وُضع أول حجر أساس لما يعرف بالملكية البرلمانية في انجلترا عام 1215 بعد مخاض عسير. فبعد حراك سياسي عنيف، اضطرت الملكية على إثره إلى التنازل عن عدد من الصلاحيات لصالح الحكومة والبرلمان. لكن ذلك لم يحُل دون عودة العنف السياسي الذي تطور في كثير من المراحل إلى عنف جسدي وتوترات مسلحة، إلى أن اتخذت الملكية البريطانية شكلها الرمزي الحالي، ورغم ذلك، فقد استطاعت الملكية في بريطانيا إلى اليوم الحفاظ على عدد من الصلاحيات التنفيذية، يمكن اختزالها في إعلان الحرب والاستثناء من المقاضاة وصلاحيات قضائية أخرى وإن كانت محدودة، هذا في الجانب السياسي، أما في الشق الديني فتستمر الملكة في حمل لقب “حامي الإيمان” باعتلائها رئاسة الكنيسة المسيحية الأنجليكانية.
يتصف النظام البرلماني باحتكار البرلمان للسلطة السياسية، فلا توجد في هذا النظام سلطة خارج البرلمان، وهو يقوم أساساً على الموازنة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ومن عيوب هذا النظام السياسي أنه نظراً لكون الحزب المتصدر للانتخابات هو الذي يؤلف الحكومة، فإن ذلك يجعل من الصعب الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ويسمح فقط بتوزيع أدوار بين مكونات الحكومة والبرلمان، وبالتالي سيطرة أحزاب الأغلبية على السلطات التي تصبح محتكرة من قبلها، في ظل غياب ملكية تنفيذية، ولو جزئياً، تنتزع بعض الصلاحيات منها، وبذلك تلجأ تلك الأحزاب إلى إعادة استخدامها على نحو قد يخدم مصالح البلاد على مستويات عدة، خاصة ما يتعلق منها بالحقوق الاجتماعية والعدالة والمعيشة اليومية للمواطنين، والحريات بشكل عام، إذ تتيح استقلالية الحكومة كجهاز منفذ، من تنفيذ برامجها وتصوراتها دون أن تتأثر بالبيروقراطية التي يُنتجها تداخل السلطة، وهو الوضع الذي يكون أكثر تعقيداً في الأنظمة الموسومة بما يُعرَف بالملكية شبه المطلقة (نموذج المغرب) حيث الصلاحيات التنفيذية متقاسمة بين مؤسستين، هما الحكومة والملكية، ما ينجم عنه تداخل في السلطة والأدوار، تميل الكفة في النهاية إلى الجهة الأقوى.
إن الأحكام التي يمكن أن تطلق على الملكيات البرلمانية تختلف عن تلك التي يمكن إطلاقها على أنظمة الحكم الجمهورية البرلمانية، ذلك أن الملكية لا يمكن محاسبتها انتخابياً، فقد أجاز الدستور الإسباني، حسب المادة /64/ “لرئيس الحكومة وإذا اقتضى الحال الوزراء المختصين، المصادقة على أعمال الملك، وأن يصادق على تعيين رئيس الحكومة وحل البرلمان. ويتحمل مسؤلية أعمال الملك الأشخاص الذين صادقوا عليها”، وذلك لأن المادة /56/ من الدستور أعفت الملك من الخضوع للمسائلة.
وهذا من الإيجابيات التي تجعل المواطن قادر على مسائلة من يتولى شؤون إدارة البلاد. وهذا الشق
يعطي للعمل السياسي مكانته ويعيد الاعتبار إلى الأحزاب باعتبارها تمثل الشعب في البرلمان من خلالها يمارس سيادته وسلطته. فالإشكالية في المغرب ليست في الأحزاب بقدر ما هي مرتبطة بنسق سياسي يسمح بتدخل السلطات العليا في العمل السياسي، وتداخل الاختصاصَات بين رئيس الحكومة والملك.
