القاهرة – (رياليست عربي): تنتهج السياسة الخارجية الفرنسية مفاهيم راسخة، مستمدة من مفاهيم الثورة الفرنسية والنظام الجمهوري، وهي الحرية (التعبير والرأي، التنقل، التملك،…) والمساواة (بصرف النظر عن الجنس، الدين، العرق، اللون،…) والعدالة والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، واحترام القانون، وحقوق الإنسان، والمسائلة.
ومع اقتراب الفترة الرئاسية لرئيس الفرنسي ماكرون على الانتهاء في بداية العام القادم ٢٠٢٢، والتي شهدت العديد من المشاكل والعقبات داخلياً، مطالب اقتصادية واجتماعية للشباب والطبقة المتوسطة، وظهور أصحاب السترات الصفراء، والمظاهرات التي استمرت لشهور عدة، والتي قلّت حدتها مع سياسية الإغلاق والتباعد الصحي بسبب جائحة “كوفيد – ١٩”، والذي زاد من سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وظهرت المشاكل الطبية والصحية والعمّالية والتعليمية والاجتماعية، والتي يتطلّع الجميع على أنه بعد إعادة فتح المحال والمطاعم والمسارح والسينمات مع منتصف هذا الشهر، أن يستعيد النشاط الاقتصادي الفرنسي عافيته سريعاً خاصة مع حلول موسم الصيف واستعادة النشاط السياحي والتنقل براً وبحراً وجواً.
ولكن ما أثار انتباهي هي الخطوات التي اتخذتها الإدارة الفرنسية في سياستها الخارجية في أفريقيا والشرق الأوسط خلال الشهور الماضية، والتي بدأت بقيام الرئيس ماكرون ووزير خارجيته جان إيف لدوريان بعدّة زيارات إلى لبنان عدّة مرات وتأكيدهم المشدّد على ضرورة تشكيل حكومة لبنانية سريعاً، ورفع المعاناة عن الشعب اللبناني والمستمرة منذ سنوات والتحذير من انحدار الدولة إلى الهاوية، وحتى اليوم لم تنجح كافة المحاولات لتشكيل تلك الحكومة، ومازال لبنان يعاني.
قيام الجمهورية الفرنسية ممثلة في رئيسها الحالي “بخطوات رمزية” عمّا ارتكبته فرنسا من أفعال خلال فترة احتلال الجزائر وخلال فترة حرب الاستقلال (وليس اعتذار) وذلك بناءً على تقرير أعدّ بمعرفة المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، والذي أكده تنديد ماكرون بالاستعمار الفرنسي بالجزائر باعتباره “جريمة ضد الإنسانية” أثناء زيارته للجزائر عام ٢٠١٧، إلا أن ذلك لم يلقَ أي ترحاب وقبول من السلطة الجزائرية، حيث أكد الرئيس عبد المجيد تبون على ضرورة اعتراف فرنسا بما قامت به من مجازر وتنكيل ضد المناضلين الجزائريين، وتقديم اعتذار رسمي بذلك، وهو الأمر المرفوض تماماً من فرنسا، ومازالت العلاقات الفرنسية – الجزائرية رغم أهميتها في حالة جمود وشلل تام.
حياد الدور الفرنسي في مشكلة الصحراء المغاربية بين الجزائر والمغرب من ناحية، وبين إسبانيا والمغرب من ناحية أخرى، وهو الحياد الذي يثير الانتباه، والعالم يتساءل، أين الدور الفرنسي في هذا الملف المهم؟
نشوب خلاف بين فرنسا وإيطاليا وتركيا بسبب عدة موضوعات خلافية، فبالرغم من أنهم أعضاء في حلف الناتو، ولكن دبّ الخلاف بينهم بسبب تضارب المصالح السياسية والاقتصادية، أهمها الوضع في ليبيا، الهجرة واللاجئين، ترسيم الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط، وهي الخلافات التي تظهر وتختفي بين الحين والآخر، ولكن المؤكد أنها لم تحل حتى اليوم.
استدعت الحكومة الإسرائيلية السفير الفرنسي في تل أبيب، وقدمت له احتجاج شديد اللهجة على خلفية تصريحات وزير خارجية فرنسا أن إسرائيل تتبع سياسية فصل عنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة على غرار ما كانت تقوم به حكومة جنوب أفريقيا في السابق “سياسة إبر هاند “، وهو الأمر الذي زاد من توتر العلاقات الثنائية بين البلدين.
أثناء زيارة ماكرون الأسبوع الماضي إلى رواندا، “اعترف دون تقديم اعتذار” دون تحمّل أي مسؤولية عن الإبادة الجماعية للتوتسي أثناء الحرب الأهلية، ولم يكن لفرنسا أي دور بها، وأنه من الضروري التنسيق والتعاون من أجل الكشف عنها وأن العلاقات بين البلدين يجب تطورها وفتح صفحة جديدة بينهم.
مع نهاية شهر مايو/أيار الجاري تبنت العاصمة الفرنسية باريس رعاية مؤتمر للمانحين لتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي لدولة السودان في حضور لفيف وكبير من زعماء القارة الأفريقية والمؤسسات المالية والاقتصادية الإقليمية والعالمية، والأمم المتحدة.
