عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى بنهاية عام ١٩١٨، وبانتصار فرنسا وبريطانيا وهزيمة ألمانيا والدولة العثمانية، اتفق المنتصرون على إنشاء منظمة دولية عالمية تحمل اسم “عصبة الأمم – League of Nations بالإنجليزية وSociété des Nations بالفرنسية”، وذلك عقب مؤتمر باريس للسلام عام ١٩١٩، وهي أول منظمة دولية عالمية تهدف إلى حفظ الأمن والسلم العالميين، ومنع قيام الحرب عبر ضمان الأمن المشترك بين الدول، والحد من انتشار الأسلحة وتسوية المنازعات الدولية عبر إجراء المفاوضات والتحكيم الدولية، وقد وصل عدد الدول المنتمية إليها إلى ٥٨ دولة.
كان للعصبة، مجلس يتكون من ٤ مقاعد دائمة لكل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان، بالإضافة إلى مقاعد أخرى غير دائمة، وقد نجحت العصبة في حل بعض النزاعات الثانوية مثل نزاع السويد وفنلندا على جزر آلاند، والنزاع الألباني على الحدود، ونزاع ممر كورفو، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في وقف غزو اليابان لمنشوريا، وكذلك غزو إيطاليا للحبشة ” أثيوبيا”، ولأسباب أخرى كثيرة أهمها على الإطلاق، إعلان ألمانيا النازية بزعامة أدولف هتلر الحرب وغزوة لبولندا والنمسا والمجر وفرنسا، كما أن هناك أسباب جوهرية تتعلق بالنظام المؤسساتي للعصبة، وأهمها، عدم امتلاك العصبة قوة عسكرية تقوم بردع وتنفيذ القرارات الصادرة عنها بحل ووقف المنازعات، كما كان ضرورة إصدار القرارات بالإجماع وليس بالأغلبية أثر سلبي على عدم النجاح في إصدار قرارات هامة لحل ووقف المنازعات قبل استفحال واستحالة الحل بالطرق السلمية والودية بين الدول.
منظمة الأمم المتحدة United Nation (١٩٤٥ – حتى اليوم)
عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في ١٩٤٥، باستسلام اليابان وهزيمة ألمانيا وإيطاليا، مخلفة خسائر بشرية بين٦٠ – ٨٠ مليون إنسان، وخسائر مادية تعدت الـ ٢٠ مليار دولار أمريكي، والتي شملت أكثر من ٦٣ دولة من دول العالم المستقل، (دفعت ألمانيا تعويضات خسائر الحرب وفقاً لتقديرات المتخصصين بلغت ما يقارب من ٩٥٢ مليار يورو، منها ٧٧ مليار يورو كتعويضات فردية) وقام الحلفاء، أي الدول المنتصرة بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية في ٢٤ أكتوبر/تشرين الأول ١٩٤٥بمدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا بتوقيع اتفاق تأسيس المنظمة، ومقرها مدينة نيويورك، وأهدافها، الحفاظ على السلام والسلم والأمن العالميين، حماية حقوق الإنسان، وتقديم المساعدات والإغاثة الإنسانية، ودعم القانون الدولي، وتعزيز التنمية المستدامة. وتولى “تريغفيه هالفدان لي” من النرويج كأول سكرتير عام للمنظمة (فبراير/ شباط ١٩٤٦ وحتى نوفمبر ١٩٥٢) وتلاه:
داج همرشولد (أبريل/نيسان ١٩٥٣- سبتمبر/أيلول ١٩٦١) “السويد”، توفي في حادث طائرة.
يو ثانت ( ١٩٦١ – ١٩٧١)، ميانمار.
كورت فالدهايم (1971 – ١٩٨١)، النمسا.
خافيير بيريز (١٩٨٢ – ١٩٩١)، البيرو.
بطرس بطرس غالي (١٩٩٢ – ١٩٩٦)، مصر.
كوفي أنان (١٩٩٧ – 2006)، غانا.
بان كي مون (٢٠٠٧ – 2016)، كوريا الجنوبية.
