موسكو – (رياليست عربي): تشهد السياسة الإيرانية تحولاً استراتيجياً عميقاً في تعاملها مع الحصار الغربي، حيث طورت طهران منظومة متكاملة من الآليات الذكية للتكيف مع العقوبات الدولية المتصاعدة، فمنذ فرض أولى العقوبات الغربية، عملت النخبة الحاكمة في إيران على بناء اقتصاد مقاوم قادر على الصمود أمام أقسى الضغوط، مستفيدة من التجارب المتراكمة عبر سنوات طويلة من المواجهة مع الغرب.
على الصعيد الاقتصادي، نجحت إيران في إقامة شبكة معقدة من التحالفات التجارية البديلة، حيث تعزز التبادل التجاري مع الصين ليتجاوز 30 مليار دولار سنوياً، بينما تشهد العلاقات الاقتصادية مع روسيا تطوراً ملحوظاً في مجالات الطاقة والغذاء والتكنولوجيا. كما لعبت سياسة الاكتفاء الذاتي دوراً محورياً، حيث ارتفعت نسبة الإنتاج المحلي من الاحتياجات الدوائية إلى 85%، وتطورت الصناعات العسكرية المحلية بشكل مذهل، مما قلص الاعتماد على الاستيراد في القطاعات الاستراتيجية.
في المجال الدبلوماسي، اتبعت طهران سياسة مرنة تعتمد على تعزيز النفوذ عبر دوائر متعددة، ففي الجوار الإقليمي، عززت تحالفاتها مع فصائل المقاومة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بينما وسعت دائرة علاقاتها الدولية لتشمل دول أمريكا اللاتينية مثل فنزويلا ونيكاراغوا. كما طورت أدوات مبتكرة لتحايل العقوبات، كاستخدام العملات الرقمية وإنشاء قنوات تجارية غير رسمية عبر دول الجوار، والتي تقدر بعض التقارير أنها توفر لإيران ما يصل إلى 15 مليار دولار سنوياً.
على المستوى التكنولوجي، واصلت إيران تقدمها في المجالات الحساسة رغم كل القيود، حيث تشير صور الأقمار الصناعية إلى توسع مستمر في المنشآت النووية تحت الأرض، مع تطور ملحوظ في برنامج الصواريخ الباليستية. وقد نجحت طهران في الحفاظ على تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، وهي خطوة تقنية معقدة تقربها من القدرة على إنتاج مواد قابلة للاستخدام العسكري إذا ما ارتأت ذلك.
الخبراء يرون أن هذه القدرة على التكيف تعكس عمق الرؤية الاستراتيجية للنظام الإيراني، الذي تبنى فلسفة “الاقتصاد المقاوم” كخيار استراتيجي طويل الأمد. فبدلاً من المواجهة المباشرة مع الغرب، اختارت طهران طريقاً أكثر دهاءً يعتمد على استنزاف خصومها عبر الزمن، مع الحفاظ على المكاسب الجيوسياسية الأساسية. هذا النهج يعكس إدراكاً عميقاً للدروس المستفادة من التجربة التاريخية مع العقوبات، حيث طورت إيران ما يشبه “المناعة الذاتية” ضد الضغوط الخارجية.
غير أن هذا النجاح الإيراني في التكيف يطرح تحديات كبرى أمام صناع القرار الغربيين، الذين بدأوا يلمسون محدودية تأثير العقوبات مع مرور الوقت. فبعد استنفاد معظم أدوات الضغط الاقتصادي، يجد الغرب نفسه أمام معضلة حقيقية: إما التصعيد العسكري المحفوف بالمخاطر، أو القبول بحقيقة جديدة حيث تتعايش إيران مع العقوبات دون أن تتخلى عن برامجها الاستراتيجية. هذا الوضع يفسر التردد الغربي في التعامل مع الملف الإيراني، والبحث المحموم عن استراتيجيات جديدة أكثر فاعلية في ظل تغير موازين القوى الإقليمية والدولية.