موسكو – (رياليست عربي): على ضوء العملية العسكرية الإسرائيلية التي بدأت حالياً في جنوب لبنان، والتي تتزامن أيضاً مع موعد الذكرى التاسعة للعملية العسكرية الروسية في الجمهورية العربية السورية، يرصد هذا التقرير التطورات السياسية والإقليمية المتوقعة في سوريا ولبنان، ودور روسيا الإتحادية في منطقة بلاد الشام ومشاركتها في سياسات القوة في المنطقة، نتيجة التحول الكبير الذي طرأ على مدى العقد الماضي، والذي يرجع أساساً إلى الفرص التي خلقتها التطورات الجيوسياسية والإقليمية في ذلك الإقليم.
- · يؤكد خبراء وزارة الخارجية الروسية من المتابعين للعملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان وفي سوريا، أن هذه العملية هي نتيجة حتمية ومتوقعة للتحول الكبير الذي شهدته السياسة الخارجية الأمريكية بعيداً عن منطقة الشرق الأوسط ودولها، بما في ذلك ابتعادها عن إسرائيل نوعاً ما، حيث فتحت هذه التطورات الباب في عام 2015 أمام دور روسي أكثر نشاطاً في إعادة تشكيل المنطقة التي كانت في خضم الإضطرابات المجتمعية والصراعات الآخذة في الإتساع، نظراً لأن فك الإرتباط الأمني والسياسي المتزايد للولايات المتحدة الأمريكية بات واضحاً بشكل خاص بعد فشل الإلتزام بالخط الأحمر الشهير الذي وضعه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ضدَّ الرئيس السوري الحالي بشار الأسد.
- ومنذ ذلك الحين، عملت موسكو كوسيط بين مختلف الجهات الفاعلة المشاركة في الصراع السوري، بما فيها الجماعات اللبنانية، ومنها منظمة (حزب الله) اللبناني، والتي وقفت إلى جانب الحكومة السورية بموافقة وتنسيق مع إيران وروسيا الإتحادية، حيث أراد الكرملين الروسي حينها من منظمة (حزب الله) أن تكون مساهمة في تعريف البنية الأمنية الإقليمية الأكثر توافقاً مع هذه المصالح الروسية، خلافاً للوضع الحالي الذي يسود بين روسيا الإتحادية والقوى اللبنانية المختلفة، بما فيها الموالية لإيران.
- لقد أتاحت الجمهورية العربية السورية، ومن خلفها لبنان، الفرصة لموسكو لإظهار سياستها الخارجية مجدداً في عام 2013، حينما أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مبادرة دبلوماسية كبرى لنزع الأسلحة الكيميائية التي كانت بحوزة الرئيس السوري بشار الأسد، أي قبل عامين من أول تدخل عسكري مباشر له في سوريا في عام 2015، وبعد عامين تماماً من وفاة الزعيم الليبي معمر القذافي الذي قضى نحبه عام 2011، عندما أدرك ضباط الرعيل القديم أو الحرس الروسي القديم في الكرملين تأثير هذه الخسارة لهم، حيث اعتبروا أن التدخل العسكري لموسكو على وجه الخصوص في سوريا، بات ضرورياً لأنه يتماشى مع السياسة الخارجية الروسية الأكثر حزماً، وتوسع دور الكرملين على المستوى العالمي، كما كان واضحاً في جورجيا و أوكرانيا خلال عامي 2008 و 2014 على التوالي.
- وعلى الرغم من القيود المفروضة على قدرة روسيا الإتحادية في معالجة القضايا الأكثر إلحاحاً في المنطقة، بما في ذلك الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المتكرر في غزة، فإن التدخل العسكري لموسكو ضمن لها مقعداً على الطاولة في تشكيل التسويات السياسية والأطر الأمنية المستقبلية في سوريا، وربما في لبنان أيضاً، وكان هذا أكثر وضوحاً خلال عملية أستانا، التي أنشأتها روسيا لمعالجة الأزمة السورية وهي العملية التي كانت أكثر أهمية بالنسبة للبعض من عملية السلام السورية التي كانت تقودها منظمة الأمم المتحدة، حيث اعتبرت موسكو أن واشنطن وبروكسل لهما تأثير كبير على عملية السلام الأممية.
