تقول كرستين لاغارد: “لا تزال الشمس ساطعة في سماء الاقتصاد العالمي، ولكن مزيداً من الغيوم يبدو في الأفق”.
تعد السياسة الاقتصادية بفروعها المتعددة سواء المالية أو النقدية أو التجارية وغيرها وسيلة من وسائل حكومات الدول نحو تحقيق مجموعة من الأهداف الاقتصادية والاجتماعية ذات تأثير معين. وبطبيعة الحال تشترك معها الموارد البشرية والطبيعية فضلاً عن التوازن في القطاع الاقتصادي الخارجي والاستقرار المالي والاقتصادي ومن ثم التوزيع العادل للمدخولات الفردية.
حينما اجتمع وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية الممثلون لأعضاء مجموعة العشرين في أكتوبر/ تشرين الثاني 2019، كان التفاؤل سائداً بشأن انتعاش الاقتصاد العالمي وفرص إجراء الإصلاحات الضرورية، واجتمعوا مرة أخرى في العاصمة الأرجنتينية – بوينس آيرس في الأسبوع الذي تلاه إنصب تركيزهم على السياسات اللازمة لحماية هذا الانتعاش من مخاطر التطورات السلبية وتعزيز النمو في المرحلة القادمة. والخبر السار أن زخم النمو يزداد قوة شاملاً ثلاثة أرباع الاقتصاد العالمي. فضلاً عن ذلك أن مؤشرات الانتعاش المتوقعة تشير بأنها ستؤول إلى متطلبات إحترازية وفرض إيقاع التباطؤ وعدم الاستقرار نهاية عام 2019 في نهاية المطاف.
ما يعني أن آفاق المدى المتوسط ستفرض تحديات على كثير من البلدان وخاصة الاقتصادات المتقدمة ولذلك تحتاج البلدان النامية، ومنها العراق وبعض الدول العربية إلى تنفيذ سياسات للوقاية من مخاطر التطورات السلبية وتعزيز الصلابة والقوة الاقتصادية ودعم النمو متوسط الأجل الذي يعود بالنفع على الجميع بالاستفادة من دعم المؤسسات المالية الدولية ومنها تجربة وخبرة المؤسسات الروسية في كيفية مواجهة المخاطر المالية والاقتصادية وبناء النماذج المالية والاقتصادية، لاسيما وأنه يوجد هناك إلتزامات مالية وإقتصادية دولية مع البنك الدولي والنقد الدولي وبعض المؤسسات المالية الدولية بشأن جدولة تسديد التزامات مديونية الدين العام.
ونعتقد بأنه حان الوقت المثالي لاتخاذ إجراءات جريئة على مستوى السياسات وتحقيق الإستفادة القصوى من فترة النمو العالمي. ومن المتوقع أن تشهد الإقتصادات المتقدمة في العامين الحالي والقادم معدلات نمو تتجاوز نموها الممكن على المدى المتوسط والذي لا يزال ليس بالمستوى المطلوب، ومن المتوقع زيادة مستوى النمو والاستدامة في البلدان الصاعدة والنامية ومنها العراق على المدى المتوسط يدعمه تحسن محدود في الآفاق المرتقبة للبلدان المصدرة للسلع الأولية.
ويتوقع هناك خطوات لها أولويات عملية من المتوقع إتباعها من صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية العالمية.
– الإبتعاد عن الحمائية (مدمرة لأنها تفرض أكبر الضغوط على أفقر المستهلكين الذين يشترون الواردات الأرخص نسبياً).
– إن معالجة الإختلالات الاقتصادية العالمية لا تتم بفرض معوقات تجارية جديدة بل يتعين معالجتها باستخدام الأدوات المالية ومنها تخفيض العجز للوصول بالدِّين العام إلى مسار مستدام وضرورة تقوية الاستثمار في البنية التحتية وزيادة الإنفاق على التعليم والزراعة والصناعة لتحقيق متطلبات التنمية.
– الوقاية من المخاطر المالية: على المستوى العالمي بلغت ديون الكيانات السيادية والشركات والمؤسسات مستويات مرتفعة غير مسبوقة، وأما في العراق فقد تجاوز الدين العام 100 مليار دولار، فضلاً عن ديون أغلب الدول العربية من شأنه أن يخلق مكامن خطر حقيقية على الوضع المالي، وربما تصل إلى مرحلة أزمة مالية حقيقية، ويمكن تصور سيناريو ازدياد معدلات التضخم تحدث فيه طفرة غير متوقعة ويزداد ضيق الأوضاع المالية بشكل مفاجئ.
وهذه التغيرات تدفع باتجاه عمليات تصحيح في الأسواق المالية، وهذا ما نجده واضحاً في تحسين الأداء والإجتهاد النشط في التعامل مع الأدوات والسياسات المالية في العراق. وهناك مشاعر قلق حقيقية تجاه إمكانية القدرة على تحمل الدين العام، وانعكاس ذلك على مسار التدفقات الرأسمالية في الأسواق الصاعدة. ويمكن أن تغتنم البلدان ومنها العراق فرصة زخم النمو الإقتصادي الحالي بأن تبني هوامش أمان في ماليتها العامة، مما يخلق حيزاً للتصرف في فترة الهبوط المتوقعة بحسب متغيرات الأوضاع الاقتصادية وتستخدم سياستها الاحترازية الكلية والجزئية بصورة نشطة، أما في الإقتصادات الصاعدة يمكن أن تساعد أسعار الصرف المرنة على تخفيف الصدمات الخارجية.
