إن ملف العمل العسكري في إدلب من المرجح أن يصعد إلى مستوى أعلى و بآلية مختلفة تنتقل فيه إلى مواجهة سلاح “جبهة النصرة” وإن كان ذلك قد استهلك الكثير من رصيد الدم السوري في الشمال.
في الوقت الذي أعلن فيه عن سيطرة القوات النظامية على مدينة معرة النعمان ثاني أكبر مدن محافظة إدلب، كانت تركيا أرسلت رتلا عسكريا ضم حوالي مئة آلية عسكرية، تمركز قرب مدينة سراقب (شمال معرة النعمان) الواقعة على الطريق الدولي حلب – دمشق، وأقام نقطة في محور الصوامع جنوب شرقي المدينة.
ورغم الآمال التي كانت تعقدها الجماعات المعارضة على أنقرة وبالأخص الموالية لتركيا؛ فيما يخص ضمان الحفاظ على سيطرتهم في عموم محافظة إدلب إلى جانب تنظيم “هيئة تحرير الشام” المصنف على قوائم الإرهاب، إلا أن تركيا أثبتت لمؤيديها قبل مناوئيها من السوريين والمتدخلين في الشأن السوري، أن “أمن نفوذها” في المنطقة فوق أي إعتبار وأن المدنيين السوريين خارج حساباتها، وذلك بخلاف ما كانت تدعيه في طمأنتها لمؤيديها وأتباعها بأنها ستقف في صفهم خلال المعارك التي كانت تنتظر المنطقة بسبب استمرار تواجد (جبهة النصرة)؛ وعدم التزام تركيا بتنفيذ التعهدات التي تم الاتفاق عليها مع روسيا في اتفاق سوتشي حول منطقة خفض التصعيد الرابعة في إدلب.
لماذا أُنشئت نقاط المراقبة؟
في أواخر عام 2017 بدأت تركيا إنشاء أولى نقاط مراقبتها في الشمال السوري حتى وصل عددها إلى 12 نقطة مراقبة، قبل التوجه التركي الأخير بإنشاء النقطة الثالثة عشر بالقرب من سراقب.
وتتوزّع نقاط المراقبة التركية في الشمال السوري كما يلي:
النقطة الأولى: قرية صلوة بريف إدلب الشمالي، دخلتها القوات التركية في 12 تشرين الأول 2017.
النقطة الثانية: قلعة سمعان بريف حلب الغربي، دخلتها القوات التركية في 23 تشرين الثاني 2017.
النقطة الثالثة: الشيخ عقيل بريف حلب الغربي، دخلتها القوات التركية في 27 تشرين الثاني 2017.
النقطة الرابعة: تلة العيس بريف حلب الجنوبي، دخلتها القوات التركية في 5 فبراير/ شباط 2018 .
النقطة الخامسة: تل الطوقان بريف إدلب الشرقي، دخلتها القوات التركية في 9 شباط 2018 .
النقطة السادسة: الصرمان بريف إدلب الجنوبي، دخلتها القوات التركية في 15 شباط 2018.
النقطة السابعة: جبل عندان بريف حلب الشمالي، دخلتها القوات التركية في 17 آذار 2018 .
النقطة الثامنة: الزيتونة في جبل التركمان شمال اللاذقية، دخلتها القوات التركية في 4 نيسان 2018.
النقطة التاسعة: مورك في ريف حماة الشمالي، دخلتها القوات التركية في 7 نيسان 2018.
النقطة العاشرة: الراشدين الجنوبية بريف حلب الغربي، دخلتها القوات التركية في 9 أيار 2018.
النقطة الحادية عشر: شيرمغار بريف حماة الغربي، دخلتها القوات التركية في 14 أيار 2018.
النقطة الثانية عشر: اشتبرق في جسر الشغور بالريف الغربي لإدلب، دخلتها القوات التركية في 16 أيار 2018.
وتنتشر النقاط الآنفة الذكر في إطار اتفاق مناطق خفض التصعيد المتفاهم عليه بين الدول الضامنة لمسار أستانا (تركيا، روسيا، إيران)، حيث تدخلت تركيا لإنشاء هذه النقاط في البداية على أساس مراقبتها لمنع التصعيد في المنطقة و الحيلولة دون أي خرق لوقف إطلاق النار هناك. إلا أنه ومع استمرار تواجد “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) وعدم المضي في تنفيذ اتفاقات سوتشي؛ استمر التصعيد العسكري هناك ما أدى إلى خلق واقع ميداني جديد سواء في المنطقة بذاتها أو حتى بتشابكات التداخل بين ملفي شرق الفرات وإدلب وتأثيرات فرض التوازنات حيال المنطقتين.