- كما سمح التدخل العسكري في سوريا للكرملين الروسي بإظهار قوته ونفوذه في جميع أنحاء المنطقة، على الرغم من أن هذا التأثير تضاءل بمرور الوقت نظراً للقيود المفروضة على نفوذ موسكو السياسي وقدراتها الإقتصادية. ونتيجة لذلك، تبنت موسكو سياسة خارجية أكثر إنتهازية وواقعية في بلاد الشام، حيث حافظت موسكو على علاقة طيبة مع جميع اللاعبين الإقليميين المشاركين في سوريا، مفضلة اتباع نهج المعاملات مع كل منهم بشكل مستقل، ولذلك سعت إلى الإستفادة من دورها في موازنة الوجود الإيراني في سوريا، مع تعزيز مصالحها مع منطقة الخليج، ومصالحها الإستراتيجية مع إسرائيل.
- ومع ذلك، فقد أدى هذا النهج العملي وغير الأيديولوجي الأولي إلى نتائج مختلطة، نظراً لهامش المناورة المحدود للغاية مقارنة مع الولايات المتحدة الأمريكية وشبكة شركائها العالميين، حيث تمَّ تحديد سياسة روسيا من خلال عدم قدرتها السياسية والإقتصادية على إملاء المسار الكامل لتحقيق النتائج المرجوة، ففي حين نجحت موسكو عسكرياً في مساعدة الرئيس السوري بشار الأسد على استعادة السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي السورية، والتي خسرتها دمشق أمام قوات المتمردين في السنوات القليلة الأولى من الصراع، إلا أنها لم تتمكن من استعادة السلام أو دعم إعادة تشكيل الدولة السورية.
- كما خاب أمل موسكو في إقناع الدول العربية والغربية بالإنضمام إلى مبادراتها للحل النهائي في سوريا، بما في ذلك خطط إعادة الإعمار، وفي نهاية المطاف، إذا كانت موسكو مهتمة بتعافي الدولة السورية على المدى الطويل، فإن إحتواء الوجود الإيراني في سوريا (بطلب وتنسيق مع إسرائيل) كان أمراً أساسياً ورئيسياً، وتحديداً من قبل دول الخليج العربية، الذين كان يمكنهم تمويل إعادة إعمار البلاد، وهو الأمر الذي جعل سياسة روسيا الإتحادية الحالية المتمثلة في التصرف بطريقة متساوية تجاه إيران وأعدائها تعتمد على الوضع الراهن في سوريا.
- وفي أعقاب اندلاع الحرب في أوكرانيا، أعادت روسيا الإتحادية صياغة نهجها الإستراتيجي في التعامل مع المنطقة عبر الإستجابة للتحولات المتصورة في النظام العالمي. وبسبب العزلة عن الغرب، ردت موسكو من خلال تعميق علاقتها مع الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية مثل إيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، ودول الخليج العربية الأخرى، وتركيا و إسرائيل، ولو حتى بدرجات متفاوتة من النجاح والتعاون.
- وخلال ذروة الأزمة السورية، لم تكن سياسة روسيا الإتحادية الخارجية العملية والمرنة في المنطقة مثقلة بأي رد فعل دولي أو قيود محلية. فمن الناحية التكتيكية، سعت موسكو إلى وضع نفسها كوسيط بين مختلف الفصائل المتحاربة وبعضها محظور لدى القوى الغربية، مثل الميليشيات المتحالفة مع الحكومة السورية مثل منظمة (حزب الله) البنانية، وكذلك بين الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية التي أصبحت متورطة في الحرب والمتعاملة مع إيران والعراق وتركيا وإسرائيل، وفي الوقت نفسه، سعت موسكو إلى الاستفادة من دورها في سوريا لتوسيع بصمتها الإقتصادية وإقامة علاقات إستراتيجية أوسع مع دول الخليج العربية، وبدرجة أقل مع جمهورية الصين الشعبية، ولم تسعى موسكو أبداً لإستبدال الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، بل سعت إلى تحويل سوريا بالذات إلى منصة انطلاق لحضور ودور إقليمي روسي أوسع.
