فما يحدث اليوم بين باريس وجزء من العالم الإسلامي يؤكد أن هذه الأزمة تدل على تعقيدات تاريخية قديمة بما يتعلق في الحوار بين عالمين مختلفين عن بعضهما، أي لا يفهم أحدهما الآخر، سيما عندما يتهم كل منهما الآخر بالفساد.
تنافس قديم بين الإسلام والمسيحية
لفترة طويلة كان الإسلام والمسيحية في حالة حرب، فقبل أيام قليلة، إحتفل الفرنسيون بإنتصار شارل مارتل على عبد الرحمن في بواتييه، في عام 732، وقبل ذلك أيضاً بأسابيع قليلة، إحتفلوا بإنتصار ليبانتو عام 1571، على العثمانيين، (رغم عدم مشاركة فرنسا آنذاك)، ومنذ ثورة 1789 ظلت فرنسا مسيحية شكلاً، مع ذهابها نحو الإلحاد شيئاً فشيئاً. حتى أن البعض يقول اليوم إن فرنسا كاثوليكية لكن الجمهورية علمانية، حيث تواجه اليوم البرجوازية الحضرية التي دافعت عن أفكار الثورة معضلة جديدة، وهي عودة موضوع الدين، الذي تم الإبتعاد عنه منذ الثورة، من خلال سكانه من أصل أفريقي وبشكل خاص، المغرب العربي.
فلقد لوحظ أن الممارسة الدينية الكاثوليكية آخذة في الانخفاض في فرنسا، مع تزايد نشاط ملحوظ في ممارسة الديانة الإسلامية على الأراضي الفرنسية.
فرنسا، الدولة الإسلامية الأولى في أوروبا
يوجد في فرنسا 5 ملايين مسلم، أكثر من عدد المسلمين في ألمانيا، وهناك 2500 دار عبادة للمسلمين في فرنسا، وقد زاد سوق الحلال بنسبة 247٪ بين عامي 2009 و2019. وإذا سار المسلمون الأجانب في شوارع فرنسية معينة، فسيجدون صعوبة في معرفة ما إذا كانوا بالفعل في فرنسا أو في مدينة مغاربية.
وفيما يتعلق بالأعمال المعادية للمسلمين، فهي أقل بعشر مرات من الأعمال المعادية للمسيحيين في فرنسا، ومن الخطأ القول إن الإسلام مكبوت بعنف في فرنسا، حيث يرغب العديد من المسيحيين في الحصول على نفس الحقوق التي يتمتع بها المسلمون في فرنسا، وفي دول إسلامية معينة.
ما سبب المشكلة؟
تتألف المشكلة من شقين، الأول، أن باريس سعت من خلال فتح حدودها على نطاق واسع، إلى تلبية احتياجات الرأسمالية الفرنسية التي أرادت أن تثقل كاهل تكاليف الإنتاج، أي أجور القوى العاملة، من خلال جلب المهاجرين المستعدين للعمل بأسعار أقل من أسعار السوق، ووضع قوة العمل الوطنية في المنافسة وبالتالي أوقف أي ميل لزيادة أجور العمال الفرنسيين.
بينما تم وضع العمال والأجور المنخفضة في منافسة مع العمالة الأجنبية، واستفادت بقية البلاد من المجتمع الاستهلاكي، ولم تفهم أن ثمن هذا المجتمع للتمتع بهذا العائد، قصير الأجل لا بل هو قنبلة. مثل، تأخير اجتماعي وعرقي وديني طويل الأمد، إلا ان النظام الفردي الملحد قُرِن بسلبية الأساقفة الكاثوليك، الذين اعتقدوا أنه من الضروري التكيف مع العصر ليكون شائعاً، الأمر الذي خلق فراغاً روحانياً وأخلاقياً أضعف الهوية الفرنسية وقوة الشعب الفرنسي، على المقلب الآخر، واجه المهاجرون صعوبة في الاندماج في فرنسا التي كانت في طور التفكك.
