يمكننا تفسير ما يحدث في بيلاروسيا في الوقت الحالي، في حالة إذا ما استطعنا فِهم كيف تنظر روسيا إلى الأحداث الجارية هناك؟، وقبل أن نقوم بمراجعة الموقف الرسمي والفكري لموسكو تجاه ما يدور في مينسك، يجب أن ننطلق من حقيقة مهمة، وهي أن حجم الاحتجاجات البيلاروسية وواقع ردود الأفعال الداخلية والخارجية، يجعلنا نفهم أن ما نراه في الداخل البيلاروسي بعيد حتى الآن من وصفه بثورة، سواء كانت «ملونة أو غير ملونة».
لذا سننطلق من حقيقة وجود احتجاجات ملموسة في بيلاروسيا، و هذه الاحتجاجات بدأت بعد إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية و التي فاز بها ألكسندر لوكاشينكو بحوالي 80% من أصوات الناخبين، وهذه الاحتجاجات لم ترقى حتى الآن لمستوى ثورة شعبية شاملة من حيث العدد و من حيث المطالب.
الموقف الرسمي الروسي حتى الآن يطغى عليه شعور الانتظار و الترقب، لم نسمع حتى الآن كلمة واحدة من الإدارة الروسية تدعم لوكاشينكو بشكل واضح، فقط قامت قيادة الكرملين بالتهنئة بفوز لوكاشينكو، وبعد تطور الأوضاع ودخول الدول الأوروبية بضغط من دول بحر البلطيق على خط الأزمة، تصر موسكو على عدم السماح بالتدخل في الأمور الداخلية لبيلاروسيا سواء من جانبها أو من جانب الدول الأوربية.
هناك تواصل دائم بين القيادة الروسية و البيلاروسية، لكن حتى الآن لا تستطيع روسيا أن تملي على لوكاشينكو أي قرارات، فقط الأمور تدور حول النصائح و ضرورة ضبط النفس. على مستوى مجتمع الخبراء في روسيا، فينقسموا إلى فريقين فيما يخص الأحداث في بيلاروسيا: الأول وهو الأكثر انتشاراً، يقول بأن ما يدور في بيلاروسيا يمثل استمراراً لمسلسل الثورات الملونة وأن الهدف هو إبعاد بيلاروسيا عن النفوذ الروسي.
وأهم المدافعين عن هذا الاتجاه – المفكرألكسندر بروخانوف وسيرجيه جلازييف مستشار الرئيس الروسي لشئون التكامل الأوراسي.
عدم السماح بخسارة الحليف الاستراتيجي
يرى هذا الاتجاه أن روسيا لا يمكن أن تخسر بيلاروسيا تحت أي ذريعة، فهي الحليف الاستراتيجي، وأنه لا يمكن لقيادات القوات المسلحة الروسية أن تتصالح مع خسارة القواعد العسكرية، حيث توجد في إحداها صواريخ استراتيجية موجهة لأوروبا، و في الأخرى أنظمة إليكترونية قوية، تؤمن الاتصالات اللاسلكية مع الغواصات الروسية في المحيطات. وفقط لوكاشينكو سيوفر لروسيا إنقاذ هذه القواعد.
وإذا تمكنت المعارضة من الإطاحة بلوكاشينكو، فسنكون، أمام فرضية تصفية هذه القواعد أو تسليمها إلى الخصوم الاستراتيجيين لروسيا، ولن يقبل الجنرالات الروس أبدًا خسارة هذه القواعد، والذي سيعني انخفاضًا حادًا في القدرة الدفاعية الروسية، لذلك فهم يدعمون لوكاشينكو وبيلاروسيا المستقرة دون قيد أو شرط.
كتائب جورج سوروس
ألكسندر دوغين مؤسس النظرية الرابعة ومنظر فكرة الاتحاد الأوراسي، هو الأخر يمكن اعتباره أحد أعضاء هذا الاتجاه، فهو يرى أن كتائب جورج سوروس تقف بلا شك وراء ما يحدث في بيلاروسيا وحتى وراء ما يحدث داخل الولايات المتحدة- ضد «الدكتاتور» ترامب، فهناك دائما أناس غير راضين لأي سبب، لكن الساخطين الذين يحاولون التغيير لديهم رعاة جادون فقط في لحظات سياسية وجيوسياسية معينة، في بيلاروسيا، هناك احتجاجات شعبية مدعومة من قبل العولميين – ليس فقط من الولايات المتحدة، ولكن على وجه التحديد العولمة ، نفس هؤلاء الذين يسقطون ترامب الآن في الولايات المتحدة.