- ولتحقيق هذه الأهداف، اتبعت روسيا الإتحادية تدخلاً منخفض التكلفة في سبتمبر 2015، بهدف ترجيح كفة الصراع المستمر لصالح الدولة السورية بأقل تكلفة على الخزانة الروسية أو على أرواح الروس، ولكن التكلفة كانت كبيرة في أرواح السوريين، من الذين قتلتهم الجماعات الإرهابية المعارضة للدولة السورية،حيث قدمت موسكو القوة الجوية والدعم العسكري للقوات السورية الحكومية، مما سمح للحكومة لاحقاً باستعادة الأراضي التي خسرتها أمام جماعات المعارضة المختلفة في السنوات السابقة. ومع ذلك فقد امتنع الكرملين عن نشر عدد كبير من القوات الروسية على الأرض بخلاف نشر مرتزقة مجموعة (فاغنر) وبعض أفراد الشرطة العسكرية الروسية من الجمهوريات الروسية المسلمة.
- وعلى الرغم من أن التدخل الروسي في سوريا تمَّ تأطيره في البداية على أنه حملة لمكافحة الإرهاب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أنه أعطى موسكو نفوذاً قيماً في إعادة تشكيل أجزاء من البنية الأمنية في المنطقة. وعلى وجه الخصوص، حين أدى إلى إنشاء إطار أستانا في يناير كانون الثاني2017، وهو ما ساعد موسكو لتوقف العملية التي تقودها منظمة الأمم المتحدة والتي سعت إلى إنهاء الصراع السوري. ويعكس هذا الإطار الإتفاقيات الروسية التركية ونفوذها في شمال غرب سوريا، والدور الرئيسي لإيران في دعم النظام السوري، كما يتضمن دوراً ثانوياً لبعض الجهات السورية غير الحكومية، مما أظهر رغبة روسيا الإتحادية في إدارة الطموحات الإيرانية في سوريا من خلال بناء شبكاتها الخاصة داخل النظام السوري نفسه، والسعي إلى دور عربي لموازنة دور طهران، والتنسيق مع إسرائيل سراً بشكل إستخباراتي كبير بشأن الهجمات الجوية الإسرائيلية داخل الأراضي السورية.
- · كما ساعد الدور الروسي في تشكيل الترتيبات الأمنية والسياسية المتعددة في سوريا على تأليب الجهات الفاعلة الإقليمية ضد بعضها البعض، ومن الأمثلة على ذلك استبدال تركيا بمصر كضامن للصفقة المحلية في حمص السورية. وكجزء من هذا الإطار، ساعدت روسيا الإتحادية في إنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد، وهي مناطق إدلب وأجزاء من محافظة اللاذقية، ومنطقة شمال حمص، ومنطقة الغوطة الشرقية، ومنطقة جنوب سوريا (خاصة السويداء ودرعا والقنيطرة). ومع قيام روسيا وإيران وتركيا بدور الجهات الضامنة، وافقت الجهات العسكرية المختلفة على وقف القتال مع بدء المفاوضات لإنهاء الصراع. وفي هذه العملية، تفاوضت موسكو على ما يسمى باتفاقات المصالحة المحلية التي تهدف إلى إعادة الحكم السوري إلى المناطق التي لا تزال تسيطر عليها قوات المتمردين، خاصة حول دمشق وجنوب سوريا، وكثيراً ما تبعت تلك الصفقات التي يتم التوصل إليها على المستوى المحلي، نمطاً من الهجمات البرية المشتركة، والقصف الجوي، والحصار العسكري والأمني لإجبار المتمردين المحليين على الاستسلام وإعادة هذه الأراضي إلى سيطرة الحكومة السورية.
- كما عزز النشاط العسكري الروسي في سوريا مبيعات الأسلحة الروسية في المنطقة، وفي حين أن هذا الدور كان محدوداً مقارنة بدور الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الصراع السوري عزز مكانة موسكو العسكرية ووجودها في بلاد الشام بعد عقدين ونصف من السبات. لأنه وبالنسبة للدولة الروسية، أظهر التدخل السوري فعالية الأسلحة الروسية، حيث تم اختبار 210 أسلحة جديدة في سوريا عام 2018، بحسب تصريحات وزير الدفاع الروسي آنذاك. وفي وقت لاحق، شهدت مبيعات الأسلحة الروسية طفرة كبيرة في مبيعات الأسلحة الروسية التي أثبتت فعاليتها في الجمهورية العربية السورية.
