كرست الكتابات حول المجتمع اليهودي وعلاقاته بصناعة القرار الأمريكي تصورات نمطية خاطئة حول الصهيونية والقوى التي تتبناها كفلسفة استعمارية وعادة ما ينظر إليها ككتلة موحدة يطلق عليها اسم “اللوبي الصهيوني” وفي أحسن الأحوال تربط كلها بلجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية التي تسمى اختصارا “إيباك” (AIPAC). وهو ما يدل عن عدم دراية بالتنوع الإيديولوجي في تلك القوى والذي قد يصل حد التنافر في تصور الصهيونية كـ”مفهوم سياسي مثالي” فضلا عن الاختلاف في النظر إليها كممارسة وإسقاطات سياسية في الواقع.
وفي حالة الولايات المتحدة الأمريكية تتعدد اللوبيات الصهيونية وتختلف علاقاتها وولاءاتها الحزبية ليس داخل الولايات المتحدة الأمريكية فحسب بل إلى داخل إسرائيل نفسها. منها ما يقدم نفسه كلوبي معتدل على أقصى اليسار ينزع للحلول الدبلوماسية في حل الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل مثل منظمة “جي ستريت” (J Street ومنها ماهو ليبرالي يميني يقدم نفسه كوسط و أشهرها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الصهيونية المعروفة اختصارا بـ “أيباك” AIPAC) ( ومنها ماهو على أقصى اليمين مثل المجلس الإسرائيلي الأمريكي “آي إي سي” (IAC) … وأي خلط في فهم خلفيات تلك اللوبيات وحجم نفوذها ومجالات تأثيرها في السياسات التي تتبناها الإدارات الأمريكية المتعاقبة سيفضي إلى تحليلات فضفاضة لمخططاتها تجاه فلسطين و قضايا “الشرق الأوسط”.
ولعل أبرز شاهد على ذلك هو الخلط الذي وقع لكثير من المحللين حينما سمعوا بصفقة القرن واكتفوا بربطها بالأطماع الصهيونية في التوسع على حساب العرب وبادروا للحديث عن أدوارعربية في تحقيقها ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث الدقيق في الواقعة وسياقاتها ومن يقفون خلفها وأهدافهم الحقيقية. وهنا ينبغي أن نرجع قليلا إلى الوراء لنفهم حقيقة مجموعة الضغط الصهيونية التي روجت لهاته الصفقة المشبوهة وسنجد الى جانب صهر ترامب اليهودي جاريد كوشنر إسم الملياردير الشهير مالك كازينوهات القمار شيلدون أدلسون هاتان الشخصيتان قدمتا في الاعلام كرموز للوبي الصهيوني داخل أمريكا. والحقيقة أن شيلدون أدلسون كان أحد أهم ممولي الصهاينة لحزب الليكود الإسرائيلي والحزب الجمهوري داخل الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بعد أن ألغت المحكمة العليا الامريكية القيود على التبرعات للأحزاب السياسية. فقد تبرع للحزب بمبلغ 100 مليون دولار خلال انتخابات عام 2012 في مسعى لإلحاق الهزيمة بالرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. وكان من بين كبار المتبرعين للرئيس الحالي دونالد ترامب في انتخابات 2016 حيث وصلت قيمة تبرعاته إلى 50 مليون دولار. كما جاء على رأس قائمة المتبرعين لحفلة تنصيب ترامب بمبلغ 5 مليون دولار كما تقول بي بي سي[1].
كان شيلدون أديلسون أشهر أثرياء اليهود الممولين لـ”إيباك” قبل أن يتركها عام 2013 لغضبه بعد اكتشافه دعمها رسالة للكونغرس بالاتفاق مع إسرائيل تطلب من الرئيس بوش رفع المساعدات الاقتصادية للفلسطينين. ثم التحق بلوبي إسرائيلي أمريكي حديث تأسس عام 2007 في لوس أنجلوس تحت اسم مجلس القيادة الإسرائيلي (ILC) بعد أن لاحظ قادة إسرائيليون و أثرياء يهود أمريكا عدم اهتمام يهود لوس انجلوس الذين يبلغ عددهم 200 ألف يهودي بالاحتشاد للتظاهر من أجل دعم إسرائيل في حربها ضد حزب الله عام 2006.