وكما سبق وأشرنا فإن أدوار الملك تتجاوز بكثير مجالاتها الوظيفية الطبيعية، ما يسمح بالتدخل المباشر في عمل رئيس الحكومة ومنه في مجال اختصاصات الوزراء وإن بطريقة غير مباشرة. وأشرنا، أيضاً، إلى أن أدوار الملك يجب تحديدها وفق متطلبات المرحلة الانتقالية التي تفرضها التقلبات الاجتماعية والسياسية والحقوقية وكذا الظروف الإقليمية، بداية من إلغاء المجلس الحكومي، فلا يمكن لإدارة البلاد أن تتم بواسطة سلطتين، فمجلس الوزراء هو سلطة الإشراف والمحاسبة والتتبع التي يمارسها من يرأسه على مكونات الحكومة، في حين يلعب مجلس الحكومة دوراً، لا نقول إنه شكلي، ولكنه في أفضل الظروف غير محوري ولا يعكس حجم المشروعية المكتسبة من صناديق الانتخاب، إذ أن القرار يُتخذ من طرف الملك وهو الذي يعطي التوجيهات الاستراتيجية والمحورية بحسب الفصل /48/ من الدستور.
إن خصوصية المجتمع المغربي باعتباره بلد ذو ثقافة شرقية محافظة يحتكم إلى عقيدة الإسلام، تجعلنا ننظر بعين الريبة للملكية الأوروبية أو كما تسمى “ملكية برلمانية” بسبب الغايات غير المعلنة التي تهدف من ورائها جهات سياسية وأيديولوجية.
إن الملكية البرلمانية تمثل نموذجاً جاهزاً صيغ في أوروبا في فترة متقدمة من فترات الحداثة مع بداية أفكار التنوير، وبُني على رؤى فكرية شخصية أكثر مما هي تنفيذ لمطالب وآمال الشعب، فكان الصراع القائم بين الكنيسة (أي رعاة الدين) وبين حاملي أفكار التنوير في مرحلة سادت الغوغائية والظلامية الفكرية أوروبا، كان العامل الأول لقيام ثورة فكرية ثم مسلحة ضد جميع عناصر التخلف بما فيها الكنيسة والدين، فكان فصل ارتباط العقيدة بالنظام السياسي، ومنه فصل تداخل السلطات بين النظام السياسي والنظام الديني، ومنح السلطة للأحزاب العلمانية لتقرر في مصير أوروبا. أما الصراع في المغرب فليس قائماً على أساس ديني وليس صراعاً مع الملكية إذ أن التحام المجتمع السياسي والأهلي مع الملكية أمر لا جدال فيه، وإنما على أساس طبقي بين مكونات سياسية ورأسمالية نافذة تحتكر السلطة وتتوفر على المال والثروة، وتنتهك حقوق طبقات شعبية عريضة كل أملها تحسين ظروف عيشها وضمان حياة كريمة مادياً ومعنوياً.
إن الذين يطالبون بملكية برلمانية يؤسسون مطلبهم هذا على أساس نجاح هذا النموذج في أوروبا الغربية، ويرجعون له فضائل ما تعيشه الدول الملكية في أوروبا من حقوق إنسان واستقرار سياسي قد لا نجده بنفس المستوى في أنظمة الحكم الجمهوري في أوروبا، غير أن تقييم إيجابيات نظام الملكية البرلمانية في أوروبا يجب أن يتم من خلال وضع الملكية البرلمانية في سياق تطوراتها عبر مراحل تاريخية، وتتبع تطورها وفق هذا المسار بجميع منحنياته، سواء ما تعلق بفترات صعود الملكية أو نزولها، بما شهدته هذه المراحل في أوروبا من أحداث وتقلبات. فالغاية، نظرياً على الأقل، من وراء إقرار هذا النموذج في بلداننا العربية بانتمائها الثقافي والاجتماعي الشرقي، هي إقرار ديمقراطية يستفيد من فضائلها عموم هذه الشعوب. ولهذا وجب الإشارة إلى نقطة مهمة ومفصلية وهي أن الملكيات في أوروبا أتت بعد مسار من الإصلاحات الديمقراطية، أو بمعنى أدق أن إقرار ملكية برلمانية في هذه المملكات جاء في وقت كانت فيه أوروبا قد حققت ديمقراطية وظيفية على المستوى السياسي على الأقل. فبريطانيا أقرت ملكية برلمانية بعد أن قوّت صلاحيات البرلمان وأصبح للحكومة دور فاعل، في حين تم إقرار هذا النموذج في أقطار أوروبية أخرى مثل إسبانيا بعد ثورة إصلاحية أعقبت نهاية الحرب الأهلية، وهو ما يجعلنا نطرح السؤال حول ما هي الغاية من إقرار نموذج الملكية البرلمانية في بلد كالمغرب؟ هل هي الوصول إلى نموذج ملكية برلمانية من أجل ملكية برلمانية، فتصبح الغاية بحد ذاتها هي الملكية البرلمانية؟ أم الوصول إلى عدالة جامعة لتكون بذلك هذه الملكية البرلمانية فقط وسيلة أو آلية لتحقيق الغاية التاريخية والشعبية الممثلة في تحقيق مطالب الشعب المغربي؟