- ومن بعدها حاولت موسكو أيضاً توسيع تعاونها العسكري مع الدول التي تعتمد على المساعدات العسكرية الأمريكية، مثل مصر والعراق والأردن، وبالرغم من كل هذا، لم تستطيع موسكو حتى الآن أن تترجم هذه الإنجازات العسكرية إلى إنتصارات دبلوماسية وإقتصادية على الرغم من أن القوات الحكومية السورية قد استعادت الأراضي التي فقدتها حكومة دمشق سابقاً من أيدي قوات المتمردين، وذلك لأن إتفاقات المصالحة المحلية غالباً ما فشلت في إحلال السلام، لا سيما في جنوب سوريا، وفي الوقت نفسه، أصبحت عملية أستانا بمثابة آلية تنسيق بين الأجندات المتنافسة لإيران وتركيا وروسيا أكثر من كونها مبادرة دبلوماسية يمكن أن تنهي الصراع السوري وتستعيد قوة الدولة السورية.
- وكان أوضح مؤشر على تأرجح الدور الروسي، وتأرجح قدرته على تحقيق الأهداف المرجوة، هو مبادرة إعادة الإعمار وعودة اللاجئين التي أطلقتها موسكو في عام 2018، حيث تعتقد عواصم الدول الغربية وعلى رأسها واشنطن ولندن، أن هذه المبادرة قد فشلت لأن موسكو لم تتمكن من تأمين تأييد الجهات الفاعلة الرئيسية الأخرى، بما في ذلك القوى الإقليمية والإتحاد الأوروبي. ومن خلال هذه المبادرة، ربطت موسكو أزمة اللاجئين في الشرق الأوسط وأوروبا بالحل المناسب في سوريا الذي من شأنه أن يبقي الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة. وكجزء من هذه الخطة، ساعدت روسيا الإتحادية في تأمين عودة ملايين اللاجئين بموافقة الإتحاد الأوروبي على تمويل إعادة الإعمار وتخفيف القيود المفروضة على حكومة الرئيس السوري بشار الأسد.
- وقد دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صراحة إلى دور فعال للإتحاد الأوروبي في تمويل إعادة الإعمار في سوريا من أجل تسهيل عودة ملايين اللاجئين السوريين من أوروبا والشرق الأوسط. وبينما كانت هذه الدعوة خافتة في أوروبا، سعى الرئيس اللبناني ميشال عون خلال زيارة دولة قام بها إلى موسكو للحصول على تعاون روسيا الإتحادية في جهود البلاد لإعادة مئات الآلاف من اللاجئين إلى سوريا، ومع ذلك، فقد ثبت أن قدرة روسيا الإتحادية على تحقيق جميع هذه الأهداف، كانت محدودة نوعاً ما.
- وفي وقتٍ لاحق، وعلى الرغم من دعم لبنان لمبادرة اللاجئين، فإن محاولات موسكو لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية في البلاد لم تتحقق بالكامل، لأنه وبالرغم من فوز شركتي (روسنفت) و (نوفاتيك) الروسيتين بعقود تتعلق بحقول الغاز البحرية المحتملة في لبنان، إلا أن العقوبات الغربية في أعقاب الحرب الأوكرانية أجبرت (نوفاتيك) على الخروج من الكونسورتيوم، وتولت شركة قطر للطاقة دورها في عام 2023. كما أن مصرف لبنان المركزي الفاشل لم ير النور أيضاً ضمن هذه العمليات التجارية والإقتصادية الكبيرة أيضاً، وهو الأمر الذي كان يتطلب من موسكو البحث عن حلول أخرى.