وحالياً أنطونيو غوتيريش من ٢٠١٧ وحتى الآن، البرتغال.
الظروف والأوضاع العالمية المحيطة بالمنظمة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية
عقب وضع الحرب العالمية أوزارها، نشب الانقسام بين الحلفاء المنتصرين، وانقسموا إلى فريقين متناحرين، فريق بزعامة الاتحاد السوفيتي والمكون من ١٥ دولة، بالإضافة إلى دول أخرى تدور في فلكه، وما سمي بحلف وارسو، والفريق الآخر بزعامة الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي، وهذا الانقسام نتج عنه نشوب الحرب الباردة وصراع على السيطرة والهيمنة على مناطق العالم، وإلى سباق تسلح رهيب في كافة المجالات، وخاصة النووية والكيمائية والفضائية، واليوم تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ودائماً التجسس والاستخبارات.
كما كان من النتائج الأخرى حرب كوريا التي أدت إلى تقسيم شبه الجزيرة الكورية، والحرب الهندية – الصينية، وحرب فيتنام، والنزاع العربي – الاسرائيلي (/١٩٤٦/١٩٥٦/١٩٦٧/١٩٧٣)، والنزاعات على إقليم كشمير بين الهند وباكستان (١٩٤٧/١٩٦٥/١٩٧١) وحرب جزر الفوكلاند، ونزاع الصحراء المغربية (المغرب والجزائر)، والنزاع بين أرمينيا وأوزباكستان، والصراعات العرقية والقبائلية والحروب الأهلية وحروب الاستقلال في أفريقيا في كل من كينيا ١٩٥٦، والاقتتال الذي وقع في المستعمرات البرتغالية في أنغولا وموزمبيق وروديسيا، وكذلك بين زيمبابوي ونامبيا، والتفرقة العنصرية بجنوب أفريقيا، وآسيا، والحرب الصينية وفيتنام (دولتين شيوعيتين) والتي نتج عنها سقوط نظام الخمير الحمر، والحرب الأهلية في لبنان (١٩٧٥ – 1990)، والحرب الإيرانية – العراقية (١٩٨٠-١٩٨٨) والغزو الروسي ثم الأمريكي في أفغانستان، واحتلال دولة الكويت من قبل العراق عام ١٩٩٢، والغزو الأمريكي للعراق، وحرب اليمن، والأوضاع في سوريا والعراق ولبنان، والنزاعات في أمريكا اللاتينية، والحرب التي نشبت في كل من نيكاراغوا والسلفادور، وحرب البوسنة والهرسك في أوروبا، ونزاع الصحراء المغاربية، ونتيجة لصراع هذين الفريقين والاختلاف الأيديولوجي بين نظامين متناقضين اقتصادياً وسياسياً، فالعالم يعيش تحت التهديد الدائم ووطأة الدمار الشامل والانتحار والموت الجماعي في ظل سباق التسلّح المحموم بين كلاهما والتهديد الدائم باستخدام السلاح النووي، فقد كان العالم على شفى خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة خلال أزمة السويس عام ١٩٥٦، وأثناء أزمة نشر الصواريخ السوفيتية على أراضي جزيرة كوبا، والتي قوبلت باعتراض شديد من الرئيس الأمريكي حينذاك جون كيندي وفرض حصار بحري شامل على كوبا، لمنع وصول السفن الحربية السوفيتية من الوصول إليها، مما اعتبره الأخير بمثابة إعلان حرب، وفقد العالم أنفاسه حتى نجح السيد “يو ثانت – U Thant” سكرتير عام منظمة الأمم المتحدة من التمكن من حل تلك الأزمة، بعد أن اقترح أن يراقب مفتشون محايدون ومقبولون من كلا الطرفين بتفتيش السفن السوفيتية للتأكد من أنها لا تحمل صواريخ أو قنابل ذرية أو أسلحة نووية.