وبغض النظر عما إذا كان لوكاشينكو سيئًا أم جيدًا، فهذه ثورة ملونة لصالح عالم مؤلم أحادي القطب، وهذا هو الشر الواضح وضوح الشمس وراء المتمردين ضد لوكاشينكو، فهذا ليس شعبًا، إنما هذا مجتمع ما بعد الحداثة.
طول مدة حكم بوتين
هناك اتجاه آخر في مجتمع الخبراء الروسي، وهذا الاتجاه يتبنى فكرة استقلالية الاحتجاجات البيلاروسية وعدم اعتمادها على الغرب، و يضيف أن ما يحدث في بيلاروسيا هو امتداد لما يدور في الداخل الروسي، وهنا يقصدون مسألة طول مدة حكم الرئيس بوتين والتي تتم عامها العشرين وطول مدة حكم ألكسندر لوكاشينكو التي وصلت لــ 26 عاما، يمثل هذا الاتجاه معظم الخبراء الليبراليين وعلى رأسهم ميخائيل ديلياغين.
معطيات خارجية
1- الغرب لا يمتلك موقفا واحدَا فيما يخص الأوضاع في بيلاروسيا، والولايات المتحدة بشكل رسمي بعيدة عن ما يحدث لأسباب كثيرة، الشراكة بين بوتين وماكرون وميركل تضمن عدم وجود أي رغبة من جانب الاتحاد الأوروبي في التخلص من لوكاشينكو أو في صناعة الفوضى داخل بيلاروسيا.
2- هناك بولندا، التي تتمنى قيادة الاتحاد الأوروبي في شرق أوروبا، تزيد باستمرار من عداوتها لروسيا، فهي مهتمة بفصل بيلاروسيا عن روسيا ، وإضعاف روسيا وخنقها في البحر الأسود – بحر البلطيق، هناك أيضاً أوكرانيا، التي في حالة حرب مع روسيا، مهتمة بتمزيق بيلاروسيا عن روسيا ، وحرمان روسيا من حليفها الاستراتيجي.
3- بيلاروسيا كدولة وحكومة في العامين الأخيرين، لم تحدث أي مشكلات مع الولايات المتحدة ومع الاتحاد الأوروبي، بل على العكس كانت كل الخطوات البيلاروسية في الفترة الأخيرة تصب في صالح واشنطن وفي صالح العواصم الأوروبية، فنظام لوكاشينكو هو الذي عطل خارطة الطريق المتعلقة بدولة الاتحاد*، و هو الذي بدأ الاعتماد على النفط الأميركي، وذلك على خلفية احتدام الخلافات بين روسيا وبيلاروسيا حول أسعار النفط والغاز وآلية تحقيق التكامل بين البلدين، كما أن نظام ألكسندر لوكاشينكو يمتلك علاقات جيدة مع النظام الحاكم في أوكرانيا.
4- موسكو غير راضية عن تردد لوكاشينكو تجاه شبه جزيرة القرم وأوكرانيا وعديد من النقاط الأخرى، لوكاشينكو غير راضٍ عن موسكو بسبب الضغط المباشر وفرض التعليمات الخاصة بممارسة الأعمال التجارية مع مينسك.
5- قد يكون هناك بالفعل عامل التحضير من جانب النخبة العالمية التي تقود العولمة للأحداث في بيلاروسيا، لكن هذه التحضيرات وإن وجدت لا تقوم بالدور النهائي في تغيير رأس السلطة، بل يجب أن تتبعها مواقف العواصم الكبرى في العالم ومواقف المؤسسات الأمنية والعسكرية داخل الدولة.
معطيات داخلية
6- أظهرت الاحتجاجات الجماهيرية أن نسبة نجاح لوكاشينكو في الانتخابات 80٪ لم يقبلها الوعي الشعبي على أنها حقيقة، من المستحيل تحديد رقم حقيقي اليوم، ولكن هناك سبب للاعتقاد بأنه إذا تم عرض نتيجة 56٪ لـلوكاشينكو و 40٪ لـتيخانوفسكايا، فلن يكون هناك مثل هذه المشاعر الشديدة في المجتمع.
