في الثاني عشر من شهر شباط/فبراير الجاري، رسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خطوطاً تركيّة تتعلق بتطورات الوضع الميداني الأخيرة في منطقة خفض التصعيد الرابعة في إدلب، وقال في تصريحات له يوم الأربعاء الفائت أن قوات الجيش التركي ستقوم بكل ما يتطلبه الأمر على الأرض وفي الجو، إذا تعرضوا لأقل ضرر في نقاط المراقبة، أو في أي مكان آخر، وبأنها ستضرب قوات النظام السوري في كل مكان، دون تقيد بحدود إدلب أو مذكرة سوتشي.
التصريحات الرئاسية الصادرة من أنقرة تحمل في طياتها الكثير لو أخذنا بعين الاعتبار أن المسؤولون الأتراك؛ اكتفوا بالحرب الكلامية رداً على التقدمات التي أحرزتها دمشق بدعم من موسكو في جنوبي إدلب وغربي حلب، كان منها السيطرة على الطريق الدولي “M5” وتأمين محيطه، بل والانطلاق غرباً نحو مدينة الأتارب (ريف حلب الغربي) لفصل مناطق المعارضة السورية في إدلب إلى قطاعين.
إلى ماذا تتجه تركيا؟
رغم ما شهدته العلاقات بين روسيا وتركيا في الملف السوري خلال الآونة الأخيرة من توترات “أقلها على الصعيد الإعلامي” ترافق معها إرسال تعزيزات عسكرية كبيرة للقوات التركية وإقامة نقاط مراقبة “مؤقتة”، في شكل يوحي بأن الرد التركي على استمرار قضم دمشق لمناطق جديدة في الشمال؛ يتمثل في تثبيت أنقرة نقاط رصد قد تشكل ترسيماً لحدود فاصلة تمهيداً إلى تشكيل مناطق نفوذ جديدة.
كانت التهديدات العلنية للرئيس التركي في خطابه يوم الأربعاء الفائت، مستندة إلى المهلة التي حددها أردوغان خلال وقت سابق لتراجع دمشق من حدود مذكّرة سوتشي، أي إلى خلف نقاط المراقبة التركية حتى نهاية الشهر الجاري. لكن هل بات ضمن رغبات موسكو الرجوع إلى الوراء والتخلي عن المكتسبات الميدانية التي تم تحقيقها خلال الأسابيع الماضية؛ والتي برزت بشكل رئيسي من خلال السيطرة على مدينتي معرة النعمان وسراقب الاستراتيجيتين، فهل تقبل أنقرة بالحدود الجديدة التي رسمها التصعيد العسكري.
دعمت أنقرة مؤخراً فصائل معارضة باستهداف طائرتين مروحيتين لقوات النظام السوري خلال أقل من أسبوع، إضافة إلى “تحييد” المئات من عناصرها في مناطق عدة من جبهات القتال وفق ما أفادت به وزارة الدفاع التركية، فضلا عن سعي أنقرة لكسب تأييد سياسي “بالحد الأدنى” من واشنطن تحديداً وبشكل أوسع من الشركاء في “حلف الناتو”، غير أنها كانت تدرك أن دعم الحلف لن يصل إلى المستويات الدنيا من الحشد العسكري، وهي (أنقرة) بالأساس لا تريده، بقدر ما تريد أن تجمع أوراقاً داعمة لها على طاولة المفاوضات مع الجانب الروسي خلال الأيام المقبلة.
تهديدات تركيا يُمكن لها أن تُترجم إلى أفعال لو كانت هي فعلاً جدية في هذه التهديدات -حتى قبل انتهاء المهلة الطويلة جداً التي حددها أردوغان-، وهي (تركيا) التي تعلم يقيناً بأن روسيا عزمت على المضي بتطبيق بنود مذكرة سوتشي “المؤقتة” والمبنية على اتفاقات “أستانا 4″، والتي تم تطبيقها مبدئياً بالسيطرة على طريق حلب-دمشق الدولي وتأمين محيطه. هي تفاهمات مشتركة قد تكون وافقت عليها أنقرة ضمنياً، إلا أنها لن تقبل بتثبيتها ما لم تُحصّل مكتسبات ميدانية جديدة لن تكون عن طريق الحرب بالتأكيد وإنما من خلال تبادل مناطق نفوذ، وذريعة أمنها القومي جاهزة دوماً.
كانت تركيا تعتمد في إدارة نفوذها في مناطق شمال وشمال شرق سوريا عبر الاتفاق على تسيير الدوريات المشتركة بين موسكو وأنقرة سواء في مناطق شرق الفرات عقب التفاهم المنجز في نهاية تشرين الأول والذي قضى بانسحاب القوات الكردية من المناطق الحدودية، أو حتى تطبيق ذلك في إدلب انطلاقاً من منع دخول النظام إلى منطقة خفض التصعيد الرابعة بشكل رسمي، إلا أن فشل تركيا في تحييد التنظيمات الراديكالية في إدلب، أدى إلى عرقلة تنفيذها الفعلي والكامل، و قد يكون ذلك غيّر من شكل المعادلة بفعل النار الروسية، ما يضعنا في الفترة المقبلة أمام سوتشي 2 خاص بإدلب تُحدد من خلاله المعالم الجديدة لشكل المنطقة.