من الطرح السابق يتضح أن نجاح المنظمة وسكرتيرها العام في حل النزاعات ووقف إنهاء الحروب كان قليل، بينما كانت الإخفاقات كثيرة ومكلفة من حيث عدد الضحايا والمصابين والمعاقين، ومن حيث الآثار الاقتصادية والمالية التي خلفتها تلك الحروب، جراء كل ذلك كان أداء المنظمة يلقى قبول عالمي من معظم الدول الأعضاء، كما كان لتأسيس منظمة عدم الإنحياز Mouvement des non-alignés عام ١٩٥٥ في مؤتمر بادونج من ٢٩ دولة (١١٦ دولة اليوم) بناء على مبادرة من أعضائها المؤسسين وهم مصر برئاسة الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، ورئيس وزراء الهند الراحل، جواهر لآل نهرو، والرئيس اليوغسلافي الراحل، جوزيف تيتو، والرئيس الأندونيسي الراحل، أحمد سوكارنو، حيث لعبت المنظمة دوراً هاماً وكبيراً في الحفاظ على السلام والأمن في العالم، والابتعاد عن السياسات التي نتجت عن الحرب الباردة والصراع والنفوذ السياسي بين حلف وارسو بزعامة الاتحاد السوفيتي، والحلف الأطلنطي بزعامة الولايات المتحدة وحلفائها.
ولكن عقب انهيار سور برلين في ليلة التاسع من شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام ١٩٨٩، عندما اندفع آلاف الشباب من ألمانيا الشرقية نحو تحطيم سور برلين، الذي كان يفصل بين الألمانيتين لمدة ٢٨ عاماً، منذ قيام ألمانيا الشرقية (التابعة للكتلة الشرقية) ببناء هذا السور في أغسطس/آب من عام ١٩٦1، وهو الحدث الجلل الذي أحدث زلزالاً سياسياً كبيراً بكل من ألمانيا والاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية والأنظمة الشيوعية والشمولية في العالم، وكانت ذروة توابع سقوط سور برلين حدثاً أقوى وأشد، وهو ما حدث خلال الفترة من شهر أغسطس/آب إلى ديسمبر/كانون الأول من عام ١٩٩١، حيث أعلنت جميع الجمهوريات المكونة للاتحاد السوفيتي بما فيها روسيا انفصالها عن الاتحاد، ويوم إعلان الرئيس غورباتشوف (آخر رئيس للاتحاد السوفيتي) يوم ٢٥ ديسمبر/كانون الأول ١٩٩١ استقالته وتسليم سلطاته إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسن، وتم إنزال علم الاتحاد السوفيتي لآخر مرة، ورفع بدلاً منه علم روسيا.
محاولات ومقترحات إصلاح وإعادة هيكلة المنظمة
تعود البدايات الأولى للمطالبة بالإصلاح إلى النصف الثاني من القرن الماضي، حين طالبت منظمة عدم الانحياز بإصلاح الأمم المتحدة، ثم أعقب ذلك في السبعينيات أن أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بإعادة النظر في ميثاقها بحثاً عن السبل الكفيلة بتعزيز دور المنظمة ومنحها مزيداً من الفاعلية والقوة، فمنذ عقود تتوالى المطالبات بالإصلاح ومراجعة آليات عملها، وخاصة مجلس الأمن، الذي هو محور هذه الدعوات خصوصاً ما يتعلق بعضويته وصلاحياته، وليكون أكثر ديمقراطية وتمثيلاً لدول العالم، وليكون صادق التعبير عن موازين القوى الدولية التي تغيرت كثيراً منذ إنشائها في أربعينيات القرن الماضي، حيث أن مجلس الأمم المتحدة هو الذراع الأقوى، والأداة الأبرز لتكريس هيمنة القوى العظمى في العالم، وفرض إرادتها على دول العالم الثالث، وهو الأمر الذي تمحورت حولة العديد من الدعوات، خصوصاً التي طرحت من خارج الدول المئة العضوية في مجلس الأمن.