7- 26 عاما في الحكم تخلق بلا أدنى شك حالة من الملل خصوصاً عند الشباب والطلبة، وإعلان النتيجة بــ80% أثار تحدي في نفوسهم، إلا أن الاستخدام غير الملائم للقوة من قبل شرطة مكافحة الشغب، ليس ضد محرضي الحشد، ولكن ضد جميع المشاركين في الاحتجاجات وحتى الغرباء هي التي خلقت روح احتجاجية قوية تبلورت في شعار “ارحل”.
8- كان أكبر احتجاج هو أحداث يوم الأحد ، 16 أغسطس /آب والتي جمعت ما لا يقل عن 100 ألف شخص في مينسك. (وفقًا لبعض التقديرات – ما يصل إلى 200 ألف شخص) بينما جرت الاحتجاجات في جميع أنحاء بيلاروسيا ليس فقط في المراكز الإقليمية، ولكن حتى في المدن الصغيرة (كان إجمالي عدد المتظاهرين في هذا اليوم في جميع أنحاء البلاد 300 ألف شخص على الأقل) … وحٌشدت المسيرة «المناوئة» المؤيدة للحكومة في ذلك اليوم بما لا يزيد عن 10 آلاف شخص، وهذا يعطي انطباع بعدم وصول حجم الاحتجاجات لأعداد مخيفة يمكن من خلالها فقد السيطرة، في حين هناك أنباء بأن كان عدد المحتجين المدربين القادرين على استخدام قنابل المولوتوف صغيرًا ، في ليلة 10-11 أغسطس/ آب، تم اعتقالهم جميعًا تقريبًا، كما أن عدد «زعماء الحشد» المدربين قليلأ يضاً ، وقد اعتُقل معظمهم في نفس الليلة.
9- المعارضة الموالية للغرب التي تحدث عنها لوكاشينكو كانت صغيرة من حيث العدد، وبدون قادة بارزين ، لكنها هي التي حلت رسمياً مكان قادة الاحتجاج، وبدأت في تشكيل الاحتجاج من خلال الدعم الليتواني والبولندي، واستخدمت العلمين الأبيض والأحمر الذي يمثل الحركة الوطنية.
تمثلت ذروة أنشطة المعارضة في تشكيل مجلس التنسيق، الذي تضمن أشخاص ضد روسيا والليبراليين الغربيين ، وظهور برنامج (حزمة إعادة إحياء الإصلاحات في بيلاروسيا) – وهو برنامج مُعاد للروس يهدف إلى انسحاب بيلاروسيا من دول الاتحاد، منظمة معاهدة الأمن الجماعي ، للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ، حظر اللغة الروسية، وحظر وسائل الإعلام الروسية ، إلخ.
10- بولندا وليتوانيا على رأس المؤامرة الغربية ضد بيلاروسيا، فقد أطلقت بولندا بتصريحات عدائية حول بيلاروسيا ، ولم تستبعد إدخال القوات إلى المناطق الغربية التي كانت تنتمي إليها في السابق، بذريعة حماية البولنديين الذين يعيشون هناك.
وإدراكًا منها أن الولايات المتحدة تقف دائمًا وراءها، يضطر لوكاشينكو إلى الاتصال ببوتين باستمرار، وفي التجمعات التي يعقدها يقدم تقريرًا للجمهور حول احتمال قيام روسيا ، في حالة وجود تهديد خارجي، بدعم روسيا البيضاء كعضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
بهذه المعطيات المختصرة، يمكننا القول بعدم وجود أي خطط من جانب الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية الكبرى بصناعة ثورة ملونة ضد النظام السياسي البيلاروسي، والذي في الفترة الأخيرة يقيم علاقات طيبة مع واشنطن والعواصم الأوروبية. فليس هناك هدف واضح من جانب الغربيين في إثارة الفوضى داخل بيلاروسيا.
يمكن فقط وبشكل متأخر كان هناك حالات التأثير المعتادة من جانب فرق جورج سوروس من خلال دولتي بولندا و ليتوانيا من أجل تأجيج الأوضاع، و لكن لا ننسى أن السبب في هذه الاحتجاجات ليس جورج سوروس وأصحاب فكرة العولمة و إنما قرارات لوكاشينكو وإعلانه نجاحه بنسبة 80% من الأصوات، فلو كان قد أعلن أنه نجح بنسبة 52% لما كان يحدث ما جرى و مكوثه في الحكم لمدة 26 عاما.
