دمشق – (رياليست عربي): في نهاية القرن العشرين قبل الميلاد ومع هزيمة النظام الإقطاعي والإنتقال من مرحلة المملكة إلى مرحلة الإمبراطورية، وصولاً إلى ما بعد السبي البابلي 722 ق.م، تفرق اليهود حول العالم، وحملوا معهم أموالهم وفكرة الإنتقام من النظام الإقطاعي، الذي لم يحمِ رؤوسهم ووجودهم على أرض مصر، وخططوا ونجحوا مع مرور الزمن بالإعتماد ثروتهم وعلى الربا كفريضة دينية، بمضاعفة أموالهم وبتسخيرها لإعادة إحياء مكانتهم المالية ونفوذهم في دول غرب أوروبا، واستطاعوا جني الكثير من الأموال في بريطانيا من جمع الضرائب لحساب الملكة إليزابيث الأولى، واستفادت منهم المملكة البريطانية في استعادة صيغة الملكية الدستورية التي أبتكرها اليهود، والتي قامت على سلطة المصارف وتسخير الدولة لخدمة رأس المال، وبذلك استطاع الإنكليز أن يسبقوا كافة دول قارتهم بشوط كبير.
وفي الوقت الذي لم يسمح الموقع الجغرافي للمملكة بحروبٍ برية، ركزت إنفاقها العسكري على بناء وتطوير الأساطيل القوية ما جعل منها قوة ضاربة، وقامت بتأسيس بنك لندن بالإعتماد على الميزانية العسكرية، ودخل الدولة وقروض المصارف، وتضاعفت أموال المملكة أكثر من 40 مرة خلال قرن، وتضاعف معه عدد الجنود والآلة العسكرية وارتفع عدد سفن الأسطول البريطاني، وبذلك تمت ولادة “الدولة العظمة”، ورغم مشاعر الكراهية لليهود بفضل طريقة جنيهم للمال والأعمال والمهن التي مارسوها، تنافست الدول الغربية لمنحهم الجنسية لإبقاء أموالهم فيها، لكن اهتمامهم اتجه نحو القارة الأمريكية العذراء بثرواتها وخيراتها، فوضعوا “مشروعهم” وحلمهم بأرض فلسطين جانباً وبشكل مؤقت وانطلقوا إلى نيويورك وأنشأوا المصارف التي تبنت زيادة الإنتاج على نطاق لم يسبق له مثيل، وبذلك تضاعف رأس مال نظامهم المصرفي الحر بصورة خيالية، وأصبح لليهود “دولة” مصارف اجتاحت عبره أسواق دول العالم .
ومن خلال وعد بلفور عادت القصة إلى الشرق الأوسط وتحديداً إلى أرض فلسطين ، بدعمٍ بريطاني وأمريكي فرنسي وألماني، وتمت زراعة الكيان الإسرائيلي وسط إقطاعيات المنطقة العربية، وكان إحتلال فلسطين والعدوان الثلاثي على مصر وعدوان 1967، واستمرت جولات العدوان، وقد لا يكون اّخرها حرب “الربيع العربي” المزور، وهذا كله حدث بفضل الدعم الغربي والبريطاني خصوصاً.. وعلى الرغم من ذلك، ومع موت الملكة إليزابيث الثانية، رصد الإعلام العربي الحدث منذ اللحظات الأولى للإعلان عن وفاتها وخلال 10 أيام حتى لحظة مواراتها الثرى، وتسابقت الشاشات العربية خلالها للحديث عن بريطانيا العظمى وتاريخها العظيم، وكل ما تناقله الإعلام العربي ببغائية غريبة عن إعلام الدول الغربية، وكانوا بريطانيون أكثر من البريطانيين أنفسهم .
بحلول عام 1914، كان للإمبراطورية البريطانية “التي لا تغرب فيها الشمس أبداً”، كل الأسباب لتُسمى قوة عظمى عالمية، ومع ذلك، ساهمت مؤامرات لندن باندلاع الحرب العالمية الأولى وفق المخطط الصهيوني، والتي تكبدت خلالها بريطانيا العظمى “المنتصرة” خسائر بشرية ومالية فادحة، وفقدت جزءاً كبيراً من وضعها كقوة عالمية، وتعمد الأمريكيون لاحقاً مطالبتها بإنهاء الإستعمار البريطاني القديم، الأمر الذي شجع العديد من دول مستعمراتها على المطالبة بالإستقلال.
منذ الخمسينيات من القرن الماضي، أتقنت لندن لعب دور “الشريك الأصغر لواشنطن”، للظفر بدور ومكانةٍ في الناتو تفوق أخواتها من العواصم الغربية، وتبنت المواقف السياسية لواشنطن والناتو، وبررت تحركاتهم العسكرية الإحتلالية التوسعية، واستمرت بحبك المؤامرات الجيوسياسية، وراء الستار الأمريكي، واستعملت فيها صنائعها من بقايا الإحتلال العثماني وإيديولوجيته القاتلة، والتنظيمات الجهادية والإخوانية الإرهابية وأدواتها وعملائها في المنطقة، وليس اّخرها دورها السيئ في سورية والقتال العنيد الذي مارسه الإرهابيون وكل من دعمته المملكة، ناهيك عن شراسة مندوبيها في القاعات الأممية لتشويه القيادة والدولة السورية وانتزاع قراراتٍ أممية تساهم بتمرير المشروع الصهيو أمريكي لتقسيم وتدمير سورية، وبقيادة بوريس جونسن استمر الوجه القبيح للملكة يرخي بظلاله ألماً وظلماً على الشعب السوري، وهاهي ليز تروس تسير على ذات الطريق وبمباركة من الملكة الراحلة التي عينتها قبل وفاتها رئيساً لوزراء بريطانيا.