وبعد سقوط سور برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي، أصبح العالم أحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الغربي، وأصبحت السياسات الدولية والعالمية تتجه نحو مزيد من التحرر والفكر والنظم الرأسمالية واللامركزية، وظهر مصطلح ومفهوم Globalization والعولمة، ومفهوم الحوكمة Governance، وأيضاً تنامى نشاط وانتشار قوة الشركات الدولية متعددة الجنسيات أو عابرة القارات حول العالم Multinational Companies، والتي سادت كافة المحافل الدولية والسياسة، وخاصة مع بداية تولي الإدارة الأمريكية للرئيس السابق بيل كلينتون ونائبه آل جور (١٩٩٣ -٢٠٠١)، وأضحت الهيمنة الأمريكية تبسط سيطرتها على أغلب دول وبلاد العالم والمنظمات والمؤسسات الدولية حول العالم.
وفي ظل هذا الوضع العالمي غير المتوازن أو المتكافئ، أحادي القطبية، وعدم قدرة أي من القوى العالمية تبوؤ مكان الاتحاد السوفيتي لإعادة التوازن العالمي أمام العملاق الأمريكي، سواء الصين أو اليابان أو الاتحاد الأوروبي في وجود ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ومع تولي بطرس بطرس غالي منصب سكرتير عام منظمة الأمم المتحدة كأول أفريقي وهو الشخصية السياسية العالمية والدولية والأكاديمي المحنك ذائع الصيت في كافة المحافل العالمية بداية شهر يناير/كانون الثاني من عام ١٩٩٢، أوضح عن رؤيته ( بتفويض من رؤساء دول العالم) تحت عنوان “خطة للسلام” تستند على مجموعة من المفاهيم منها الدبلوماسية الوقائية وصنع وحفظ وبناء السلام نحو إصلاح وإعادة هيكلة المنظمة التي أصابها الجمود، ومبرراً ذلك بالنظام العالمي الجديد في أعقاب انهيار سور برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي، أصبحت الضرورة ملحة نحو إجراء إصلاحات بالمنظمة، سواء من حيث إصلاح الأمانة العامة، واستحداث إجراءات تتضمن ترشيد الإنفاق، وتحسين قدرات المنظمة على إدارة عمليات حفظ الأمن والسلم، وأيضاً تضمنت رؤيته توسيع عضوية مجلس الأمم بشكل مناسب وعادل، حيث يغيب عن تمثيل قارة أفريقيا وقارة أمريكا اللاتينية، وشكل تمثيل قارة آسيا الذي لا يتناسب مع حجمها وتعدادها السكاني مقارنة ببقية دول العالم، وكذلك موضوع حق النقض – الفيتو، والذي تتمتع به فقط الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن (أمريكا، روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا).
ونتيجة لمجهودات وإصرار بطرس غالي على إصلاح المنظمة، أن دفع ثمناً باهظاً مقابل ذلك بعدم التجديد له لتولي فترة ولاية أخرى للمنظمة والاكتفاء بفترة واحدة (١٩٩٢-١٩٩٦)، بناءً على اعتراض الولايات المتحدة الأمريكية واستخدام حق النقض – الفيتو بعدم التجديد، رغم موافقة جميع أعضاء مجلس الأمن الآخرين على التجديد، وعددهم ١٤ عضو، في سابقة لم تحدث من قبل، (ونتمنى عدم حدوثها مستقبلاً)، وهو مثال صارخ على دكتاتورية استخدام حق النقض، وأسف المجتمع الدولي من ذلك نظراً لمكانة وشخصية الدكتور بطرس غالي ومكانة مصر الدولية والعالمية (تولى بعد ذلك مدير منظمة الدول الناطقة بالفرنسية – المنظمة الفرانكوفونية تكريماً له، حيث رأى كثير من الرؤساء والمسؤولين والدبلوماسيين حول العالم أن الخاسر من عدم التجديد هي المنظمة وليس الدكتور بطرس بطرس غالي).
وتوالت المحاولات، حيث قدم لاحقاً كوفي أنان مشروعاً للإصلاح أمام الدورة الاستثنائية في يوليو ١٩٩٧، ثم تلا ذلك قيامه بتقديم تقرير بعنوان “الاستثمار في الأمم المتحدة من أجل منظمة أقوى – على تحسين قدرة المنظمة على الانتشار وإدارة عمليات حفظ السلام” للجمعية العامة تضمن مقترحات كجزء من خطة إصلاح واسعة لتطوير الهيكل التنظيمي والإداري للمنظمة.
