ثمة خيوط ممتدة تربط بين مواجهة موسكو لحركات الإسلام الراديكالي خارج حدود الاتحاد الروسي، وما تواجههه من مخاطر نتيجة تمدد الجماعات ذاتها داخل بلاد القوقاز. فجماعات السلفية الجهادية على التخوم وداخلها تتشابه في السمات والتكتيكات والمنهج الفكري مع الجماعات الراديكالية في كل من سوريا وليبيا والعراق، وإن اختلفت الأهداف والمُسميات.
وتبدو المواجهة بين الدولة الروسية الساعية لاستعادة جانب من دور سابق كان للاتحاد السوفييتي، وبين الجماعات الإسلامية الراديكالية، حتمية وحادة ومعبرة عن صراع طويل الأمد يُغير مواقعه وتكتيكاته ويستخدم كل سُبل المواجهة الفعالة. ويرى عمرو الديب، الباحث المصري المتخصص في شؤون الجماعات الراديكالية، أن الفترة المقبلة سوف تشهد اتساعا في مستوى المواجهة، ولجوء موسكو إلى محاولات متنوعة وتبني تكتيكات جديدة لاستئصال المزيد من المتطرفين، تأثرا بهزائم الجماعات السلفية الشبيهة في مناطق أخرى، ونتيجة لتغير مواقف بعض الدول العربية الداعمة لها. ويقول الديب في حواره مع “العرب”، إن هناك جملة من النتائج الملموسة للمواجهة الشاملة لجماعات التطرف الإسلامي المنتشرة في بلدان الاتحاد الروسي، لاسيما داخل دولة الشيشان، ويعني ذلك الاقتراب من القضاء على الفكر السلفي المنتشر داخل الحدود، بعد أن نجحت الحكومة في تحييد خطره.
وعمرو محمد الديب، باحث أكاديمي مصري في جامعة نيجني نوفغورود الحكومية الروسية (لوباتشيفسكي)، ويعمل مديرا لمركز خبراء “رياليست” الروسي، وهو عضو في الهيئة الأكاديمية الاستشارية للمنتدى العربي لتحليل الدراسات الإيرانية، ويعمل مستشارا سياسيا لعدد من الشركات الروسية المتخصصة في مجال الطاقة. وصدرت له عدة كتب، منها “كيف تصنع ثورة زائفة”، و”السياسة الخارجية الروسية ما بعد بوتين”، وكتاب “الحركة السلفية – الوهابية في الاتحاد الروسي” الذي صدر قبل أسابيع قليلة عن المركز الروسي للكتاب.
ويرى الباحث المصري أن المواجهة الشاملة التي تنتهجها روسيا في مواجهة المد الراديكالي داخل حدودها حققت نتائج جيدة خلال الشهور الأخيرة، نتيجة ما ألحقته من هزائم بالجماعات المماثلة في سوريا وليبيا. ودلل على استنتاجه بأن عدد العمليات الإرهابية التي شهدتها الشيشان انخفض من 437 عملية سنة 2009 إلى 93 عملية في العام الماضي، ووصل عدد العمليات الإرهابية في داغستان إلى ذروته سنة 2016 محققا أكثر من 900 عملية، ثم انخفض العدد مؤخرا إلى 262 عملية، وهناك انخفاض واضح في العمليات الإرهابية في أقاليم كثيرة تابعة للاتحاد الروسي.
وتعتمد موسكو في مواجهتها للإسلام الراديكالي على ذراعين رئيسيتين؛ إحداهما تشريعية، وتتيح إطارا قانونيا حاكما للمواجهة، والأخرى أيديولوجية تعتمد على الفكر والتعليم والثقافة والفهم الديني القابل للتعايش، ما دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتأكيد مرارا على ضرورة التفرقة بين الإسلام كدين وبين أنشطة الجماعات السلفية كتوجهات سياسية.
مواجهة فعالة
ذكر عمرو الديب لـ”العرب” أن المواجهة التشريعية تستند إلى المادة الثالثة عشرة من الدستور، التي تنص على “يُحظر إنشاء الجمعيات العامة ذات الأهداف والأنشطة الموجّهة نحو التغيير القسري لأساس النظام الدستوري، وانتهاك سلامة الاتحاد الروسي، أو تقويض أمنه، أو إنشاء وحدات مسلحة، أو التحريض على الفتنة الاجتماعية أو العرقية أو القومية أو الدينية، كذلك تُحظر أنشطتها”.
وكشف أن الاتحاد الروسي أقر خطة عمل شاملة لمكافحة الأفكار السلفية يمتد تنفيذها لعام 2025، اعتمدت على نظام تعليمي وأخلاقي يُرسخ قيم المواطنة ويعزز ثقافة التسامح وقبول الآخر والتعايش بين أصحاب العقائد المختلفة.وأضاف أنه على الرغم من النجاح الواضح في الحد من الإرهاب مقارنة بالسنوات السابقة، فإنه يمكن القول إن الخلايا النائمة التابعة للحركة السلفية في منطقة القوقاز مازالت تمثل عاملا رئيسيا لزعزعة الاستقرار ليس فقط بسبب الأيديولوجيا التي يعتنقها هؤلاء، لكن بسبب الوضع الاقتصادي والسياسي الصعب داخل هذه المناطق.
