروبا، وأنشأت نظاماً عالمياً واحداً، وهو نظام (بريتون وودز) (أي الإسم الشائع لمؤتمر النقد الدولي)، ثمَّ تمَّ إصلاحه قليلاً، وأنشأت عملة عالمية واحدة هي الدولار، إلا أن الوضع في الإقتصاد العالمي يتغير في وقتنا الحالي، لأن دول الجنوب العالمي باتت تمثل أكثر من 50 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، في حين تمثل دول (بريكس) قرابة ثلث الإقتصاد العالمي.
- وفيما يتعلق بالموقف الروسي من الحرب الإقتصادية (الصينية – الأمريكية) وقرارات الكرملين: أوضح الرئيس الروسي أن الإقتصاد الصيني من حيث القدرة الإستهلاكية هو الإقتصاد الأول في العالم (بناء على تعادل القوة الشرائية)، والإقتصاد الأمريكي هو الإقتصاد الثاني في العالم، لكن الفرق بينهما يتسع عاماً بعد عام، والهند قد باتت هي الإقتصاد الثالث، وروسيا الإتحادية هي الإقتصاد الرابع حالياً، لتصبح اليابان هي الإقتصاد الخامس.
- وأضاف الرئيس بوتين أن روسيا الإتحادية حققت هذا التقدم لأنها بدأت بالتنسيق والتعاون مع شركائها في مجموعة “بريكس” من الذين يستخدمون العملات الوطنية في الحسابات التجارية والتي ازدادا تداولها خلال الفترة الأخيرة. أما فيما يتعلق بوضع العملات المشفرة، فقد أكد الرئيس بوتين أن الروبل الرقمي، بات أحد أنواع العملات الوطنية التي سيستخدمها المشاركون من الشركات والمؤسسات في الإقتصاد الروسي، خاصةً من المواطنين العاديين، ولهذا السبب، أوضح الرئيس بوتين كيف قام خلال شهر يوليو الماضي 2024 بالتوقيع على قانون روسي مالي جديد حول (إطلاق الروبل الرقمي) في روسيا الإتحادية، وبذلك أصبح الروبل الرقمي في روسيا الإتحادية هو الرديف الثالث للعملة الوطنية إلى جانب الروبل النقدي الروسي والروبل الإفتراضي، ليكون الروبل الرقمي موجوداً هو الآخر، وله رمز خاص سيتم تخزينه لاحقاً في (المحفظة المالية الإلكترونية)، حيث بات من المقرر أن تصبح هذه العملة (الروبل الرقمي) وسيلة دفع كاملة، إلى جانب الروبل العادي.
- أما على صعيد الملفات الإقتصادية الداخلية: صرح الرئيس فلاديمير بوتين فيما يتعلق بنشاطات روسيا في مجال الصناعات الداخلية المعدنية وفي مجال التعدين، أن روسيا الإتحادية باتت إحدى الدول الرائدة في العالم في مجال التعدين، ويعود ذلك إلى فائض الطاقة الكهربائية في منطقة سيبيريا الروسية، ولذلك السبب، أكد على ضرورة تطوير وزيادة كميات الطاقة لتنمية المنطقة بكاملها.
- وتحدث الرئيس فلاديمير بوتين بالأرقام عن نمو الناتج المحلي الإجمالي الروسي في العام الجاري 2024 حيث أكد بأنه سيتجاوز على الأرجح نتائج العام الماضي 2023، مشيراً إلى أن التضخم في روسيا الإتحادية بدأ في الإنخفاض، وهذا أمر جيد للغاية، ومشدداً في الوقت نفسه على أن المستوى المستهدف هو 4 بالمئة، لكنه وصل مؤخراً إلى 9.2 بالمئة، وفي نهاية الشهر الماضي أغسطس 2024 بدأ الإقتصاد الروسي يصعد على غرار العام الماضي، وقد زاد الناتج المحلي الإجمالي في الأشهر الستة الأولى للعام 2024 بنسبة 4.6 بالمئة، بينما نما خلال العام الماضي 2023 بنسبة 3.6 بالمئة، حيث بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي لروسيا الإتحادية 171.041 تريليون روبل، وفقاً لبيانات (روس ستات).