وفي عام ٢٠١٣ قدمت فرنسا (عضو دائم بمجلس الأمن) بواسطة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند مشروعاً لإصلاح مجلس الأمن يرتكز على ضبط اللجوء إلى حق النقض (veto)، عبر تعهد الدول الأعضاء الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن، طوعياً وجماعياً بعدم اللجوء إلى حق النقض في حالات الجرائم الواسعة النطاق.
كما أعلن أمام الجمعية العامة تنازل بلاده من طرف واحد عن استعمال حق النقض ضد أي مشروع قرار ذي مصداقية، ويهدف إلى وقف ارتكاب الجرائم الواسعة النطاق، تم تقدمت فرنسا لاحقاً في شهر سبتمبر/أيلول ٢٠١٥ بمشروع قرار إلى مجلس الأمن، يُحد من استخدام حق النقض للدول الخمس دائمة العضوية، ولكن رفض، واستخدمت روسيا حق الفيتو ضد هذا المشروع.
وتلا تلك المحاولات، مقترحات من دول أخرى تهدف إلى ضرورة الإصلاح في ظل المستحدثات الدولية والعالمية السياسية والإقتصادية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية، وغيرها، حيث في يناير/كانون الثاني ٢٠١٧ تعهد أنطونيو غوتيريش سكرتير عام المنظمة الحالي، بالعمل من أجل إصلاح الأمم المتحدة، وقدم مقترحات لتحقيق ذلك الغرض، وإحداث “طفرة دبلوماسية” للتغلب على العقبات في محادثات السلام، وتعزيز دورها في حل المنازعات الدولية.
الولايات المتحدة ورؤيتها لإصلاح منظمة الأمم المتحدة
الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى المهيمنة على العالم واللاعب الرئيسي والأساسي، إن لم يكن الوحيد الآن في السياسة الدولية والعالمية، وواضعة الميثاق الذي قامت وتأسست عليه المنظمة منذ نشأتها في ١٩٤٥، وعلى هامش اجتماع الجمعية العامة في سبتمبر/أيلول من عام ٢٠١٧، قدم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب رؤية لإصلاح الأمم المتحدة من عدة بنود، تتضمن تعهدات، وتأكيدات تهدف جميعها لدعم مسيرة إصلاح المنظمة لجعل المنظمة أكثر فعالية وكفاءة، وعلى وجوب الحد من الازدواجية والتكرار في مختلف الهيئات التابعة للأمم المتحدة، وعلى وجوب قيام الأمين العام بإجراء “تغيرات ملموسة” في منظومة العمل الأممية لتحسين أدائها في ميادين العمل الإنساني والإنمائي والسلام، وضرورة تركيز المنظمة على الناس أكثر من تركيزها على البيروقراطية، ومعالجة سوء الإدارة، وليس من المقبول أن تتحمل دولة واحدة (الولايات المتحدة الأمريكية) القسط الأكبر من الأعباء المالية (٢٨.٥٪من ميزانية قوات حفظ السلام الدولية)، وقد أيدت ١٢٦ دولة هذه المقترحات، مقابل ٦٧ دولة لم تُبدِ تحمساً لها كان على رأس تلك الدول فرنسا وروسيا.
الإصلاح ضرورة واجبة .. وليست رفاهية
السؤال اليوم في ظل الظروف والأوضاع العالمية والدولية والإقليمية، وفي ظل جائحة فيروس كوفيد -١٩، وما يشهده العالم من قلاقل وعدم استقرار سياسي واقتصادي ومالي، ونزاعات وصراعات تعصف بكثير من دول العالم، سباق التسلّح المحموم بين أمريكا وحلفائها من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، وحلفائها خاصة كوريا الشمالية، ومشاكل نقص وتلوث مياه الشرب، والبحار والمحيطات، والتصحر والمناخ والاحتباس الحراري، ومصادر الطاقة، والفقر وزيادة السكان، والتعليم والصحة، وحقوق المرأة والطفل والمعاقين والتنمية المستدامة، والهجرة غير الشرعية، والنازحين واللاجئين، ومحاربة الاٍرهاب والتطرف الفكري والحرب الدائرة باليمن منذ أكثر من خمس سنوات، والأوضاع الإنسانية والحياتية بالغة الصعوبة، وما يحدث في سوريا وليبيا والعراق، وميانمار، وإقليم الإيغور في الصين.
