دمشق – (رياليست عربي): على جنبات عملية طوفان الأقصى تناثرت تساؤلات جمّة تحاول الغوص في عمق الواقعة، بغية فهم دوافع هذه العملية ومآلاتها وسيناريوهاتها وإمكانية توسعها، لكن ضمن ذلك، ثمة محاولات أُخرى لـ قراءة وفهم رد الفعل الأمريكي وحجمه وتأثيراته على عموم المشهد الشرق أوسطي في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى، وعلى الرغم من حجم التساؤلات التي رافقت يوميات الحرب في غزة، وما أنتجته من أحداث وتطورات، إلا أن الواقع والثابت في مشهد الحرب كان موصوفاً بحالة اليقين والجزم بأن هذه الواقعة ستكون بلا ريب بوابة لسياقات وسيناريوهات معقدة غاية في الصعوبة حيال تحليلها وتوصيفها، الأمر الذي يعني أن المقاربة المتعلقة بـ مسار طوفان الأقصى وما بعده، ستعتمد على معطيين إثنين لا ثالث لهما. الأول توقيت العملية ودوافعها، والثاني التحرك الأمريكي العاجل حيال واقعة طوفان الأقصى.
ما من شك أن عامل المباغتة الذي أُعتمد في طوفان الأقصى كان متميزاً وبموجبه بُنيت العملية، وعلى الرغم من التخطيط الدقيق الذي تميزت به الفصائل المشاركة في العملية، لكن لا يمكن القول بأن ما امتلكته هذه الفصائل خلال الفترة الماضية من عتاد، وإن وُصف بالنوعي، هو المسبب الرئيس في إطلاق العملية، لا سيما أن هذا النوع من العمليات يحتاج لـ سنوات من التخطيط وصولاً إلى لحظة الإتمام والتنفيذ، وعليه فإن عملية طوفان الأقصى جاءت في توقيت تم اختياره بعناية استراتيجية لخلط الأوراق الإقليمية في محاولة لإعادة قراءة وتقييم التطورات في المنطقة، وإعادة الروح إلى القضية الفلسطينية، في ظل محاولات طمس معالمها.
“الاتفاق الإبراهيمي وقوافل التطبيع”
صحيح أن الاتفاقات الإبراهيمية شكّلت نقطة تحول إقليمي لا سيما في مستويات الصراع العربي الإسرائيلي، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الاتفاقات وما احتوته بنودها، لم تكن تنظر إلى القضية الفلسطينية كـ ملف ينبغي حله، جراء ذلك أدركت الفواعل الفلسطينية الخطر الحقيقي الناتج عن اتفاقيات التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل، خاصة أن لا مكاسب يمكن جنّيها فلسطينياً. في هذه الأثناء جاءت معركة سيف القدس في عام 2021، لترسم المشهد الفلسطيني بطريقة جديدة تؤكد بأن الحراك الفلسطيني و”المقاومة” ما زالت حاضرة، وبحضورها فإن تصفية القضية ليست مشروعاً ممكناً وإن اكتملت أركانه.
رغم ما سبق وفي خضم معارك غزة، إلا أن الحديث عن استئناف مسار التطبيع في محطته السعودية الإسرائيلية عاد وبقوة، لا سيما أن التصريحات الأمريكية جاءت وفق ترجمة واضحة لجهة دفع المسار ما بين الرياض وتل أبيب للوصول إلى اتفاق سلام. كل ذلك كان مدعاة لبقاء الخوف من تصفية القضية الفلسطينية وتصفير حساباتها حاضراً، خاصة أن السعودية بثقلها الديني ووصفها السياسي كـ فاعلة ومؤثرة، كان من المتوقع أن تكون آخر من يذهب باتجاه التطبيع مع إسرائيل.
وفي جانب آخر، فإن الحرب الروسية الأوكرانية وحقل الألغام ما بين واشنطن وبكين والبحث عن محددات الاستقرار بين طهران وواشنطن وضمناً تفعيل اتفاق نووي جديد، كل ذلك سمح لـ إسرائيل بالتحرك ضمن هوامش لا تُرى. فـ إسرائيل شرعت بتوسيع عملياتها في الضفة الغربية سواءً العسكرية التي أودت بحياة الكثير من الفلسطينيين، أو الاستيطانية التي تستمر في ابتلاع مناطق واسعة من الضفة وتضييق الحالة المعيشية على الفلسطينيين، في ظل حكومة إسرائيلية متطرفة.
المعطيات السابقة ومع الصمت الدولي المُطبق تُجاه معاناة الفلسطينيين، فإن ذلك شكّل رسالة وصلت للفلسطينيين بأن قضيتهم تراجعت على سلم الأولويات الدولية، لا سيما في ظل حالة من الفوضى العربية على صعيد التفاهمات العربية- العربية حيال القضية الفلسطينية، وعلى صعيد الأمن العربي واستقرار النظم السياسية فيها، كما أنه ثمة مؤشرات قُرأت فلسطينياً لجهة أن قضيتهم متجهة إلى التصفية والإغلاق، الأمر الذي دفع بـ الفصائل الفلسطينية إلى اتخاذ إجراء باهظ الثمن يُعيد خلط الأوراق ومركزية القضية الفلسطينية إلى الواجهة، ولا يمكن في هذا الإطار إغفال دور إيران في السعي للحصول على مكاسب يمكن صرفها في الإقليم على اعتبار أنها صاحبة الخطاب المُتقدم والداعم لـ الفلسطينيين وقضيتهم وضرورة تحريرهم وإلقاء الإسرائيليين في البحر.