إذا كانت الغاية هي الملكية البرلمانية بحد ذاتها، فإن ذلك يدفعنا لمسائلة المنادين بهذا النموذج، حول ماذا سيستفيد المواطن المغربي خاصة من المنتمين للطبقات المتضررة بشكل أكبر؟
أما إذا كان إقرار الملكية البرلمانية هو وسيلة وليس غاية بحد ذاته، أي أنها سبيل لتحقيق ديمقراطية وعدالة يستفيد منها الجميع وبشكل ملموس، فإن جوابنا هنا هو أن الملكية البرلمانية ليست هي من حقق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في أوروبا الغربية، لأن هذا النموذج جرى إقراره ضمن وضع كانت قد تحققت فيه شروط الديمقراطية هناك، في حين في المغرب لم تصل بعد هذه الشروط إلى مرحلة نضج حقيقي، ولازلنا لم نتخطَّ مرحلة المكتسبات بعد، ونحن في حاجة إلى نموذج يوصلنا إلى شروط الديمقراطية الوظيفية، وهذه الديمقراطية الوظيفية هي الآليات التي تضمن منح الحقوق ليستفيد منها عموم المواطنين، وذلك بما يتماشى مع قيمهم الحضارية والإسلامية، وليس مجرد نموذج تحقق في أوروبا وفي مرحلة متأخرة نسبياً، أي في مرحلة كانت قد تجاوزت فيها القارة عقبات الاستبداد.
فإسبانيا مثلاً، أنهت الاستبداد بإصلاحات أعقبت الحرب الأهلية، بعد انهيار الدولة بما فيها الملكية، وبعد ذلك تم اختيار النموذج البرلماني لنظام الحكم، وقد وصل المجتمع السياسي الإسباني إلى هذه القناعة التوافقية بعد قرنين من الملكيات والجمهوريات المتعاقبة والمتصارعة فيهما بين أنصار هذه وأنصار الأخرى، في حين نحن في المغرب في حاجة إلى خيار بعيد عن اللاإستقرار والعنف أو التصادم وفي نفس الوقت يكون خياراً مضمون الفعالية ووظيفياً ومجرباً، وله إيجابيات حقيقية على حياة المواطنين، ويكون مثبتاً، كي لا نضيع قرنين أيضاً من الزمن، وأن لا يكون مجرد خيار متقدم وعصري، فقط لأنه ظهر في أوروبا وهي في أوج حداثتها.
إن المنادين بنموذج الملكية الأوروبية (الملكية البرلمانية) لا يخفى، من حيث المبادئ الفكرية العامة، موقفهم الرافض للدين الإسلامي (بالتحديد) وخطاباتهم في هذا الشأن تدل على ذلك، فهي لم تتجاوز الخطاب الأرستقراطي البرجوازي الأوروبي الاستعلائي، المنادي بفصل قوانين الدولة عن الدين، وليس مجرد فصل الدين عن الدولة كما يروجون له، لأن فصل الدين عن الدولة قد يكون إيجابياً شريطة أن تكون الغاية هي ضمان استقلالية الشأن الديني عن تلاعبات وتوظيفات السياسيين، بحيث تصبح المؤسسة الدينية مستقلة وذات صلاحيات تمكنها من لعب دور سلطة روحية وظيفية، في حين أن فصل الدولة عن الدين يقود وظيفياً إلى بناء دولة جديدة تكون فيها قرارات المؤسسات السيادية كالحكومة والبرلمان والرئاسة أو الملكية (الملكية البرلمانية) بعيدة عن الدين، وحتى في الحالة التي تكون فيها الأحزاب الحاكمة ذات مرجعية دينية، فإنها تكون مرغمة على مجاراة كيان سياسي أيديولوجي محدود الحجم متعه “الدستور اللاديني” بسلطة تتجاوز إرادة الشعب. فهذا الكيان يمثل من ناضلوا لإقرار تشريع جعل مرجعيات الدولة خارج إطار الشريعة، وهو بذلك يرى في نفسه حارساً للمرجعية العلمانية للدولة. وهو في المجمل خطاب يمتح من ما أفرزته مرحلة الصراع داخل أوروبا، تحديداً مرحلة صعود النزعة اللادينية، بين أنصار الجمهورية من النخب السياسية والفكرية الديمقراطية، ورؤساء الكنيسة أو المؤسسة الدينية المتحالفة مع الأرستقراطية والملكية، في ظل وجود شعوب متضررة من هذا الوضع.