أولاً، مشاكل الإنسان وكوكب الأرض
١-بعد مرور ٢٠ عاماً على الألفية الثانية، وتبني المنظمة أهداف الألفية الثمانية (Millennium Goals) من أجل التنمية، والتي على رأسها القضاء على الفقر المدقع، وكم نرى على شاشات التلفاز نهاراً ومساءاً حجم الفقر والمآسي في اليمن وسوريا والعراق، ودول الصحراء في أفريقيا، وبقاع أخرى من دول المعمورة، والآلاف الذين يموتون وتبتلعهم أمواج البحار أثناء عبورهم للوصول إلى شواطئ أوروبا بحثاً عن لقمة عيش وعمل وحياة أفضل.
٢-مشكلة المناخ والاحتباس الحراري، رغم توقيع اتفاق المناخ في باريس عام ٢٠١٥، ما زال العالم يعاني من تلك المسألة الكونية، بل تزداد تفاقم عاماً بعد عام، والتي تزيد من مشاكل المياه الصالحة للشرب وكذلك المستخدمة في الزراعة، والتصحر، وغيرها من المشاكل ذات الصّلة بتغير المناخ.
٣-سباق التسلّح المحموم بين القوى الكبرى في العالم جواً وبحراً وبراً، والذي انتقل إلى الفضاء، وتجارب الأسلحة النووية التي يعلن عن إجرائها بين الحين والآخر، دون رادع من المجتمع الدولي، ضاربين عرض الحائط باتفاق الحد من أسلحة الدمار الشامل، والنتائج الوخيمة الناتجة عن المخلفات والنفايات، هذه التجارب التي تؤثر على كوكب الأرض وتغير المناخ والاحتباس الحراري، وغيرها من المشاكل قوية الصّلة بتلك التجارب والنفايات.
٤-مشكلة نقص المياه والشح المائي الذي يواجه كوكب الأرض، والصراع للاستحواذ على مصادر المياه والأمطار الطبيعية، منها على سبيل المثال، محاولات وأطماع إسرائيل في نهر الاْردن وأنهار بانياس واليرموك والحاصباني والليطاني، في كل من الاْردن ولبنان، وكذلك ما قامت به تركيا من بناء سدود لتغير مجرى نهر الفرات لتتحكم في مجرى سريانه في سوريا والعراق، واستغلاله كورقة ضغط لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية، وكذلك قيام أثيوبيا بتشييد سد النهضة (مستغلة الأحداث التي عانت منها مصر في الفترة من ٢٠١١- ٢٠١٤) لتتحكم في مجرى مياه نهر النيل ورفضها والمماطلة لإبرام اتفاق قانوني ملزم لها، والسودان ودولة المصب “مصر” وللحفاظ على حقوق وحصص مصر التاريخية في مياه نهر النيل الخالد، والذي هو شريان الحياة لمصر والمصريين.
٥-مشكلة نقص وشح الغذاء في مناطق ودول كثيرة حول العالم، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، والتفاوت الكبير غذائياً بين دول العالم الغنية والفقيرة، وعجزها عن تقليل الفجوة والفروقات وتحقيق الأمن الغذائي في البلدان الأكثر فقراً.
ثانياً، مشاكل اقتصادية وسياسية
١-كثير من دول العالم تعاني من مشاكل اقتصادية ومالية وتمويلية كبيرة، وخلل في هياكلها الاقتصادية، وعجز ميزان المدفوعات والميزان التجاري وتضخم كبير في الدين الخارجي، والديون الداخلية، كنتيجة طبيعية للاستدانة من المؤسسات والهيئات المالية الدولية، والمحلية، مما يسبب عبء مالي على حكومات تلك الدول، بل وعجزها عن السداد والوفاء بالتزاماتها المالية قبل الدائنين، ضعف حجم الناتج القومي، والانفاق الحكومي، والقدرة على خلق فرص توظيف الشباب والباحثين عن فرص عمل، خفض كثير من الدول الغنية لحصص المبالغ المخصصة كمنح وهبات منها مقدمة إلى الدول الفقيرة والأكثر احتياجاً، بل وضع شروط وعراقيل شديدة التعقيد تحد من استفادة هذه الدول من تلك المنح.