ورغم محاصرة القوات النظامية لثلاث نقاط مراقبة تركية، إلا أن التحذيرات المثارة من قبل تركيا لعدم استهدافها من قوات حكومة دمشق لا تتعدى عن كونها تطلق للاستهلاك الإعلامي، حيث هددت وزارة الدفاع التركية يوم الثلاثاء (28 كانون الثاني)، بأقسى رد ممكن في حال استهداف نقاط مراقبتها في سوريا، وقالت الوزارة: “سوف نرد في إطار حق الدفاع المشروع على أي محاولة لتهديد أمن نقاط المراقبة التركية الموجودة في المنطقة بموجب تفاهمات أستانا وسوتشي بأقصى قوة وبدون تردد”.
عملياً فإن استمرار تقدم القوات الحكومية بعد تجاوز نقاط المراقبة التركية يعني أن ما يحصل من تطورات عسكرية بموافقة تركية وتنسيق روسي يخفي وراءه الكثير، ويأخذنا إلى القول بأن كل ذلك ما هو إلا نتاج التفاهمات الروسية -التركية بدرجة رئيسية، و يتصل به بشكل مؤثر لقاء مسؤولي الاستخبارات في أنقرة و دمشق (حقان فيدان وعلي مملوك)، ويبدو أن الصفقة التي مُررت بين الطرفين بدأت تتضح ملامحها.
ويبدو أن تغير الواقع الميداني وعدم تنفيذ الالتزامات التركية حيال جبهة النصرة بقصد أو بعجز، أدى إلى تبديل مهمة نقاط المراقبة التركية من رصد للخروقات إلى قواعد عسكرية تتشارك بها كل من أنقرة ودمشق وموسكو خلال المرحلة المقبلة للانطلاق في إنهاء جبهة النصرة، والسيطرة “التشاركية” هناك بين هذه الأطراف “مؤقتاً” إلى حين الاتفاق على حل سياسي شامل ونهائي في سوريا.
المعركة الكبرى وتفكيك النصرة… أوراق دمشق وأنقرة الرابحة!
أوحت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -مؤخراً- حول ما أسماه بـ “المعركة الكبرى” إلى أن أنقرة ستسلّم المناطق الجنوبية من مركز محافظة إدلب إلى حكومة دمشق، وهو أمر لن يكون بالمفاجئ في حقيقة الأمر، بخاصة وأن أردوغان أوعز عبر اتصال مرئي مباشر خلال الاجتماع الذي ترأسه مسؤول جهاز الاستخبارات التركي حقان فيدان وحضره قياديين معارضين بأن على فصائل المعارضة السورية المدعومة من أنقرة بأن تتجهز للمعركة الكبرى بعد أن اتضح أن موسكو ماضية في العمليات العسكرية هناك، وفق ما تم نشره بخصوص هذا الاجتماع.
إلا أن ذلك التصريح الذي أطلقه أردوغان وفق ما أشارت إليه تقارير صحافية يوم الجمعة (24 كانون الثاني) لا يبدو أنه يخص تسليم المناطق، بل يتعداه إلى ما هو أبعد من ذلك، ويتعلق بتشارك تركي سوري روسي لقتال تنظيم جبهة النصرة والفصائل المتشددة المتصلة بها في شمالي وغربي إدلب، وهو ما قد يدفع لنرى هجوم متزامناً بين قوات موالية لدمشق و مناوئة لها على خصم واحد وهي القوى المصنفة على قوائم الإرهاب (جبهة النصرة وحراس الدين).
لقد أثار اللقاء الذي جرى في موسكو (13 كانون الثاني) بين رئيس مكتب الأمن الوطني السوري، علي مملوك، و رئيس جهاز الاستخبارات التركي، حقان فيدان، كثيرا من التساؤلات والتحليلات حول خصوصية توقيت عقد هذا الاجتماع ومعاني الاعتراف به بشكل جلّي.
من المفهوم نوعاً ما استغراب عقد الاجتماع الذي تم بحضور مسؤولين روس، إلا أن زمن اللقاء الذي يأتي في وقت تقول فيه المؤشرات أن تقارباً وشيكاً سيحصل بين أنقرة و دمشق من بوابات عدة، قد يكون أولها منطقة شرق الفرات ووحدات حماية الشعب الكردية؛ و هو ما يشي بأن ملفي شرق الفرات وإدلب باتا متلازمين لدى ثلاث جهات (دمشق، أنقرة، موسكو)، وهذا ما يزيد من طمأنة روسيا بأن صراع التوازنات في المنطقتين ما تزال هي قادرة على ترجيح كفته لمصلحتها، ومن ناحية أخرى فإن المخاوف التي تزعمها أنقرة إزاء سلاح الوحدات الكردية قد تنجح موسكو ودمشق سوية من احتوائه بشكل دائم.
وعليه فإن ملف العمل العسكري في إدلب من المرجح أن يصعد إلى مستوى أعلى وبآلية مختلفة تنتقل فيه إلى مواجهة سلاح “جبهة النصرة” وإن كان ذلك قد استهلك الكثير من رصيد الدم السوري في الشمال.
مالك الحافظ- باحث و محلل سياسي، خاص لوكالة أنباء “رياليست”