وبالتالي، رغبة الشعب مقدمة على رغبة النُخب. ويبقى مطمح مشروع الملكية الأوروبية/ الملكية البرلمانية هو تمكين النخب السياسية والفكرية ذات الامتداد الفكري للحداثة الأوروبية، من إقرار نموذج ملكي أوروبي برلماني أرستقراطي، يستبعد فيه الملك نهائياً عن لعب أي دور تنفيذي، بما فيه الدور الديني الممثل في “إمارة المؤمنين”.
في المغرب، وعموم البلاد الإسلامية، (السنية) بشكل خاص، الوضع يختلف جذرياً، فالمسجد ليس مؤسسة مركزية تقرر داخل الدولة، وإنما هو مكان للعبادة، والدين لا يرتكز على مؤسسة مهيمنة بعينها وإنما على هيئات علمية أكاديمية وعلى النصوص الفقهية والدينية وعلى الاجتهاد، وهو ما يجعله لا يصطدم بإرادة الشعب. وفصل الدين عن الدولة ليس مطلباً شعبياً وإنما غاية نخبوية.
إن شؤون البلاد في ما يتعلق بالقطاعات التي تمس حياة المواطن بشكل مباشر، من صحة وتعليم وقضاء وثقافة وأمن داخلي وباقي مناحي الحياة العامة، تقع تحت إدارة الحكومة، وتكون هي المسؤولة أمام البرلمان، ويتوجب عليها أن تفي بالوعود، التي جاءت، سواء في برامجها الانتخابية أو البرنامج العام الذي يعرضه رئيسها أمام البرلمان عقب تنصيبه ليصوت عليه النواب، وهو ما يجب أن ينص عليه الدستور صراحة ضمن صلاحيات السلطة التنفيذية وتوضع الضمانات لاستقلاليتها حتى تحول دون وقوع تداخل في السلطة، وإذا كان النص الدستوري في الفصل /89/ قد نص على أن الحكومة تنفذ برنامجها كما تعمل على تنفيذ القوانين. وأكد أيضاً على أن الإدارة موضوعة تحت تصرفها، ومنحها حق الإشراف والوصاية على المؤسسات والشركات العامة، غير أن وجود الكثير من الصلاحيات، في الباب المخصص لمبادئ الحكم، سواء في ما يتعلق بكثرة التعيينات التي أعطيت للملك أو الفصل /48/ الذي يعطي الملك حق رئاسة مجلس الوزراء، حيث يفقد رئيس الحكومة سلطته لصالح رئيس الدولة ويتحول بذلك إلى مجرد وزير (وزير أول) يمارس سلطة تنظيمية لا تنفيذية، إذ يكون ملزماً بتنفيذ توجيهات الملك، فإن هذه الصلاحيات المبالغ فيها للملك، فضلاً عما تشكله من ثقل لأجندة عاهل البلاد خاصة أمام تزايد عدد المؤسسات والمجالس الدستورية، فإنها تحُول دون تمكن الحكومة من ممارسة السلطة التي تمنحها لها صناديق الاقتراع كتفويض من الشعب لتنفيذ طلباته وتطلعاته، وتعطيها مبرراً للتهرب من المسائلة، وقد استطاع رئيس الحكومة السابق عبد الإله بن كيران، استغلال هذه الحالة الدستورية لتبرير تعثره في بعض الملفات، فكان يوحي للناس بأنه فقط كان ينفذ إرادة الملك، وبأن الملك هو رئيسه المباشر وهو الرئيس الفعلي للحكومة، في مقابل ذلك، هناك مجموعة من المجالات، لا يوجد أي تعارض لبقائها ضمن الصلاحيات التنفيذية للملك مع متطلبات استكمال البناء الديمقراطي الذي عرف تطوراً مهماً من خلال دستور ٢٠١١ الذي جاء متقدماً بالنظر إلى سابقيه، وهي تلك الجوانب التي لا تهم المواطن بشكل مباشر ولا تلامس حياته اليومية، ويمكن أن نحصرها في الأمن القومي والسياسات الخارجية والعلاقات مع الدول الشقيقة والصديقة، بحيث يكون من المفيد جداً استثمار هذا التراث العريق للأسرة الملكية وعلاقاتها الإنسانية المتأصِّلة، مع عدد من الدول، خاصة تلك التي تُقاسمنا نظام الحُكم الملكي، فالمغرب جزء من منطقة عربية وإسلامية تحتكم لخصوصيات وتقاليد في الحكم تميزها عن باقي الدول في العالم، فوجود صلاحية التوجيه في ما يتعلق بالسياسات الخارجية ضمن دائرة اختصاصات الملك، يحافظ على استمرارية هذه العلاقات في مستوياتها الجيدة خاصة مع الدول التي تتجاوز العلاقات معها مستوى “الدول الصديقة” إلى مستوى “الدول الشقيقة” وعلى وجه الخصوص المملكات العربية والخليجية التي تعد داعماً تاريخياً للمغرب وتربطها به أواصر عميقة، وذلك لضمان عدم تأثرها بتغير الحكومات والمكونات الحزبية.