- كما أولى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اهتماماً كبيراً في خطابه لتنمية منطقة الشرق الأقصى، والتي تجري فيها فعاليات ذلك المنتدى في (فلاديفستوك)، وللمشروعات الإستراتيجية في تلك المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية، حيث أشار الرئيس بوتين إلى مكامن القوة والآفاق الواسعة لهذه المنطقة والمشاريع فيها، حيث أكد بأنه قدَّ تم التوقيع على أكثر من ألف اتفاقية بقيمة تزيد عن 10.5 تريليون روبل روسي، أي (حوالي 116 مليار دولار) في المنتديات الثلاثة الأخيرة في (فلاديفوستوك)، ومشيراً إلى أن هناك أكثر من 100 شركة تشارك في نسخة هذا العام من منتدى (فلاديفستوك) قدموا من أكثر من 75 دولة، حيث بينت الدراسات أن كل روبل من الأموال الحكومية المستثمرة سيجذب ما قيمته 10 روبلات إلى الخزينة من الإستثمار الخاص، ولهذا السبب فقد زاد معدل نمو الإستثمارات في منطقة الشرق الأقصى الروسي بنحو 3 مرات على مدى 10 سنوات وهو أعلى 3 مرات من المتوسط الروسي.
- وأضاف الرئيس فلاديمير بوتين إلى أنه تمَّ إطلاق أكثر من 3500 مشروع في الصناعة والبنية التحتية والتكنولوجية والتعليمية في مناطق الشرق الأقصى الروسي منذ العام 2013، لأن هذه المنطقة الروسية غنية بالموارد الطبيعية، وهي موطن استخراج مواد ومعادن هامة مثل (التنجستن) والألماس والذهب والفضة، وهو ما تسبب أيضاً بزيادة عبور السفن التجارية الدولية، عبر ممر الملاحة الشمالي بخمسة أضعاف ونقلها ما وزنه 36 مليون طن من البضائع، وهذا إنجاز وتقدم تجاري كبير للغاية.
- وأضاف الرئيس بوتين أن هذا الأمر قد أثر أيضاً على عمليات بناء السكك والخطوط الحديدية، حيث وصلت القدرة الإستيعابية للسكك الحديدية العابرة لبعض المناطق الروسية مثل مناطق سيبيريا مثلاً، وطريق (بايكال –آمور) إلى 180 مليون طن، وقد دفع وجود السكك الحديدية ووجود طرق مواصلات جيدة للتفكير في عمليات بناء محطات للطاقة النووية في منطقة الشرق الأقصى الروسي، وهو الأمر الذي سيتم تنفيذه خلال الفترة المقبلة.
- وأكد الرئيس بوتين أن نتائج الإستثمار في منطقة الشرق الأقصى الروسي باتت واضحة للجميع، وباتت مغرية لكافة المستثمرين من داخل روسيا الإتحادية وخارجها، إذ تمَّ خلق أكثر من 140 ألف فرصة عمل، وقد دعُمت فرص العمل هذه بالأموال الروسية التي بلغت 5.5 تريليون روبل روسي، بعد أن تمكنت روسيا الإتحادية من استعادة هذه الأموال من الولايات القضائية الخارجية (الأوفشور) إلى المنطقة الإقتصادية الخاصة بجزيرة (روسكي) في منطقة (فلاديفوستوك) الروسية.