كانت الأهداف الأولى لتأسيس هذا اللوبي الجديد تحفيز اليهود من كل الحساسيات السياسية )ديمقراطيين أو جمهوريين( على الاجتماع للضغط من أجل مصالح إسرائيل العليا لكن بانضمام شيلدون أديلسون إليهم عام 2013 وضخه لملايين الدولارات استطاع تغيير إسم اللوبي من مجلس القيادة الإسرائيلي إلى المجلس الإسرائيلي الأمريكي “آي إي سي” و تغيير أهدافه حيث تمكن إخراجه من “المبادئ” الأولى التي أنشئ من أجلها كلوبي جامع لكل اليهود إلى لوبي للأرثودوكس الأكثر تطرفا في دعمهم لإسرائيل مما دفع الميلياردير حاييم صبان وهو أحد أثرياء اليهود المقربين من الحزب الديمقراطي إلى ترك اللوبي ليصبح حكراً على اليهود الأرثودوكس الأكثر تطرفا و الداعمين لفرض الأمر الواقع.
وقد نقلت صحيفة هاآريتس الإسرائيلية نقاشا[2] صرح فيه صبان أن إسرائيل بدون حل الدولتين سيكون لها الخيار بين أن تصبح دولة يهودية أو ديموقراطية. فرد أديلسون “إ ذا لم تكن إسرائيل ديمقراطية أين المشكلة ؟ “.
في الحقيقة دعم صبان لما يعرف بحل الدولتين يمثل التوجه البراغماتي الميكيافيلي المدعوم من الايباك وإسرائيل نفسها حيث تعول مخططاتهم على تغيير خارطة منطقة “الشرق الأوسط” حتى تكون جاهزة بعد مسلسل سلام طويل الأمد ومضلل يضع جزرة حل الدولتين أمام العرب والفلسطينيين ويغريهم بتغيير الأنظمة إلى “وهم الديمقراطية” للحصول عليه. كما أنه يحافظ على أسطورة “إسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة في محيط عربي من الأنظمة الدكتاتورية”. وأي كسر لهاته المعادلة هو مقامرة بمخطط دهاة الصهاينة الذين اختاروا الليبرالية و التبشير بالدمقراطية كحصان طروادة لفرض مخطط الشرق الأوسط الجديد )إسرائيل الكبرى( دون مقاومة من العالم أو رفض عربي عنيف تستفزه سياسة الأمر الواقع التي يريدها شيلدون أدلسون و الأرثودوكس المتطرفون التي تكشف زيف صورة إسرائيل كواحة للدمقراطية وتظهرها على حقيقتها عند الرأي العام اليهودي الأمريكي الذي بات ينزع للسلام مع الفلسطيين ولحل الدولتين كما يظهر من خلال الإحصائيات حيث يظهر موقع ” Virtual Library ” American-Jewish Cooperative Enterprise: Jewish أن 7 من كل 10 يهود في الولايات المتحدة الأمريكية يصوتون منذ عام 1984 للحزب الديمقراطي وهم في معظمهم غير متدينون وزاهدون في قضايا إسرائيل عموما وما يهمهم هو القضايا التي تخصهم كمواطنين مندمجين في الولايات المتحدة الأمريكية.
وهو ما أكدته أيضا دراسة لمركز بيو[3] للأبحاث” الأمريكي المتخصص في الإحصائيات الديموغرافية أقرت باستمرار تراجع نسبة التدين في المجتمع اليهودي الأمريكي اليهودي منذ خمسينيات القرن الماضي لتسجل حاليا أقل من 2% في الوقت نفسه تستمر العلمانية التي لها باع طويل في حياة الأمريكيين اليهود في الاستحواذ على مجمل الصوت اليهودي، وهو ما ينعكس على الصوت اليهودي الذي يميل 70% منه للديمقراطيين مقابل نسبة تقارب 20% يميلون للحزب الجمهوري.