تكامل فاشل.. لكن المسلمين راضون
لقد أساءت فرنسا إدارة سياساتها الخاصة بالنمو والتكامل. وبدلاً من زيادة معدل المواليد، فتحت الباب على مصراعيه أمام الهجرة الجماعية ولم تنفذ أي استراتيجية جادة للاندماج لهذا الجيش الاحتياطي لرأس المال، ولم يكن الهدف جعل هؤلاء الرجال فرنسيين كما فعلوا في الماضي مع الإيطاليين أو البولنديين أو الإسبان، بل كان الهدف جعلهم عمالة رخيصة، حيث كان المهاجرون يعيشون في الضواحي وكانوا راضين عما لديهم. وكانت أماكن إقامتهم حديثة، واستفادوا من الضمان الاجتماعي، وشاهدوا التلفزيون من بلدانهم الأصلية بفضل الأقمار الصناعية وكسبوا ما يكفي من لقمة العيش للاستفادة جزئياً من المجتمع الاستهلاكي مع إرسال الأموال إلى عائلاتهم في بلادهم الأصلية. وكان هناك وضع قائم بين الفرنسيين والمهاجرين ووجد الجميع حساباتهم من خلال العيش في عالمين منفصلين.
عالمين مختلفين
إن ما يشعر به الوالدان من رضى لم يعد مناسباً لأطفالهما، إذ أن كثير من أبناء هؤلاء المهاجرين المولودين في فرنسا لا يجدون أنفسهم في هذا الوضع الراهن، إنهم بين عالمين، إنهم يعيشون في فرنسا لكن الكثير منهم لا يشعرون بالفرنسية، نادراً ما يتحدثون لغة بلدانهم الأصلية ويُنظر إليهم على أنهم أجانب عندما يعودون لرؤية أسرهم في إفريقيا، فلقد أدت أزمة الهوية هذه إلى اعتناق الإسلام على نطاق واسع في العقود الأخيرة.
اللافت أن الإسلام يتمتع بميزة إعطاء هوية قوية لهؤلاء الشباب بسرعة في الواقع، من خلال قواعد اللباس وخيارات الطعام والشروع في قراءات قليلة، بعيداً عن التعقيدات لإظهار هوية جديدة، على الأقل في المظهر، وغالباً ما يكون إسلاماً معارضاً للثقافة الفرنسية بدلاً من إسلام ملتزم إلتزاماً حقيقياً بالدين الإسلامي.
ما لا يدركه الكثير من الناس في العالم الإسلامي هو أن هذه التحولات غالباً ما تتحول إلى إسلام وهابي صارم لا يتوافق مع التقاليد الفرنسية وبعيد جداً عن الإسلام الذي مارسه أسلافهم، وشيئاً فشيئا، ستسعى هذه الأجيال الجديدة من “المتحولين” إلى تغيير بيئتهم المعيشية بحيث تتكيف مع الإسلام مثل عدم الجمع بين الأولاد والفتيات في المسابح ووضع أوقات مختلفة لكل منها، وطلب وجبات خاصة في المقاصف، ومدارس وحجاب بنات وعنف ضد غير المسلمين وتطوير مدارس قرآنية .. الدولة الفرنسية لم تفعل شيئاً لوقف هذا بل على العكس من ذلك تجاهلت كل هذه التطورات.
المشكلة الآن هي أنه مع تزايد عدد المسلمين، فإن هذه الظواهر التي كانت هامشية أصبحت أكثر انتشاراً وتقلق الفرنسيين الذين يرون عالماً موازياً وعدائياً يُبنى على أرضهم. وهم يعرفون أيضاً أن بعض المنظمات مثل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة تطلب من المسلمين الذين يعيشون في الخارج إعداد “مجتمع بديل” إسلامي.
وبالتالي، ليس من الممكن العيش في وئام مع المجتمعات التي عارضت بشكل جذري وجهات نظر التقاليد الوطنية، فلقد تم تضخيم أسلمة المجتمع في السنوات الأخيرة بسبب عدد الهجمات التي ارتكبت باسم الإسلام في فرنسا وحول العالم. وتعتبر فرنسا من أكثر الدول تضرراً من الإرهاب. وقتل أكثر من 267 شخصاً على يد الإسلاميين منذ مارس/ آذار 2012 في فرنسا. هذا التطرف في جزء من العالم الإسلامي يقسم فرنسا على أسس دينية وسياسية ويمهد الطريق لصدام الحضارات الذي تنبأ به “صموئيل هنتنغتون” عندما تنحى وزير الداخلية اليساري السابق جيرار كولومب عن منصبه في 2018 قال: “اليوم نعيش جنباً إلى جنب … أخشى أننا سنعيش غداً وجهاً لوجه”.