- حيث كانت موسكو تأمل في التأثير على صناع القرار اللبنانيين وفتح مساحة لها في المجالين السياسي والعسكري في البلاد أيضاً، ولذلك استعرض الكرملين عضلاته في وقت مبكر من تشرين الثاني نوفمبر 2015، حيث طالب بإغلاق المجال الجوي اللبناني، مستشهداً بالتدريبات العسكرية الروسية. وفي أعقاب هذه الحادثة، تضمنت مبادرات روسيا الإتحادية تجاه لبنان بعض المقترحات لتوثيق العلاقات العسكرية والإقتصادية ومبادرة لتجنيد مواطنين لبنانيين لحراسة الحدود اللبنانية السورية، لكن هذه الإتفاقات للتعاون العسكري مع لبنان قد أفشلتها الضغوط الأمريكية والأوروبية، لأنها كانت ستوفر لموسكو إمكانية الوصول إلى القواعد العسكرية اللبنانية لو كتب لها النجاح. ولم تدم طموحات روسيا الإتحادية في لبنان طويلاً، على الرغم من أن وجودها العسكري في سوريا المجاورة، واحتمال الدعم العربي لإعادة الإعمار قد ينعش هذه الآفاق الروسية، نظراً لأن الإتفاق الذي كانت تطمح موسكو إليه مع سوريا ولبنان، كان سيمنح الروس إمكانية التنقيب عن الغاز البحري في منطقة متنازع عليها على الحدود البحرية للبنان، مما كان يمكن أن يمنح موسكو دوراً فعلياً في مفاوضات ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان، على قدم المساواة مع الدور الأمريكي في التفاوض على إتفاق بحري بين لبنان وإسرائيل.
- وكان الحد من قدرة روسيا الإتحادية على التواصل واضحاً أيضاً في استخدامها لأداتها طويلة الأمد في السياسة الخارجية الروسية، ألا وهي (الكنيسة الأرثوذكسية) التي لعبت تاريخياً دوراً مهماً في تعزيز الموقف السياسي لروسيا الإتحادية في جميع أنحاء بلاد الشام، حيث تولت الإمبراطورية الروسية مهمة الحفاظ على المسيحية الأرثوذكسية في بلاد الشام في القرن التاسع عشر، وتنافست في الغالب مع أدوار أوروبية إمبراطورية مماثلة ضد الإمبراطورية العثمانية المريضة. وكانت الرعاية الروسية للمسيحيين الأرثوذكس رمزية إلى حد كبير، وقد اعتمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هذا التراث في تأطير تدخل بلاده في سوريا بالذات، لكونها هي موطن لأكبر طائفة أرثوذكسية في بلاد الشام، تليها لبنان والأردن والأراضي الفلسطينية، مع أغلبية تتبع الكنيسة الأنطاكية.
- وقبل عام 2015، استخدمت موسكو الكنيسة الأرثوذكسية ورموزها لتبرير تدخلها العسكري في سوريا أمام الجماهير المحلية والدولية، حيث تمَّ تسليط الضوء على محنة المسيحيين السوريين وسط صعود الجماعات الإسلامية العنيفة في البلاد، حيث تمت الإشارة إلى أن حوالي 50 ألف مسيحي سوري تقدموا بطلبات للحصول على الجنسية الروسية خلال الحرب، ولذلك، بارك الكهنة الأرثوذكس الروس الطائرات المقاتلة والأسلحة الأخرى، وفقاً للصور التي تردد صداها في جميع أنحاء البلاد.
- ومع ذلك، فقد اعترضت قيادة الكنيسة الأنطاكية على الرمزية الدينية التي نشرتها موسكو وتأكيدات الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. ووصفت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تدخلها في سوريا بأنه مقدس، في حين أكد بطريرك أنطاكية يوحنا العاشر ورجال دينه على ضرورة السلام لحماية المسيحيين الشرقيين الذين قد يكون وجودهم مهدداً وسط صراعات استقطابية.
- وبالمثل، كان تدخل روسيا الإتحادية في الشؤون الأرثوذكسية داخل سوريا محفوفاً بالتوترات، فمن ناحية، خرجت قيادة الكنيسة الأرثوذكسية لدعم الرئيس السوري بشار الأسد، معتبرة أنه وسيلة لحماية المسيحيين السوريين في صراع لم يكن لهم تأثير يذكر عليه. كما قدمت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الدعم المالي والمادي للكنيسة الأرثوذكسية السورية، بما في ذلك الغذاء والدواء، ولكن، ومن ناحية أخرى، أثارت مشاركة الكهنة الروس في الإحتفالات الدينية المحلية حالة من عدم الإرتياح في أوساط الكنيسة الأرثوذكسية السورية.