المجال العسكري والمجال الديني، من المجالات التي ينبغي أن تبقى خارج اختصاصات الحكومة، فالشأن الديني المرتبط بإمارة المؤمنين، ولضمان حماية عقيدة المسلمين وحماية حريات العبادة والممارسة الدينية، وإبعاد الدين عن التوظيف السياسي أو حتى الاستهداف السياسي من طرف الأيديولوجيات المعادية للدين – أي بضمان استقلالية الدين عن الحكومة ليكون سلطة مستقلة شأنه في ذلك شأن السلطات الثلاث الرسمية الأخرى وليس فصل الدين عن الدولة – ويتطلب ذلك توفير شروط استقلالية المؤسسة الدينية ممثلة في المجلس العلمي الأعلى باعتباره هيئة تضم العلماء الكبار، عن أي تأثر أو رضوخ للمسؤول السياسي، بتحويلها إلى سلطة دينية حقيقية ذات بعد روحي، وسحب هذه الصلاحيات من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي يتوجب أن تتحول إلى وزارة ذات طبيعة إدارية محضة تحدد أدوارها في الإدارة والمالية والتوظيف وتدبير المساجد ودور العبادة والعقارات الوقفية وغيرها من المهام الإدارية والتقنية/ الفنية، في حين الشأن الديني العلمي القائم على الخطب والفتاوى وغيرها من أمور تتعلق بالشريعة وما يرتبط بها من مجال علمي والعلاقة مع الأئمة والمحاسبة والمجالس التأديبية، يجب أن تكون اختصاصاً للمجلس العلمي الأعلى المرتبط مباشرة بمؤسسة إمارة المؤمنين.
إنني شخصياً، كمغربي، من بين ملايين المغاربة، لا أعترف بشيء إسمه فصل الدين عن الدولة، فهذه الجملة – الرنانة – التي أفرزتها مرحلة معينة في أوروبا، في ظروف خاصة لا تتوفر في بلدنا نظراً لاختلاف الإسلام عن باقي الأديان السائدة هناك، تظل مدخلاً لدعوة فلسفية بعيدة عن المطالب الشعبية المتوافق عليها بين الأحزاب والنخب الأهلية، بقدر ما هي تعبير عن رغبة وتوجه فكري ضيِّق، لا يمكن أن يقدم تطبيقه لبلدنا أي تقدم ينعكس إيجاباً وفعلاً على حياة الناس، ولنا ثلاثة نماذج لبلدان إسلامية في هذا الشأن، فتركيا مثلاً، كانت أول من تبنى النموذج الأوروبي بنزع الدين عن القوانين وتحرير الدستور من ضوابط الشريعة، والأمر نفسه حدث بعد ذلك في إيران ثم تونس. الأولى في عهد الزعيم القومي كمال أتاتورك، والثانية في عهد الملك الشاه رضا بهلوي ثم خلفه محمد بهلوي، والثالثة في عهد الزعيم القومي اليميني الحبيب بو رقيبة. الثلاثة اتخذوا النموذج الأوروبي لدولهم الإسلامية، ولصعوبة تطبيقه في ظل معارضة شعبية، تم اللجوء لكافة أشكال القمع والاستبداد والاستفراد بالقرار بتزكية ودعم مباشر من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وحتى ألمانيا في فترة ما بالنسبة لإيران، وبعد عقود من هذا الشكل السياسي، سقطت جميع هذه الأنظمة دون أن تحقق أي مستوى من الرقي الاجتماعي والتقدم العلمي أو غيره، بل إن سنوات من تطبيق هذا النموذج كانت نهايتها تخلف على جميع المستويات، علمياً وحقوقياً واجتماعياً.