- والجدير بالذكر أن مساعد الرئيس الروسي (يوري أوشاكوف) أعلن مؤخراً من منتدى (فلاديفستوك) أنه تمت دعوة زعماء دول رابطة الدول المستقلة، وكذلك الدول التي تترأس مختلف جمعيات التكامل من تلك التي تطمح إلى العضوية في مجموعة (بريكس) لحضور قمة المنظمة في مدينة قازان الروسية.
آراء المراقبين والمحللين والخبراء في مراكز الدراسات السياسية والإستراتيجية الروسية والعالمية:
- يرى العديد من المراقبين والمحللين والخبراء في مجال العلاقات الدولية من المختصين بملف العلاقات الروسية الإقتصادية والتجارية والمالية، الخارجية منها والداخلية أيضاً، مثل الخبير الإقتصادي الروسي العالمي (ألكسندر نوفاك)، والذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس الوزراء في روسيا الإتحادية، أن أهم شيء كان بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمن فعاليات منتدى (فلاديفستوك) الأخير، هو تطوير ممر الملاحة الشمالي، لأن مادة النفط كانت المادة الرئيسية التي شحنت عبر ذلك الممر خلال العام الماضي، حيث سجل تدفق البضائع عبر ممر الملاحة الشمالي في العام 2023 مستوى قياسياً بلغ 36 مليون طن، منها 2.1 مليون طن من النفط الخام لوحده.
- وأكد الخبير الروسي (ألكسندر نوفاك) أن الرئيس بوتين أراد التركيز ضمن جلسات المؤتمر ولقائاته على عملية تنفيذ المشاريع الكبيرة مثل صناعات النفط والغاز والتعدين وتطوير البنية التحتية للموانئ الروسية الهامة، لمعرفته الحثيثة بأن هذا الأمر سيسهم في زيادة تدفق البضائع عبر هذا الممر، خاصةً بعد حدوث زيادة كبيرة في حركة البضائع عبر الممر في العام الجاري 2024 أيضاً حيث وصلت حركة البضائع إلى 40 مليون طن حتى الآن، مع الأخذ بعين الإعتبار لشحنات الغاز المسال أيضاً ضمن مشروع (أركتيك للغاز المسال-2)، والذي تعمل حالياً روسيا الإتحادية بخطى حثيثة لتطويره، حيث تواصل موسكو تصنيع عدد إضافي من كاسحات الجليد لمرافقة السفن التجارية، ورفد أسطولها الأكبر عالمياً من الكاسحات، لأن موسكو تريد لهذا الممر أن يصبح طريقاً تجارياً رئيسياً بين أوروبا وآسيا.
- ولهذا السبب يقول (ألكسندر نوفاك)، كان من الواضح أن الرئيس بوتين يريد ربط جميع خطط تنمية ممرات النقل في الشرق الأقصى بمشاريع تطوير ممر الملاحة الشمالي، لأن الكرملين الروسي بات يولي أهمية كبيرة لتطوير منطقة القطب الشمالي الروسية، ولا سيما ممر الملاحة الشمالي، الذي يمتد عبر الدائرة القطبية الشمالية ويربط المحيطين الأطلسي والهادئ، حيث من المتوقع أن يصبح ممر الملاحة المذكور طريقاً تجارياً رئيسياً بين أوروبا وآسيا، لأنه سيقلل فترة الشحن مقارنة بالمسارات التقليدية عبر قناة السويس أو قناة بنما، فضلاً عن أن الرئيس بوتين يريد أن يفتح طرق الملاحة بشكل أوسع لمناطق الشرق الأقصى الروسي وأن يربطها بمناطق القطب الشمالي الذي يحتوي على جزء كبير من احتياطيات روسيا من الذهب 40 بالمئة، والكروم والمنغنيز 90 بالمئة، والبلاتين 47 بالمئة، كما سيتم استخراج حوالي 80 بالمئة من الغاز و60 بالمئة من نفط روسيا في تلك المناطق.
حسام الدين سلوم – دكتوراه في تاريخ العلاقات الدولية – خبير في العلاقات الدولية الروسية.