كيف ينظر الكرملين للأحداث في بيلاروسيا؟
الموقف الرسمي الروسي كما تم ذكره أعلاه، يتميز بالترقب والانتظار، فيرى الكرملين أن المحتجون لا يخرجون بشعارات معادية لروسيا أو مؤيدة للغرب، فلا تظهر بشكل كبير حتى الآن هذه الشعارات، ومثل هذا النوع من الاحتجاجات يمكن لموسكو التعامل معها من خلال الصبر والترقب، فقد تعاملت روسيا من قبل مع نتائج نفس أنواع هذه الاحتجاجات في قرغيزستان وأرمينيا، وإضافة لذلك فإن شعب بيلاروسيا ودود، فلا توجد نسبة واضحة من الشعب البيلاروسي تكره روسيا و الروس.
لكن هناك مطالبات من جانب اتجاه مجتمع الخبراء الروسي الذي يقول بوجود ثورة ملونة بالتدخل الروسي ( على غرار ضم شبه جزيرة القرم والتدخل العسكري الروسي في سوريا)، كما أن ألكسندر لوكاشينكو ذاته يدعم هذا السيناريو في حالة خروج الأمور عن السيطرة. لكن من أجل ماذا يمكن أن تتدخل موسكو؟ من أجل عدم مغادرة بيلاروسيا إلى الاتحاد الأوروبي؟ المعارضة البيلاروسية لا تؤيد ذلك بشكل واضح و إن ظهرت بعد ذلك هذه النزعة، فإنها لن تلقى قبول لدى الشعب البيلاروسي.
– روسيا هي الدائن الرئيسي لبيلاروسيا، وفقًا لوزارة المالية في بيلاروسيا، تمثل القروض الروسية حوالي 48 ٪ من الدين العام الخارجي للجمهورية (اعتبارًا من نهاية الربع الأول من عام 2020) ، أي 7.92 مليار دولار.
-وفقًا للجنة الإحصائية الوطنية لبيلاروسيا (Belstat) ووزارة المالية المحلية، في عام 2019 وحده ، تلقت البلاد 2.87 مليار دولار من الاستثمارات المباشرة من روسيا ، أي ما يقرب من 40٪ من الإجمالي (7.2 مليار دولار).
– في التجارة الخارجية بين بيلاروسيا والعالم، تبلغ حصة روسيا حوالي 48٪ ، وتعتمد الجمهورية على روسيا في 56٪ من الواردات، في عام 2019 ، تم تسليم بضائع روسية بقيمة 20.8 مليار دولار لبيلاروسيا ، وتم استيراد منتجات بقيمة 13.1 مليار دولار من بيلاروسيا.
– تقوم روسيا تقليديًا بتزويد بيلاروسيا بموارد الطاقة بسعر مخفض، وبالتالي تدعم الاقتصاد البيلاروسي، بالإضافة إلى القروض والاستثمارات المباشرة، خلال الفترة 2000 حتى 2015 وحدها، بلغ الدعم الخفي بسبب إمدادات الطاقة الميسرة حوالي 100 مليار دولار.
فقط ستسعى موسكو إلى إضفاء الطابع الرسمي على النفوذ السياسي لروسيا على بيلاروسيا من خلال دمج البلدين من خلال مشروع «دولة الاتحاد»، مما يعني عدم الاضطرار إلى الاعتماد على من قد يكون مسؤولاً في مينسك، التحدي هو أن موسكو لا تستطيع أن تفعل ذلك بدون لوكاشينكو، أو على الأقل بينما يظل لوكاشينكو قوياً.
لذا سيكون أفضل سيناريو بالنسبة للكرملين هو إجراء «عملية» مشتركة مع لوكاشينكو، وتأمين استمرارية السياسة وتحويل السلطة إلى شخص ما يمكنه ضمان مصالح الرئيس المنتهية ولايته وأن يضمن الحفاظ على مسارًا مواليًا لروسيا، ولكن عامل الوقت هنا سيكون الحاكم في نجاح هذا السيناريو.
د. عمرو الديب- مدير مركز خبراء “رياليست” الروسي.
المصدر الأصلي: مركز أوتاوا لدراسات الشرق الأدنى
* دولة الاتحاد، التي يشار إليها أيضا باسم الدولة الاتحادية لروسيا وبيلاروسيا، هي اتحاد فوق وطني يتألف من الاتحاد الروسي وجمهورية بيلاروسيا، تم توقيع أول اتفاق لهذا الاتحاد في عام 1996.