إن وجود الدين في قوانين الدولة وفي جميع تصوراتها هو عامل وحدة للمجتمع، والدين مسألة روحية أيضاً تسمو بالمجتمع نحو التعايش والتقارب وتجعله أكثر تصالحاً مع الذات ومع الغير، كما أن العقيدة الإسلامية تبقى أفضل نموذج أخلاقي وإنساني وتربوي يمكن تقديمه للمجتمع، وأما الادعاء بأن غاية إبعاد الدين عن الدولة هو الارتقاء به عن التوظيف السياسي، فهذا كلام غير عملي، فكيف لإبعاد الدين عن قوانين الدولة أن يجعله بعيداً عن التوظيف السياسي من طرف السياسيين، هل هنالك وسيلة عَملية واقعية لمنع الأحزاب من توظيف الدين؟ وهل هذه الوسيلة، إن وُجدت، ستحترم حرية العمل السياسي في حال تطبيقها؟ ووفق أي قانون ديمقراطي سيُمنع حزب من اتخاذ المرجعية الدينية أيديولوجية له؟ وهل في ألمانيا، البلد الديمقراطي، مثلاً لا توجد أحزاب دينية إذا كان الحزب القائد للإئتلاف الحكومي الألماني لليوم مسيحي؟ ونفس الأمر ينسحب على إسرائيل حيث الأحزاب الدينية تسيطر دائماً على الانتخابات وعلى تأليف الحكومات؟
إن أي استعمال سيء للدين من طرف الأحزاب، يبقى مسألة ضمير قبل أي شيء آخر، ثم مسألة وعي شعبي، فإذا لاحظ المجتمع أن هذا الحزب يتاجر بالدين لأجل أغراض انتخابية، فإن قرار العقاب يكون من خلال صناديق الاقتراع كما يكون من خلال النقد الشعبي، وهذا يحتاج طبعاً إلى وعي تعليمي ومحو للأمية وإلى تثقيف ديني، وبشكل عام إلى الانتقال إلى مجتمع الوعي والمعرفة، حتى يكون الشعب قادراً على التفريق بين الاستغلال الحزبي السيء للدين وبين الاستعمال الحزبي للدين كمرجعية والإيمان بكامل حقوقه والتزاماته وواجباته تجاه بلده.
وأما الدعوة إلى ملكية برلمانية، وبالنظر إلى الخطابات والتوجهات المعروف بها أصحاب هذه الدعوة، فإن الغاية منها تظل هي استبعاد الدين من الحياة العامة، وتطوير الديمقراطية في الاتجاه النخبوي الأرستقراطي الحديث، نحو الفردانية وتحرير الحريات الجنسية من قيود القيم الأخلاقية، وليس الغاية منه هي الديمقراطية في مظهرها الاجتماعي الشعبي المتمثل في العدالة الحقوقية التي يطالب بها كل مغربي.
في الختام، أود أن أوضح أن الدستور يُكتب بناء على تراتبية وعلى نسق يكون مكملاً لبعضه، خاصة الفصول ذات الصبغة السياسية، وهو بذلك، وفي هذه الحالة، إما أن يكون دستوراً للمغاربة، يكتبون فيه رغبتهم وتطلعهم وشروطهم ومعاييرهم للمجتمع الذي ينشدون، وإما أن الدستور يكون طبقياً أكثر فصوله تمثل وثيقة اجتماعية يصيغها المجتمع، وديباجة أو دستور مصغر داخل الدستور لا تمثل من الشعب المغربي إلا طبقة من النخبة المنفصلة عنا قيمياً وأخلاقياً ودينياً، وبالتالي يكون لهذه الفئة، سلطة خفية، تفرض علينا بها قراراتها وشكل الحياة المناسبة لها، وتضع لنا بواسطة القوانين التي تنبثق عن هذا الدستور، مفهومها للقيم والأخلاق يصرف فكرها وتربيتها بل واستغرابها الفكري واستلابها الذهني، وكل ذلك باسم دستور ديمقراطي شعبي، ولكن بملكية برلمانية نخبوية أرستقراطية، في واقع الأمر تمثل نخبة فقط، بيد أنها تُفرض مدى الدهر على الشعب.
خاص “وكالة رياليست” – نبيل انطوان بكاني – كاتب وصحفي – المغرب.