“تعليل التحرك الأمريكي العاجل“
لا شك بأن عملية طوفان الاقصى مثلت فعلاً صدامياً لـ إسرائيل، الأمر الذي استوجب تحركاً أمريكياً سريعاً يُمكن من خلاله ضبط الانفعالات الاسرائيلية، مع التدخل المباشر في تنسيق وترتيب المشهد العسكري في غزة والجوار الاقليمي، بمعنى أن الولايات المتحدة عملت في إطار استباقي يمنع تدخل ايران وأدواتها في الحرب بشكل مباشر، لكن تبقى رؤية الولايات المتحدة لجهة ضرورة حصول إسرائيل على مكتسبات واسعة سياسية وعسكرية هي الأولوية طالما واشنطن تضبط الإيقاع السياسي والعسكري للتطورات.
بطبيعة الحال فإن الولايات المتحدة تعمل في إطار تمكين إسرائيل في فلسطين والمنطقة وهو ما لا تُخفيه واشنطن. هذا الأمر كان في صلب اهتمام الدبلوماسية الأمريكية إبان النقاشات التي أُجربت مع عدد من زعماء الدول العربية، لـ توضيح الموقف الأمريكي في ما يتعلق بمسار الحرب في غزة وما بعدها.
البُعد الأخر للتدخل الأمريكي العاجل حيال واقعة طوفان الأقصى، جاء مؤطراً بالانتخابات الأمريكية القادمة. جو بايدن لم يكن متوافقاً مع سياسات نتنياهو، ومع اقتراب الانتخابات الأمريكية أراد بايدن أن يُحقق إنجازاً يرفع أسهمه لدى اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. بايدن كان يعول على إتمام صفقة التطبيع السعودي الإسرائيلي، لكن عملية طوفان الأقصى قطعت مسار بايدن وحولت انتباهه إلى ضرورة تقديم نفسه كـ صديق حقيقي لـ إسرائيل، وتحصيل الدعم الصهيوني للانتخابات القادمة.
ثمة بُعد أخر أكثر عمقاً وأهمية حيال التحرك الأمريكي. التحركات الأمريكية العاجلة صحيح أنها ترتبط بإسرائيل وضرورة الدفاع عنها، لكن في العمق فإن هذه التحركات ترتبط بإعادة تعريف الدور الأمريكي إقليمياً ودولياً، لا سيما أن الولايات المتحدة خلال العقد الماضي انشغلت في ملفات أفقدتها جزءًا كبيرًا من سيطرتها على الفواعل، إضافة إلى الإخلال بصورة الولايات المتحدة كـ قائدة للعالم، أو على أقل تقدير كـ ناظمة للتأثيرات الإقليمية، حيث أن إعادة العلاقات السعودية الإيرانية برعاية صينية ورفض السعودية قرارات بايدن بخفض انتاج النفط وعقد قمة عربية صينية بغياب الولايات المتحدة، كل ذلك أخلّ بصورة الهيبة الأمريكية على العالم، كما أن سيادتها وسطوتها اهتزت فعلياً، لتبدأ الاتفاقات والاصطفافات تُهندس بعيداً عن العين الأمريكية، من هنا فإن التحرك الأمريكي ببعديه السياسي والعسكري المتزامن مع حرب غزة، جاء لـ ترسيخ الصورة الأمريكية المُمسكة بكافة الخيوط والمسارات، بل والقادرة على إيقاف أعدائها على قدم واحدة، وهذا ما أثبتته تطورات الحرب على غزة.
لا شك بأن المشهد القادم سيحتوي على خيارات كثيرة ومتعددة، لكن ومع العجز العربي عن التدخل لوضع حد لـ إسرائيل، واكتفاء قادة المحور بالتنديد والاستنكار، ومع بقاء مشاهد استهداف الإسرائيليين من لبنان وسورية والعراق ضمن الخطوط الحُمر الأمريكية، ومع حالة الانكفاء الحقيقي لكل من روسيا والصين عن المشهد الفلسطيني، فإن كل ما سبق يُخشى أن يتم من خلاله قبول تهجير الفلسطينيين خاصة أن المنظومة العربية تعاني من الانكسار والتشظي، ولا تقوى على رفع لاءاتها في وجه الولايات المتحدة.
صفوة ما سبق. الولايات المتحدة جاءت بثقلها السياسي والعسكري إلى المنطقة، واضعة أوزاناً لا يقوى أحد على حملها، وبهذا الثقل فإن الولايات المتحدة لن تُغادر قبل إتمام الأهداف الإسرائيلية المتمثلة بتهجير الفلسطينيين والقضاء على حماس، ويبقى الأهم أمريكياً أن الولايات المتحدة جاءت لأجل مصالحها المتمثلة بإعادة صياغة المعادلة السياسية في الإقليم بما يضمن المصالح الأمريكية أولاً، وترميم الصورة الإسرائيلية ثانياً.
خاص وكالة رياليست – أمجد إسماعيل الآغا – كاتب وباحث سياسي – سوريا.