- وفي لبنان، كانت الإنقسامات واضحة أيضاً بين القيادة المسيحية الأرثوذكسية بشأن التدخل الروسي في سوريا، حيث كان إلياس عودة، أسقف بيروت للروم الأرثوذكس، من أشد المنتقدين للحرب وموقف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في سوريا. وفي عام 2015 رفض مبررات الكنيسة وبركاتها لتلك الحرب، (لأن الكنيسة لا تبارك الحروب ولا تعتبرها مقدسة)، وعلى نحو مماثل، ردد يوحنا العاشر الموقف القائل بأنه (في المسيحية، لا توجد حرب مقدسة). وبعد قرار بطريركية القسطنطينية المسكونية لصالح فصل الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن الولاية القانونية للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، أصبحت هذه الإنقسامات أكثر حدة، حتى أن انتقاد سياسة روسيا الإتحادية أثار دعوات لفصل الكنيسة الأرثوذكسية في لبنان عن الكنيسة السورية، مما أدى إلى تنامي الخلافات السياسية حول دور روسيا الإتحادية في سوريا داخل القيادة الأرثوذكسية.
- وكانت الرمزية الدينية والكنيسة الأرثوذكسية مجرد أداتين سياسيتين استخدمتهما روسيا الإتحادية لدعم جهودها الحربية، حيث نشرت موسكو قوات إسلامية، كجزء مما يسمى بنهجها المرتكز على السكان، لضمان اتفاقيات المصالحة المحلية بين الحكومة السورية والمتمردين الذين عبروا لموسكو عن عدم ثقتهم بالتزام القوات الحكومية السورية بأي اتفاق.
- وقد أثبتت تلك القوات الروسية فعاليتها في تطبيق الإتفاقات وتم نشرها لفترة وجيزة بالقرب من الحدود اللبنانية السورية، مما أثار استياء إيران ومنظمة (حزب الله) اللبناني، لأن هذه القوات الإسلامية، كانت قوات إسلامية روسية، قدمت من جمهوريات روسية مثل الشيشان وداغستان وتتارستان، الأمر الذي أثار حفيظة بقية الأحزاب الدينية.
- إن قدرة موسكو المحدودة على فرض سلطتها ودورها الذي فرضته على نفسها كوسيط في الصراع السوري، دفعا روسيا الإتحادية إلى التنقل في تضاريس دبلوماسية معقدة، حيث كان عليها أن توازن بين علاقاتها مع إسرائيل، وشراكتها مع إيران، وتواصلها مع تركيا، وتوسيع علاقاتها التجارية والإقتصادية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ولذلك سعت موسكو إلى البقاء على مسافة واحدة من كل جهة فاعلة إقليمية ولم تتخلى عن أي جهة فاعلة لحماية مصالحها الخاصة.
- فيما يتعلق بعلاقات (روسيا الإتحادية مع تركيا): كان التنسيق بين روسيا الإتحادية وإيران في سياق الصراع السوري هو تنسيق تكتيكي، أكثر مما كان تنسيق أيديولوجي بطبيعته، لأنه وفي أعقاب التدخل العسكري الروسي في سوريا، سعت الدولتان إلى التنافس على النفوذ والتعاون في السياسات التي تضمن بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة، وهو ما حصل، وما زال يحصل حتى الآن.
- فيما يتعلق بعلاقات (روسيا الإتحادية مع إيران): يواصل كلا البلدين دعم الحكومة السورية، على الرغم من أن نهجهما يختلف إلى حد كبير، فبالنسبة لروسيا الإتحادية، فإن إعادة الرئيس السوري بشار الأسد تعني تعزيز الدولة السورية ومؤسساتها. وبينما وسعت إيران دعمها للجهات الفاعلة غير الحكومية في سوريا، أنشأت روسيا الإتحادية فرقة خامسة داخل الجيش السوري تضم مجموعة كاملة من المتمردين السابقين، وضمنت استمرار النفوذ الروسي في الجيش السوري على الرغم من أن الصراع الروسي في أوكرانيا قد حول تركيزه وموارده إلى أماكن أخرى، إلا أن الكرملين يواصل ممارسة نفوذه في سوريا، كما يتضح من التعيينات الأخيرة للجنرالات الموالين لموسكو داخل استخبارات القوات الجوية السورية القوية.