كذلك الأمر حول ما يتعلق بحرب واشنطن والناتو والإتحاد الاوروبي والمتطرفين الأوكران على روسيا، فقد كانت ليز تروس كوزيرة للخارجية البريطانية، أول من أطلق المواقف العدائية ضد روسيا، بقولها في 26 فبراير/ شباط “لن تهدأ بريطانيا حتى تدمر الإقتصاد الروسي، وتتم استعادة سيادة ووحدة أراضي أوكرانيا”، ولم تكلف نفسها عناء النظر في أسباب الحرب، أو التفكير في مصالح بلادها، وهي الشهيرة بضعف ثقافتها وغياب حنكتها السياسية.
وتبدو بريطانيا بعد نهاية مرحلة الملكة إليزابيث تقبع في أيادي غير أمينة ومتهورة وتابعة، ومع تصاعد الأصوات الداخلية المطالبة بنهاية الملكية الدستورية، يبدو أن بريطانيا مرشحة للتحول من المملكة التي لا تغيب فيها الشمس إلى مملكة على طريق الأفول، ولن تستطيع المتابعة تحت عنوان المملكة العظمى، بما تملكه حالياً من عناصر القوة، سوى أنها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، وبترسانة نووية صغيرة وأسطول غواصات نووية، وبعدد من دول “الكومنولث البريطاني” غير معروف النوايا في المرحلة المقبلة، ولن تكون بريطانيا التي خاضت الحرب الباردة بالأمس هي بنفس القوة اليوم، مع الصراعات والحروب الساخنة المفتوحة على مساحة العالم، ولن يساعدها وضعها الإقتصادي الغامض الذي يعتمد بشكل كبير على قطاعها المالي التقليدي كالخدمات المصرفية والسمسرة والتأمين والاستشارات… إلخ، في ظل الأزمات المالية والإقتصادية والحروب العسكرية التي أقحمت نفسها فيها، وتواجه الإحتجاجات الداخلية بسببها، وتشارك أقرانها الغربيين بدفع الفواتير الباهظة جراء انقيادها وراء السياسة الخارجية الأمريكية .
ولا تزال لندن تحاول لعب الدور الاكبر بالمقارنة مع نظيراتها في باريس وروما ومدريد وبرلين، وترفض الإعتراف بمساواتها بباقي القوى الغربية، وتحاول الاستحواذ على المشهد السياسي والإعلامي في الملف الاوكراني، وما يترتب عليها من دفع حصتها من الفواتير اليومية لضمان استمرار الحرب على روسيا.
ومع تراجع الحالة الإقتصادية في بريطانيا، وارتفاع أسعار الطاقة والأغذية، تفقد بريطانيا أهم عاملٍ ساهم عبر التاريخ في جعلها مملكةً عظمى قادرة على ضمان تدفق المال وجلب العسكر وخوض الحروب، وبات على الملك الجديد ورئيسة الحكومة ليز تروس التخلي عن حنينهما إلى الماضي، فبريطانيا ما بعد الملكة إليزابيث لن يكون مثلما كمان قبلها، وسيكون من الصعب على تروس إقناع البريطانيين بالجوع والبرد والبطالة، وباستمرار القتال في أوكرانيا من أجل انكلترا والإمبراطورية معاً .
تبدو بريطانيا وقد وجدت نفسها من جديد على المذبح الصهيوني، وقرار الحفاظ على الملكية الدستورية و”الإمبراطورية” كان وسيبقى قرار صهيوني بامتياز، وبهدف استمالة اليهود ثانيةً، أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية ليز تروس أنها “تدرس بصورة جدية نقل سفارة المملكة المتحدة من تل أبيب إلى القدس”، في خطوةٍ خطيرة من شأنها منح الإسرائيليين فرصة السيطرة الكاملة على مدينة القدس، وطرد العرب منها، وتأكيد “محبة” الملك تشارلز للمسلمين، عبر تسليم مدينتهم ومقدساتهم لأعدائهم.
قد يضطر الشعب البريطاني لقول كلمته والإختيارما بين مليارات الجنيهات الإسترلينية التي تتكبدها المملكة للحفاظ على “الإمبراطورية وطقوسها وعرشها “العظيم”، دون أن يكون للإعلام العربي رأي مسموع ولا حتى تصويت لصالح التاريخ البريطاني “العظيم”.
خاص وكالة رياليست – المهندس ميشيل كالاغاصي – كاتب وباحث سياسي – سوريا.