ما دور ماكرون؟
إيمانويل ماكرون، مثل أسلافه، لا يفهم خطورة الموقف، لقد كانت فرنسا متساهلة كلياً في إدارتها للهجرة وظهور الإسلام الوهابي، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الفرنسي لا يحظى بشعبية كبيرة خاصة بعد مظاهرات السترات الصفراء وإدارة أزمة “كوفيد -19″، وهو الآن يبحث عن مخرج من خلال فتح نيران مضادة لجعل الناس ينسون إخفاقاته في السياسة الداخلية، لم تمر فرنسا أبداً، منذ الحرب العالمية الثانية، بأزمة أخلاقية واجتماعية وسياسية ومالية مثل الأزمة التي تمر بها اليوم.
إن ماكرون يدافع عن الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد بدافع الانتهازية وهو يعلم أن الدعوة لمقاطعة جزء من العالم الإسلامي ضد فرنسا تتزايد. وبينما تناثرت صور الغلاف الإعلامي للمنتجات الفرنسية على الأرض فإنها لا تتحدث عن عدم شعبية حظر التجول والأقنعة (في إشارة إلى مظاهرات السترات الصفراء)، بينما يظهرون صور الأعلام الفرنسية تحترق، كما أنهم لا يتحدثون عن تسريح العمال ونقص الموارد للمستشفيات والمدارس، بينما يصورون الجهاديين وهم يرددون (الله أكبر)، ولا يظهرون إحصائيات ارتفاع حالات الانتحار والجريمة في الداخل الفرنسي. بل يظهرون الكراهية ضد فرنسا، وكل ذلك للتبرير لاحقاً عن دورهم في الاعتداءات العسكرية الفاضحة التي شاركت فيها فرنسا في العراق أو سوريا أو ليبيا، من خلال القيام بتلك الإيحاءات التي تتعلق بالعالم الإسلامي، وهذا يعني أن ماكرون ليس مدافعاً عن حرية التعبير، بل يلعب ورقة صراع الحضارات معتمداً على فقدان ذاكرة الشعب الفرنسي ليمنح نفسه صورة أمير حرب.
الدور التركي
يستغل ماكرون الموقف ليظهر على الساحة الدولية من خلال المجادلة عبر وسائل الإعلام ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إذ ان فرنسا لا تحب استراتيجية “الوطن الأزرق” لأنقرة، ولكن بصرف النظر عن الصراخ الذي ينتهجه ماكرون ووسائل إعلامه، لكن بدون أي فعل يُذكَر، ومن المسلّم به أن أردوغان يفعل ما يريد، فمثلاً في يونيو الماضي، أضاءت السفن التركية، للسفن الفرنسية بالرادار أثناء سعيها للاقتراب من سفينة شحن كانت تنقل أسلحة تركية بشكل غير قانوني إلى ليبيا، وماذا فعلت فرنسا حينها، إكتفت بأن تشتكي إلى الناتو، حيث الأخير فضل التستر على تركيا. وعلى الرغم من أن أردوغان تلقى تعهداً بقيمة 6 مليارات يورو من الاتحاد الأوروبي لتنظيم تدفق الهجرة الجماعية، فماذا فعل؟ استخدم ذلك كأداة للابتزاز، وماكرون والاتحاد الأوروبي صامتان.
إن أردوغان يمارس الألاعيب مع أوروبا، وهذا ما يؤكد عجز بروكسل، التي لا يمكنها أن تحرك ساكناً دون دعم واشنطن. أردوغان يؤجج الحرب في ناغورنو قرة باغ، ويعلو صراخ فرنسا دون حراك، وماكرون إعتاد هو الآخر الصراخ إعلامياً أما كفعل شيء ملموس ضد نظيره التركي لا شيء، فأمل ماكرون متمحور حول أن تؤدي عدم شعبيته في العالم الإسلامي إلى حشد الفرنسيين خلفه وأن ينسوا المعالجة المأساوية للأزمة التي تمر بها فرنسا.