- وفي الوقت نفسه، زاد التعاون الإستراتيجي والعسكري بين البلدين بشكل ملحوظ، حيث قدمت إيران طائرات بدون طيار وأسلحة للجيش الروسي. ومع ذلك، لم تكن لذلك آثار في أماكن أخرى، حيث تواصل كلاً من موسكو وطهران تجزئة أدوارهما الإقليمية.
- · (فيما يتعلق بعلاقات روسيا الإتحادية مع دولة الإمارات العربية المتحدة): إن دعم موسكو الأخير لمطالبات الإمارات العربية المتحدة بشأن ثلاث جزر متنازع عليها مع إيران، كان الأمر الذي أثار استياء طهران، وهو ما يدل على أن التوازن الروسي لا يزال قائماً. وفي السودان، تقف روسيا الإتحادية وإيران على طرفي نقيض، لأنه وفقاً للتقارير الإستخباراتية، فإن إيران وأوكرانيا يدعمان الجيش السوداني بقيادة الزعيم الفعلي للسودان عبد الفتاح البرهان، بعكس الإمارات العربية المتحدة وروسيا الإتحادية الذين تدعمان خصوم البرهان، أي تدعمان قوات الدعم السريع شبه العسكرية، بقيادة الجنرال (محمد دجالو)، حيث يعود هذا النهج إلى هدف زيادة الوصول إلى الموارد الطبيعية والموانئ البحرية.
آراء المراقبين والمحللين والخبراء في مراكز الدراسات السياسية والإستراتيجية الروسية والعالمية:
- يرى العديد من المراقبين والمحللين والخبراء في مجال العلاقات الدولية من المختصين بملف العلاقات (الروسية- العربية) ومنها العلاقات (الروسية – السورية) وكذلك العلاقات (الروسية اللبنانية)، مثل الخبير الروسي (يفغيني ساتانوفسكي) رئيس معهد دراسة إسرائيل والشرق الأوسط، أن الوضع الحالي المتدهور في منطقة الشرق الأوسط، وبالذات في جنوب لبنان بين منظمة (حزب الله) وإسرائيل، لم يعد في أولويات روسيا الإتحادية حالياً، كما يعتقد البعض، ولذلك فإن الموقف الروسي مما يجري في لبنان، ومن بعده في الداخل السوري، سيكون موقفاً دبلوماسياً روسياً بشكل بحت، وليس كما يطمح بعض الموالين لمنظمة (حزب الله) في لبنان، بأن روسيا الإتحادية يمكنها أن تتدخل لوقف الصراع أو التدخل لمساعدة اللبنانيين، أوحتى لمنع الغارات الإسرائيلية فوق الأراضي السورية واللبنانية.
- ويؤكد الخبير الروسي أن الشراكة العسكرية والسياسية المتوسعة مع إيران لم تحد من تعاون روسيا الإتحادية المباشر مع إسرائيل، بل إنها شكلت رد فعل إسرائيل على الصراع الأوكراني وسلطت الضوء على بعض المصالح المشتركة بينهما في منطقة الشرق الأوسط، لأنه ومنذ تدخلها العسكري والأمني في الجمهورية العربية السورية نسقت روسيا الإتحادية مع إسرائيل بشأن الضربات الجوية على أهداف إيرانية، وكذلك نسقت مع الجماعات المدعومة من قبل طهران، حيث كان آخرها قصف القنصلية الإيرانية في دمشق في 1 أبريل 2024.
- وبعد ذلك، قامت إسرائيل باستهداف قاعدة عسكرية تابعة لميليشيا عراقية في جنوب العاصمة دمشق بتاريخ 9 أيار مايو 2024، وهو الأمر الذي اعترف به ضباط المخابرات العسكرية الإسرائيلية عن قصد أو عن غير قصد لإغاضة إيران. كما يتأثر هذا التنسيق بعدد من العوامل مثل الروابط الديموغرافية القوية بين البلدين، حيث يتحدث حوالي 15% من الإسرائيليين باللغة الروسية، ولذلك صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن إسرائيل دولة ناطقة بالروسية، في حين تواصل إسرائيل توفير ملاذ إقامة، وملاذ ضريبي للأوليغارشيين الروس.