لم تستطع إيباك التفريط في شعار جامع كالديمقراطية رغم إغراء أموال شيلدون أدلسون ومن معه من أثرياء “التيار الارثودوكسي المنفلت” لأنه يشكل الضامن الوحيد لأمن إسرائيل والوسيلة الناعمة لتحقيق مخططات صهيونية توسعية بعيدة الأمد وهو ما عبر عنه صراحة الرئيس التنفيذي لمجموعة ايباك هوارد كوهر في لقائه مع نتنياهو في مارس 2018 حيث دعى إلى إقامة دولة فلسطينية[4]، قائلا ” ما نحتاج إليه، هو حل الدولتين لشعبين: دولة يهودية مع حدود آمنة وقابلة للدفاع عنها، وأخرى فلسطينية مع علمها ومستقبلها الخاص بها” و أضاف محذرا ” إن غياب عملية سلام بناءة ليس شيئا يُحتفى به .. لا يمكن ضمان أمن إسرائيل ولا يمكن تحقيق وعدها بالكامل حتى تكون في سلام مع جميع جيرانها”.
ورطة نتنياهو !
حظي نتنياهو بدعم مطلق من إيباك لمدة طويلة لكن حينما بدأت مشاكل الفساد تلاحقه بات يهتم بأصوات الأرثودوكس الأكثر تطرفا داخل والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ليبقى أطول مدة في السلطة ويضمن إفلاته من المحاسبة وهو ما شكل له خلافات مزمنة مع إدارة أوباما المقربة من إيباك وزادت اتساعا بعد ان تخلى عن إيباك واختار دعم ترامب و شيلدون أدلسون والأرثودوكس الذين وإن كانوا يشكلون اقل من 10 % من يهود الولايات المتحدة الامريكية إلا أنهم يمتلكون40 % من كنيس اليهود ويمتلكون إمكانيات ماليات ضخمة وشبكات إعلام تجعلهم على قلة عددهم مؤثرين في صناعة القرار السياسي على المدى القصير خاصة.
فخ ترامب المُحكم …
صمم ترامب مشروعه الفخ (صفقة القرن ) ليدفع نتنياهو لاتخاذ خطوات استعمارية متطرفة وهو يعلم مسبقا تلهف هذا الأخير لابتلاع الطعم هربا من المحاسبة في قضايا فساد بضمان دعم اليهود الاورثودوكس و الإدارة الامريكية التي تكفلت بتمويل المشروع بخلاف الإدارات السابقة التي ماكانت لتقبل مثل هذا الحل الراديكالي الذي قد ينهي مخطط الشرق الأوسط الجديد ويفقدها تجاوب حلفاءها العرب.
حقق ترامب من صفقته المريبة هدفين أساسيين أولهما انتخابي محض يحضى به نتنياهو بدعم مطلق لليهود الأرثودوكس وهو ما ظهر جلياً بدعم شيلدون أدلسون لحملة نتنياهو داخل إسرائيل ودعم ترامب له في الانتخابات حيث ماطل في الكشف عن صفقة القرن إلى أن اقتربت الانتخابات الإسرائيلية ليدعم نتنياهو بالكشف عن صفقة شاذة لا تحظى الا بدعم الأرثودوكس المتطرفين وهو ما مكن نتنياهو من الفوز في انتخابات مارس 2020 والإفلات من المحاسبة. في المقابل ضمن تحالف ترامب تمويلاُ سخيا لحملته الانتخابية المقبلة من شيلدون أدلسون ومن معه من لوبي “آي إي سي” وضمان الصوت المسيحي المتصهين داخل الولايات المتحدة الأمريكية حيث علق تطبيق صفقة القرن على أربع مراحل بفوزه بولاية ثانية. خاصة أنه حصل على مصداقية كبيرة لديهم ودعم مطلق بعد أن طبق ما وعد به في ولايته الأولى باعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل بعد أن نقل السفارة الأمريكية إليها.
أما هدف ترامب الثاني فهو هدف بعيد المدى وهو تقليم أظافر “إيباك” التي كانت إلى وقت قريب المسيطر الأساسي على الكونغرس وصناعة القرار الأمريكي. وقد أحرج ايباك بصفقة القرن التي وضعتها في مأزق إما ستقبل بالصفقة وهي مخطط استعماري فج وستفقد حينها تعاطف غالبية اليهود والرأي العام الأمريكي عامة وبالتالي ستفقد مشروعيتها كممثل رئيسي لغالبية الجمعيات اليهودية الليبرالية المتعاطفة مع إسرائيل أو ترفض الصفقة وتفقد الممولين الرئيسيين من الأثرياء الأرثودوكس لتحافظ على علاقاتها مع الحزبين الجمهوري والديمقراطي وتبقي على ما استطاعت من الرأي العام اليهودي الذي تقاسمته لوبيات أخرى أكثر تعاطفا مع طروحات السلام على رأسها “جي ستريت”.