واليوم صرح الرئيس الفرنسي إن بلاده لن تدعم دولاً ليس بها انتقال ديمقراطي للسلطة، وهدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسحب القوات الفرنسية من مالي إذا أدت الاضطرابات السياسية في البلاد إلى المزيد من التطرف الإسلامي.
يأتي ذلك بعد أن شهدت مالي الانقلاب العسكري الثاني على التوالي في تسعة أشهر، وحذر ماكرون من المخاطر التي ينطوي عليها “تحرك مالي” نحو الخضوع لنفوذ الإسلاميين، وهناك 5100 من القوات الفرنسية في منطقة الساحل التي تُعد جبهة القتال الأساسية في الحرب ضد الميليشيات المتشددة، وتدعم القوات الفرنسية الجيش في مالي، وموريتانيا، والنيجر، وبوركينا فاسو، وتشاد في معركتها مع الميليشيات المسلحة في منطقة الساحل منذ 2013.
وقال الرئيس الفرنسي لصحيفة “جورنال دو مانش” إنه أخبر زعماء أفارقة حلفاء لفرنسا، أن فرنسا لن تدعم الدول التي ليس لديها شرعية أو انتقال ديمقراطي للسلطة، مضيفاً أن فرنسا ليس لديها نية بإبقاء قواتها في أفريقيا إلى الأبد، وتستمر فرنسا منذ عقود في توفير الدعم العسكري لزعماء مستعمراتها السابقة في أفريقيا، وغالبا ما ترسل باريس قوات إلى تلك الدول أن تشن غارات جوية على الجماعات المسلحة هناك، من الصعب إجراء إصلاحات سريعة في هذه الدولة الأفريقية بينما تعاني هذه البلاد غير الساحلية من فقر شديد في مناطق شاسعة من البلاد، وساعدت القوات الفرنسية في تحرير الأراضي التي سيطر عليها المتشددون، لكن الهجمات استمرت وسط استثمار المسلحين للاضطرابات السياسية المستمرة في المنطقة، وأدت تلك التطورات إلى تضاؤل الثقة في قدرة قادة الجيش في مالي على التصدي للميلشيات المتشددة التي بدأت في التسلل إلى دولتي الجوار بوركينا فاسو والنيجر وتشاد وإفريقيا الوسطى.
إن التحول في السياسة الخارجية الفرنسية، هو انعكاس للأوضاع الاقتصادية التي تمر بها الجمهورية الفرنسية منذ بداية الألفية، وأن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والمطالب الشعبية، والآثار التي تعاني منها فرنسا بسبب “فيروس كورونا”، والفيروسات المتطورة والمتحورة، تثقل كاهل صانع القرار ومتخذ القرار السياسي الفرنسي بشكل كبير، وأنها سوف تحد بشكل كبير من التحرك الخارجي لفرنسا، خاصة في منطقة الساحل الأفريقي، والمستعمرات الفرنسية السابقة على وجه العموم.
وفي ظل تمدد الفكر الإسلامي الراديكالي، والذي استنزف كثيراً من القدرات المالية الفرنسية، والتي ألمح عنها الرئيس الفرنسي بعدم استمرار تلك السياسة طويلاً والمؤكد أن الإدارة الفرنسية، سواء نجح ماكرون لفترة رئاسية ثانية، أو نجح غيره، فالسياسة الخارجية الفرنسية لن يصاحبها أي دعم مادي أو اقتصادي أو عسكري مباشر من فرنسا كما كان من قبل، وعلى أقصى تقدير خلال العقدين القادمين، فرنسا كدولة عضو دائم بمجلس الأمن ولما لها من ثقل دولي في كافة المحافل والأصعدة ودورها في ملفات ساخنة وهامة حول العالم، أهمها قضية المناخ والاحتباس الحراري، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ومكافحة فيروس كورونا، وعضويتها الفاعلة في الاتحاد الأوروبي، خاصة عقب خروج وانسحاب بريطانيا منه، هل سوف يتأثر ذلك الدور في المستقبل القريب والبعيد؟، هل انحسار وتقلص الدور الفرنسي في السياسة الدولية، سوف يكون فرصة لظهور قوة أخرى لملء فراغ النفوذ الفرنسي في المناطق المحسوبة على فرنسا (ومثال ذلك شبه انتهاء النفوذ الفرنسي في سوريا ولبنان وأرمينيا، والذي اصبح دور تاريخي معنوي فقط، غير مصحوب بأي قوة على أرض الواقع) وفي ذات الوقت نرى تمدد النفوذ الإيراني والتركي إقليمياً، والصيني والروسي عالمياً، أم أن الأيام القادمة سوف تظهر عكس ذلك، وأن إدارة السياسة الخارجية الفرنسية تعيد ترتيب أوراقها وملفاتها لمعاودة الانطلاق وفقاً لقواعد وأولويات جديدة بناء على مخرجات الأوضاع الداخلية والتغيرات الخارجية، علينا الانتظار لما سوف تسفر عنه الأيام القادمة.
خاص وكالة “رياليست” – د. خالد عمر.