بل وإن أغلب المحافل الدولية المنعقدة تحت مظلة الأمم المتحدة لصالح الدول الأكثر تضرراً لجمع المنح والهبات، والتنازل عن المديونيات، تخرج بنتائج محبطة للغاية، وفي أغلبها تسفر عن مخصصات وقرارات ضعيفة، ولا تتحقق، مثال ذلك، منتدى إعمار غزة ، وسوريا، ولبنان، العراق، وليبيا.
٢-إصدار المنظمة عشرات القرارات الدولية، ولم يكن لها القدرة على تنفيذها، لأسباب متعددة، منها تعارض تلك القرارات مع مصالح الدول الكبرى وخاصة الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن، وعدم امتلاك القوة على تنفيذ تلك القرارات على أرض الواقع، والأمثلة كثيرة، القرارات المتعلقة بالمشكلة الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، والتي مر عليها أكثر من ٨٠ عاماً، والمشاكل والنزاعات على الحدود، مثل، إقليم كشمير بين الهند وباكستان، الجزائر والمغرب والبوليساريو على الصحراء المغاربية، اليونان وتركيا وترسيم الحدود البحرية، إقليم كراباخ بين كازاخستان وأرمينيا، أوكرانيا وروسيا وشبه جزيرة القرم، التوتر الدائم على الحدود بين كوريا الجنوبية والشمالية، والصين وتايوان، واستمرار احتلال إسبانيا لمدينتي مليلة وسبتة بالمغرب حتى اليوم وسيطرة بريطانيا على جبل طارق الواقع داخل حدود إسبانيا.
٣-تنصل بعض الدول من التزاماتها وتعهداتها الدولية، والتي كانت تحت إشراف ومراقبة منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها التابعة، ومثال ذلك ما قامت به الإدارة الأمريكية السابقة في عهد الرئيس دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، ومن اتفاقية باريس للمناخ، وتجميد عضويتها في منظمة الصحة العالمية، سبقتها بريطانيا بشن حربها على الأرجنتين بسبب إعادة احتلالها لجزيرة فوكلاند.
٤-قيام بعض الدول الكبرى بفرض عقوبات اقتصادية ومالية وتجارية على أفراد وهيئات ومؤسسات لدول أخرى دون الرجوع إلى المنظمة، أو الحصول على موافقة مسبقة منها ومن مجلس الأمن، مثال ذلك الحصار الاقتصادي والعقوبات الأمريكية المفروضة على كوبا منذ ما يزيد عن ٥٠ عاماً، والتي رفعت خلال فترة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ثم أعادها ترامب، والحصار المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من عشرين عاماً من قبل إسرائيل، وكذلك مع الجمهورية الإيرانية، بل ونفس الفعل تقوم به الولايات المتحدة مع دول أعضاء دائمين بمجلس الأمن مثل روسيا والصين بهدف تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية والتجارية.
٥-الصراع الخفي وغير المعلن، بل وأحياناً معلن بين الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن لفرض النفوذ والسيطرة والهيمنة لتحقيق مصالحهم، مما يزيد ويؤجج من النزاعات والصراعات حول العالم، وعدم قدرة سكرتير عام المنظمة، والوضع المؤسساتي والإداري للمنظمة وأمانتها الحالية، من التنسيق بينهم وتقليل من تلك الصراعات من أجل وأد تلك النزاعات في مهدها وقبل حدوثها، وعدم اشتعالها وتفاقمها.