لم تكن إشارة الرئيس أردوغان عن عبث، حينما ألمح إلى أن مدى نيران قواته قد يصل خارج إدلب، بخاصة وأن تركيا من ناحية ما تزال تُصعّد في مناطق عملية نبع السلام (شمال شرق سوريا)؛ ولا تعتبر أن الشكل الحالي فيما يتعلق بنطاق سيطرته سيكون كافياً لها، ما دامت الوحدات الكردية أو قوات سوريا الديمقراطية “قسد” ما زالت تتواجد في مناطق حساسة بالنسبة لأنقرة، تتمثل أبرزها في مدينة منبج، وبدرجة مماثلة في مدن وبلدات عدة في ريف حلب الشمالي مثل تل رفعت، منغ، دير جمال، وهي المناطق المتاخمة لمناطق سيطرة الفصائل المعارضة المدعومة من قِبلها؛ والتي تُسبب دائماً مصدر قلق وإزعاج لأنقرة.
تعمل تركيا خلال الأيام الماضية على وضع نقاط مراقبة و “إزعاج” للنفوذ الروسي ضمن المناطق التي عملت موسكو من خلالها على فرض وجود دمشق فيها، حيث كان آخر تلك النقاط؛ ما قطعت عبره أنقرة طريق “M5” وبالتحديد في بلدة معرحطاط التي تعتبر مفتاح هذا الطريق الدولي، وذلك كورقة إضافية يقوي موقفها التفاوضي.
قد لا تجد أنقرة من ضير في انسحاب قوات النظام السوري بشكل نهائي من المناطق التي تتشارك فيها التواجد مع قوات “قسد” في المناطق المشار إليها آنفاً من ريف حلب الشمالي، مقابل اعتماد صيغة توافقية مع موسكو تقضي برفع يد دمشق بشكل منفرد عن المناطق التي دخلتها قواتها مؤخراً، وتثبيت شكل النفوذ خلال الفترة الحالية، ما دام ذلك يضمن لتركيا إخراج قسد ودمشق من كامل الريف الشمالي لمحافظة حلب، ما يسهم في تشكيل منطقة عزل “آمنة” لحدود تركيا الجنوبية، فضلاً عن تحقيق رابط جغرافي بين مناطق المعارضة المدعومة من قِبلها سواء في درع الفرات و غصن الزيتون، وأخيراً في هذه المنطقة المتوقع إنشاؤها في المرحلة المقبلة، بحيث تمتد من مركز محافظة إدلب نحو ريفها الشمالي إلى حدود مدينة الأتارب في ريف حلب الغربي، فالحدود التركية شمالاً وغرباً، فضلاً عن ضمان وصل هذا الشريط بريف إدلب الغربي (مدينة جسر الشغور ومحيطها) إضافة إلى ما تبقى من ريف اللاذقية الشمالي المتصل مع هذا الامتداد الجغرافي.
أين تكمن حدود الدور الروسي؟
رغم كل التصعيد الحاصل على المستوى الإعلامي والتوقعات التي بنيت في أوساطٍ سوريّة على التمنيات؛ بأن تصادم مباشر سيقع بين موسكو و أنقرة، فإن هذا الخيار يكاد يكون غير منطقي، لأسباب عدة يطول الحديث عنها هنا. غير أن كلا الجانبين ليسوا بوارد التصعيد الميداني “الأقصى”، طالما أن حدود التفاهمات المشتركة معلومة لديهما.
التزمت موسكو الصمت مراراً على كل التصريحات التركية بمختلف مستوياتها، وكأن ذلك الصمت يُحضّر لمرحلة جديدة لا بد من المضي بها بين “الشريكين” الروسي والتركي. وكما أن روسيا لا تريد خسارة بوابتها إلى أوروبا على الصعيد الاقتصادي، فإن تركيا هي الأخرى لن تقبل بانهيار تفاهماتها مع “شريك استراتيجي” تحاول أن توازن علاقاتها معه إلى جانب دورها في “حلف الناتو”؛ وإن بدت مهمتها هذه في غاية الصعوبة.
كان رد موسكو الميداني بعد إكمال السيطرة على طريق “M5″، التوغل غرباً والوصول حتى مشارف الأتارب إثر السيطرة على الفوج 46 صباح يوم الجمعة (14 شباط/فبراير)، ولكن ماذا بعد ذلك؟. هل من مصلحةٍ تكمن لدى موسكو في السيطرة على باقي الريف الغربي لمحافظة حلب أو حتى الوصول إلى معبر باب الهوى. لا يبدو ذلك ممكناً بالأساس لاعتبارات عدة، أهمها يتمثل في عدم إفساح المجال لواشنطن بالتدخل فيما لو عمّقت روسيا مناطق سيطرتها أكثر، بعدما كانت أعلنت واشنطن مؤخراً دعمها السياسي لأنقرة دون التسبب بارتفاع حدة التوتر، ما دامت حدود التفاهم بين أنقرة وموسكو مستقرة.
انطلاقاً من معرة النعمان وسراقب (النقاط الاستراتيجية على الطريق الدولي) وصولاً لمحيط مدينة حلب ومطارها الدولي، وفتح كامل طريق حلب-دمشق، والبقاء في كامل المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام السوري ما بعد الوصول إلى معرة النعمان (نهاية شهر كانون الثاني الفائت)، وبقاء نقاط المراقبة الأساسية التركية في مكانها، قد يكون ذلك شكلاً يناسب كل من موسكو وأنقرة، على أن تكون هذه المناطق تحت الإشراف الروسي كمنطقة آمنة جنوبية، بموازاة منطقة آمنة شمالية تشرف عليها تركيا (خلال المدى المنظور).
مالك الحافظ- باحث و محلل سياسي، خاص لوكالة أنباء “رياليست”