كان ترامب يعلم مسبقا أنها سترفض خطته للسلام )صفقة القرن( لانها ستضطر لاتخاذ موقف واضح ضد الموقف الغالب عند يهود أمريكا والمخالف لمشروع طرد الفلسطينيين واعلان يهودية إسرائيل التي تؤمن بها النواة الصلبة للايباك و الذي تخفيه عن الرأي العام بمساحيق دعمها لمسلسل السلام المكفول بثنائية الحزبية. في محاولة لانقاذ مشروعها بعيد المدى لتقسيم العالم العربي وتمكين الصهاينة الأقل تهورا من الحفاظ على أمن إسرائيل وضمان تحقيق مصالحها العليا و”مخططاتها الإمبراطورية” بعيدا عن أعين المعارضين.
العرب و فن الممكن
في هذه المعادلة المعقدة كان هناك عنصر ضروري لينجح “فخ ترامب” المُحكم هو وضع العرب كأداة إغراء, لكسب ثقة الرأي العام الإسرائيلي و الداخلي الأمريكي من المتشددين الذين يعولون على ترامب لتحقيق ما عجز غيره في تحقيقه. وحرمان خصومهم من لوبي المحافظين الجدد و إيباك من إظهار الصفقة كخطة سلام مرفوضة من الجميع. كادت أن تسببت هذ الورطة في أزمة عربية أخرى تقسم الفرقاء إلى موال لترامب ومعارض له. ومعلوم أن المصالح التي حققها العرب مع ترامب كانت كبيرة حيث مكنهم وجوده في البيت الأبيض في إيقاف الدعم الأمريكي للثورات و الحركات المسلحة و الإرهاب وتعطيل مخطط التقسيم الذي قاده أوباما بدعم من إيباك والمحافظون الجدد و أعوانهم الإقليميين )قطر, تركيا, إيران, الإخوان المسلمون( وأي معارضة صريحة لصفقة القرن ستضعهم في مواجهة مع ترامب.
فوجدت دول الخليج بالإضافة إلى مصر والمغرب مخرجا دبلوماسياُ بإعلانها عن موافقتها المبدئية على صفقة ترامب كـ”خطة سلام” وصرحوا في نفس الوقت بأن القول الفصل يبقى للفلسطينيين لأنهم أصحاب القضية وأن الموقف العربي سيكون داعماً لهم في أي قرار سيتخذونه مما جعلهم في مأمن من أزمة مع ترامب وفي نفس الوقت لم يذعنوا له. ثم دفعوا بالطرف الفلسطيني للإعلان عن قمة عربية طارئة في القاهرة كشفوا فيها رفضهم التام لصفقة القرن واحتمى العرب خلف هذا الموقف وخلف المرجعية الأممية حيث تم الإعلان عن الرفض العربي بالاجماع ونص القرار العربي على ” رفض خطة السلام الأمريكية الجديدة، لكونها لا تلبي الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني ولأنها تخالف مرجعيات عملية السلام المستندة إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة”. كما دعا الإدارة الأمريكية إلى الالتزام بالمرجعيات الدولية لعملية السلام…
أمين صوصي علوي- باحث في مجال البروباجندا، خاص لمركز خبراء “رياليست” الروسي.
[1] https://www.bbc.com/arabic/middleeast-43198856
[2] https://www.haaretz.com/us-news/.premium-the-adelson-funded-group-that-could-rival-aipacs-influence-in-d-c-1.5461209
[3] https://www.pewresearch.org/
[4] http://ar.timesofisrael.com/%d8%a5%d9%8a%d8%a8%d8%a7%d9%83-%d8%aa%d8%b9%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%82%d8%a7%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%af%d9%8a%d9%85-%d9%87%d9%84-%d8%aa%d8%b3%d8%b9%d9%89-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6/