ولا تقتصر هذه الخلايا على داغستان أو الشيشان، بل تمتد إلى إنغوشيا وقبردينو بلقاريا، حيث يرتكب الإرهابيون أعمال عنف ضد مسؤولين وشخصيات مسلمة موالية للسلطات الفيدرالية الروسية.
وأوضح الباحث والأكاديمي المصري أن هناك أسبابا عديدة ساعدت على انتشار الفكر المتطرف داخل المجتمعات الإسلامية في روسيا الاتحادية، أبرزها انخفاض مستويات التوعية الاجتماعية، خاصة في مناطق شمال القوقاز، وما صاحب ذلك من ارتفاع في نسب البطالة بين الشباب، وتراجع الخدمات الأساسية، وأسهم انتشار الأمية في تمدد الأفكار الراديكالية.
وقال الديب لـ”العرب” إن انخفاض تأثير دور الدين التقليدي في حياة المجتمع أدى إلى هيمنة الدين غير الرسمي، فلم يعد أمام الشباب المسلم سوى طريقين، أولهما الصوفية، وثانيهما السلفية، وبما أن الطريق الثانية مقربة جدا للسلطة الفيدرالية في موسكو، فلا يجد الشباب المسلم سوى السلفية كملاذ، نظرا لعدم ثقته في السلطة السياسية المحلية والفيدرالية. وأدت هجرة نسبة من السكان إلى انخفاض وصل لحوالي 27 في المئة، لتتحول الكثير من المجتمعات في شمال القوقاز إلى مجتمعات شبه إسلامية، ما جعلها تربة خصبة لزيادة تأثير التيار السلفي.
تباين التوصيفات
أكد الديب أن هناك تباينا في مصطلح السلفية داخل الاتحاد الروسي عنه في الوطن العربي، ومن المعتاد أن يتم إطلاق مصطلح السلفية في روسيا الحديثة على أنها مجمل فروع الحركات الإسلامية التي تمثل خطرا على أمن الاتحاد الروسي. ويمكن تقسيم جماعات الإسلام الراديكالي في روسيا إلى تيارين رئيسيين؛ أولهما السلفيون الكلاسيكيون، وهم أتباع “صف الإسلام” أو “الإسلام النقي”، وثانيهما الإخوان المسلمون، ويتمثلون في أنصار حزب التحرير الإسلامي، وأتباع جماعة التبليغ الباكستانية.
وأشار عمرو الديب إلى أن هناك تيارا أقل اهتماما بالسياسة يعتمد بشكل رئيسي على كتابات سعيد النورسي، الأقرب إلى الصوفية كمنهج فكري، ويريد وأنصاره استمرار الجمهوريات الإسلامية الروسية داخل الاتحاد الفيدرالي، وينبذ العنف بكل أشكاله، ويركز فقط على الدعوة ونشر الأفكار السلفية في المجتمع.
ولفت في حواره مع “العرب” إلى أن وجهة النظر الأمنية ترى أن كافة التيارات الدينية تشكل خطرا كبيرا على بنيان الدولة والاستقرار داخل الاتحاد الروسي، فالمعتدلون أو من يبدون كمعتدلين ينتظرون تغير الظروف للتحول إلى العنف، لأنهم يحملون فكرا يناقض في حقيقته مفهوم الدولة الوطنية، ويعادون بشكل واضح الصوفيين باعتبارهم قريبين إلى السلطة الحاكمة. ومع كل الفروق بين تيارات وجماعات الإسلام الراديكالي في الأراضي الروسية، هناك تصور عام يشي بأن كافة الجماعات تابعة أو مرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية، لأن السنوات الأخيرة شهدت عمليات انتقال كبيرة لبعض الشباب في بلاد القوقاز إلى صفوف داعش.
ومن الواضح أن نشاط الجماعات الراديكالية في روسيا يعتمد على شن حرب حقيقية ضد الحكومة الفيدرالية في كل من داغستان وإنغوشيا، في حين تتمتع تلك الجماعات بحضور طاغ في قباردينو – بلقاريا، وتعززت مواقفها بشكل واضح في كل من تتارستان وبشكيريا، وامتد الحضور إلى موسكو في الآونة الأخيرة.
وذكر الديب أن المواجهة الصارمة من الدولة الروسية للجماعات المتطرفة لم تحمل في طياتها توجهات سلبية تجاه الإسلام نفسه، فموسكو تحاول الاقتراب أكثر من دول العالم العربي، ومد خطوط تعاون مباشر في مجالات عديدة من بينها مكافحة الإرهاب، وهناك تأكيد على أن الإسلام في حقيقته بعيد تماما عن التطرف، ويرفض أي فكر انفصالي يؤثر سلبا على الاستقرار.
وبالنسبة لموقف سكان الجمهوريات المسلمة من إجراءات الحكومة الفيدرالية والسلطات المحلية لمكافحة الجماعات السلفية، أوضح الديب أن الغالبية العظمى من السكان تدعم المكافحة الفيدرالية، لأن معظم شعوب الجمهوريات عانت من ويلات الحروب، خاصة في الشيشان وداغستان، قائلا “لقد زرت البلدين مؤخرا ورأيت ذلك بنفسي”.
المصدر الأصلي للحوار: العرب اللندنية