أهمية وضرورة الإصلاح
١-لنا في السابق والتاريخ دروس وعبر، وأن النزاعات والصراعات الصغيرة تتسبب في الحروب الكبرى، وخير مثال أن الحرب العالمية الأولى قامت بسبب حادثة اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند وزوجته صوفي، ومع تزايد النزاعات وتصاعد حدة الصراعات بكافة واختلاف أنواعها وأسبابها، ومع تنامي وتغول منصات التواصل الاجتماعي وتبادل وتناقل المعلومات والاتصالات حول العالم، وتصاعد وزيادة احتمالات نسب الخطأ (سواء عن قصد أو غير قصد) التكنولوجية، ومن ثم أصبحت الأمور أكبر وأشد خطورة، خاصة مع امتلاك أسلحة دمار شامل أكثر تطوراً ودماراً عما كانت عليه في الماضي، فاليوم أشبه بالأمس، فكل الأسباب والعوامل التي نشبت بسببها الحرب العالمية الثانية، بل وتزيد تلوح في الأفق القريب وعلى الجميع الحرص والانتباه، وعكس ذلك فالدماء سوف تطال الجميع.
٢-تنامي المشاكل والصعوبات التي يعاني منها العالم، في كافة القطاعات والمجالات، وما تخلفه الصراعات المسلحة والحروب، بالإضافة إلى الأمراض والأوبئة والفيروسات، وآخرهم جائحة كوفيد -١٩، أصبح من الضروري العمل على إصلاح وتقوية والعمل على رفع فعالية وكفاءة المنظمة أكثر من أي وقت سابق من أجل ضبط الأداء العالمي للمحافظة على الإنسان وعلى كوكب الأرض من حيث المناخ والتربة والبحار والمحيطات والأنهار.
٣-تركيز مجهودات منظمة الأمم والهيئات التابعة لها أكثر على الاحتياجات والمطالب الإنسانية خاصة، الصحية، والاجتماعية، التعليم، المأوى والسكن، العمل، المرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة، التواصل والتبادل الحضاري والثقافي بين الشعوب وخاصة الشباب لتيسير حرية السفر والتنقل والترحال بين دول العالم.
أخيراً وليس آخراً، إن إصلاح منظمة الأمم المتحدة هو الأمل العالمي لإحداث التوازن العالمي أمام تنامي الهيمنة والسيطرة الأمريكية، ولتكون هي القوة المقابلة والمتكافئة لها لإحداث التوازن أمام القطب الواحد (عالم أحادي أو ثنائي القُطب أو متعدد الأقطاب، فهو عالم يعصف بالنزاعات والصراعات) بشرط اتفاق القوى الأخرى من دول العالم، والعمل على زيادة استقلالية المنظمة مالياً وتمويلياً (المنظمة تعاني من عجز مالي قارب على الـ٦٠٠ مليون دولار، بالإضافة إلى ٦٤ دولة عضو لم تسدد حصتها في المنظمة حتى عام ٢٠٢٠)، بزيادة الاعتماد على مصادر تمويلية من خارج أعضاء المنظمة، وإحداث إعادة الهيكلة والوظيفية وقواعد التصويت، وترشيد استخدام حق النقض، مثال مقترح، عدم استخدام حق النقض – الفيتو لأعضاء مجلس الأمن الدائمين في حال كان العضو طرف أصيل في الأمر المطلوب التصويت عليه من قبل مجلس الأمن، وضرورة أن يكون للقرارات الصادرة عن الجمعية العامة بالإجماع نفس قوة القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، ولها الحصانة الكاملة ضد استخدام حق النقض، عند عرضها على مجلس الأمن، ضرورة العمل على توسعة مجلس الأمن بشكل أكثر عدالة بانضمام أعضاء دائمين ممثلين عن أفريقيا وأمريكا الجنوبية لتحسين أداء مجلس الأمن ليصبح أكثر كفاءة وفعالية وحيادية وشفافية وعدالة وديمقراطية، ومنظمة أكثر توافقاً وانسجاماً واتحاداً، من أجل غدٍ أفضل ومستقبل وعالم أكثر أمناً وسلاماً وحكمةً ورشداً وهدوء.
خاص وكالة “رياليست” – د. خالد عمر.