أما في العراق يؤشر عدم مرونة أسعار الصرف وأقرب للثبات وهذا ما لمسناه في أزمة انخفاض أسعار بيع النفط وما تعرض له العراق من صدمات اقتصادية ومالية قوية أثرت بشكل مباشر على واقع الموازنة العامة الاتحادية وتعطل المشاريع الاستثمارية والتنموية.
– تعجيل الإصلاحات الاقتصادية: يمكن تنفيذ هذه الإصلاحات بشكل كبير وبسهولة كلما كانت الاقتصادات في صحة أفضل وبعبارة أخرى الوقت الحالي، وقت مناسب لتعجيل الإصلاحات، ويجب أن تستهدف أسواق وقطاعات العمل الأساسية.
– تقليل فجوة المهارات: أصبح تقليص فجوة المهارات أهم في وقتنا الحالي من اَي وقت مضى لأن الثورة الرقمية والتجارة الإلكترونية والإقتصاد الرقمي بدأت تحدث تحولات في أماكن العمل وفِي الصناعات وتشير تقديرات مكنزي العالمي إلى أن 375 مليون عامل بمعدل 14% من العمالة العالمية قد يكونون مهددين بفقدان وظائفهم مع حلول عام 2030. ويبدو أنه بإمكاننا الجزم أن هذا الأمر سيتطلب تحركاً على مستوى الاستراتيجيات والسياسات الوطنية.
– توثيق التعاون الدولي والاتفاقيات الدولية النافعة: ينبغي تكثيف الجهود وعقد الاتفاقيات على شكل المصالح المتبادلة وجذب الاستثمار والزيادة من حركة ودورة رؤوس الأموال التي تحقق الاستقرار المالي، وتخفيف حجم المخاطر المالية والإقتصادية المتوقعة ومنها مخاطر ازدياد الدين العام والمخاطر المتأتية من غسل الأموال وتمويل الاٍرهاب، لذا نعتقد أن هناك متطلبات أساسية للوقاية من المخاطر المالية والاقتصادية في العراق والدول العربية:
– يتطلب تحديد دقيق لإتباع الموديل والنموذج الاقتصادي العراقي والنماذج الاقتصادية العربية المناسبة مهم جدا وفقاً لإمكانيات وقدرات العراق والدول العربية وطبيعة موقعهم الجيو – إقتصادي والجيو – سياسي، وكذلك ضرورة خلق دائرة مختصة بإدارة المخاطر والأزمات المحلية والدولية تضطلع بالدور الإستشاري للإدارة العليا في جميع مؤسسات الدولة سواء في القطاع العام أوالقطاع الخاص لتصبح قرارات مُتَّخِذ القرار أكثر دقة وصواباً والابتعاد عن القرارات المبنية على اللجان غير التخصصية وغير المدروسة.
– إخضاع الخطط والاستراتيجيات إلى الرقابة وتدقيق ديوان الرقابة المالية وإثبات مرجعيتها المؤسساتية الحقيقية لتحقيق الرقابة الفاعلة والتنفيذ والتقييم والتقويم بشكل واقعي ومدروس وملموس.
– ونعتقد أن إنفراج تفاقم الأزمات المالية والاقتصادية في العراق وبعض الدول العربية يتم إبتداءً بتغيير بعض القائمين على إدارة هذا الملف وتحييده وطنياً وتعزيزه بشخصيات مالية طموحة ومتمكنة فضلاً عن الشخصيات الاقتصادية الخبيرة تمتلك القدرة والإمكانية من واقع ممارسة مهنية وعلمية، وليس فقط على المستوى المحلي بل الدولي ومعرفة تقنية وتكنولوجية وإلكترونية بمستوى متميز. إذ يعد ملف كفاءة إدارة وقيادة الملف المالي الاقتصادي حيوي واستراتيجي، والذي يؤثر بشكل مباشر على هيكلة الاقتصاد العراقي ويعيد بناء البنى التحتية لتأهيل القطاعات السياحية والزراعية والإنتاجية والصناعية الوطنية.
– ضرورة إحالة إمساك ملف مديونية الدين العام إلى فريق عمل خبير ومتخصص مالياً ومحاسبياً وقانونياً، وبشكل مستقل عن الموازنة الاتحادية وإخضاعه بشكل مكثف لهيئات ديوان الرقابة الداخلية والخارجية والعمل على جدولة الدين العام وتحليل إعمار الديون بشفافية ومهنية وبمسؤولية، والإستفادة من خبراء المالية والدين العام الدوليين ومنهم الخبراء الروس.
– وكذلك ضرورة تغيير واقع الرؤية والثقافة الاستثمارية وتشخيص واقع المخاطر الاستثمارية تشخيصاً دقيقاً في العراق، ويتطلب التخطيط والعمل الجاد المتخصص لتهيئة متطلبات البيئة الاستثمارية والعمل على دراسة المخاطر الاستثمارية وخلق حوافز حقيقية لسوق استثماري يعمل على جذب الاستثمارات ورأس المال الأجنبي ونخص بالذكر رؤوس الأموال والشركات والاستثمارات الروسية، وتشجيع النمو الاقتصادي الذي يقتسم ثماره الجميع.
خاص وكالة “رياليست” – الأستاذ عقيل جبر علي – باحث مالي عراقي.