وبالتالي يبدو ماكرون أنه متخصص بأدوار الكوميديا، فلا عجب أن إتهمه أردوغان بأنه مريض نفسياً، وهذا ما نفع أردوغان الذي بدأ بإستثمار خطأ ماكرون، ليقوي شعبيته في العالم الإسلامي كزعيمٍ للأمة الإسلامية، لكن أيضاً على أردوغان الحذر من فكرة الخليفة، لأنه قد يأتي يوماً ويقع في شرّ أعماله.
ما هي الحلول المتوقعة؟
الحل الأول، أن يقوم العالم الإسلامي الرافض للتعصب الديني الفصل بين المعتدلين والمتشددين الذين يسيؤون للعالم الإسلامي بإرتكابهم الإعتداءات، لأن التهاون مع هؤلاء يعطي فكرة للغرب حول أن الإسلام متهاون مع الإرهاب، ما يبرر مخاوف الفرنسيين من الإسلام. والحل الثاني، أن يختار مسلمو فرنسا الذين يريدون تطبيق الشريعة الذهاب والعيش في الدول التي تطبقها.
لأنهم إذا كانوا يريدون فرض الشريعة في فرنسا، فمن الطبيعي أن يجدوا معارضة قوية بشكل متزايد أمامهم والتي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى طردهم أو نشوب حرب أهلية تتعارض مع الشريعة الإسلامية في فرنسا، لكن هذا لا يعني أن المسلمين لا يستطيعون إيجاد مكان لهم في فرنسا. كثير من المسلمين مندمجون بشكل جيد هناك ولا يريدون أسلمة المجتمع.
يجب إيقاظ الفرنسيين
يجب أن يتولى الفرنسيون المسؤولية، إذا كان الإسلام الراديكالي يتقدم فذلك لأن الفرنسيين تخلوا عن كنائسهم. إذ لم يعد بعض الفرنسيين يشعرون بأنهم في وطنهم، فذلك لأنهم يسمحون للسياسيين بجلب مئات الآلاف من المهاجرين دون استراتيجية اندماج. فلقد قضوا على العلاقة الأسرية وروح التضامن التي كانت سائدة.
وإذا لم يعودوا قادرين على إرسال سفنهم الحربية إلى اسطنبول والمطالبة باحترام أردوغان لهم، فذلك لأنهم سمحوا لحلف شمال الأطلسي وواشنطن التحكم بهم، فما يحدث لهم ليس بسبب المسلمين، بل بسبب سياستهم الخاطئة ولأجل ذلك فرنسا مريضة، فكلام ماكرون عن أنه يريد الدفاع عن قيم الجمهورية الفرنسية مجرد إدعاء.
إن ترديد ماكرون لكلمات الحرية والمساواة والأخوّة مجرد كلمات لا معنى لها في بلد تتضاءل فيه الحريات وتتزايد اللامساواة، وأصبحت الأخوّة بقايا ماضٍ مجيد، هوية فرنسة تائهة وما تمر به أزمة أخلاقية وإقتصادية. وما يؤكد ذلك أن موضوع حرية التعبير مهم، لكن لا يتم التعامل معه بإنصاف في وسائل الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يخضع الكثير من الأحاديث التي لا علاقة لها بالإسلام للرقابة يوميا لأنها لا تتوافق مع الخطاب السياسي الصحيح لمجتمعات ما بعد الحداثة الغربية. إذا كان السيد ماكرون يريد الدفاع عن حرية التعبير فعليه الدفاع عنها في كل مكان وليس فقط عندما يناسبه ذلك.
أخيراً، إن الدولة الفرنسية والنخب الفرنسية منفصلتان عن الشعب، والنموذج الفرنسي متوقف ويحتاج إلى إحياء روحي وسياسي واقتصادي. ويجب على العالم الإسلامي أن يفهم شيئاً واحداً مهماً، أن أولئك الذين يعانون أكثر من غيرهم في فرنسا، ليس المسلمين، هم الفرنسيون.
خاص “وكالة”رياليست” الروسية – نيكولا ميركوفيتش – باحث وكاتب سياسي صربي.