- علاوة على ذلك، فإن كلا البلدين يتقاسمان مصلحة في الحفاظ على الوجود الإيراني الضعيف نسبياً في سوريا، وهو الأمر الذي يفسر فشل اتفاق بيع طائرات روسية لإيران بسبب الضغوط الإسرائيلية والأمريكية، في حين منعت إسرائيل بالمقابل بيع تكنولوجيا الدفاع الصاروخي القبة الحديدية لأوكرانيا وامتنعت عن فرض عقوبات على روسيا الإتحادية في أعقاب بدء عمليتها العسكرية الأخيرة في أوكرانيا.
- ويتجلى هذا التوازن بين مختلف اللاعبين أيضاً في النهج الذي اتبعته روسيا الإتحادية تجاه الصراع الأخير في قطاع غزة، ففي حين فشلت روسيا الإتحادية في إدانة هجوم منظمة حماس على إسرائيل بوضوح في 7 أكتوبر (على الرغم من مقتل ستة عشر من مواطنيها)، فإن إطلاق سراح الرهائن الروس سرعان ما أصبح محور تفاعل موسكو مع المنظمة المسلحة. وأسفرت الجهود الروسية عن إطلاق سراح ثلاثة رهائن روس من الإسرائيليين، واستضافت موسكو أيضاً محادثات المصالحة الفلسطينية في آذار مارس 2024، لكنها كانت أكثر فائدة في تسليط الضوء على دور روسيا بدلاً من تحقيق نتائج فعلية.
- فيما يرى بعض الخبراء الروس الداعمين للقوات الحكومية السورية، وللرئيس السوري بشار الأسد من العاملين ضمن معهد الإستشراق الروسي للدراسات السياسية والإستراتيجية، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورغم كل ما يقال قد نجح في تحقيق التوازن بين دعمه للرئيس السوري بشار الأسد، وتعاونه ولكن بشكل تكتيكي مع تركيا، والذي تعمق في أعقاب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث خفت حدة التوترات الأولية المتعلقة بالتدخل العسكري الروسي في سوريا منذ العام 2015، لا سيما لدعم الرئيس السوري بشار الأسد، والذي سعت أنقرة بشتى الوسائل لإزاحته لكنها فشلت، إلى أن اتفقت موسكو وأنقرة على منصة أستانا، والتي كانت منصة هامة لكلا البلدين للتنسيق والتعاون بشأن المصالح المشتركة بين تركيا وروسيا الإتحادية، مثل عدم التعارض بشأن العمليات العسكرية التركية في شمال شرق سوريا، لمواجهة الدعم الأمريكي للأكراد السوريين، وتقويض الكيان شبه المستقل الذي ظهر بمعزل عن سلطة الدولة السورية وبدون موافقة دمشق.
- ويؤكد الخبراء الروس الموالين للجانب السوري أن التدخل العسكري الروسي في سوريا في العام 2015، كان عبارة عن سياسة خارجية أكثر حزماً، حيث أظهر الكرملين الروسي اهتماماً بدور إقليمي أوسع، وهو الأمر الذي سمح لموسكو بحجز مقعد بين اللاعبين الآخرين الذين يسعون إلى تصميم بنية أمنية إقليمية جديدة. ومع ذلك، فإن قدرة روسيا الإتحادية على توسيع نفوذها في لبنان وخارجه لربما ما زالت مقيدة. على الرغم من احتفاظ روسيا الإتحادية ببراعة عسكرية في سوريا وعلاقات رئيسية مع أصحاب المصلحة المعنيين مثل إسرائيل وإيران وتركيا، فضلاً عن الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل منظمتي (حزب الله) في لبنان و(حماس) في قطاع غزة، لأن موسكو لا تزال قادرة على لعب دور فعال في التأثير على التحديات الإقليمية الأوسع، مثل نفوذها الديني الكبير في أوروبا الشرقية، باعتبارها أكبر وأقوى دولة أرثوذكسية في العالم، لأن روسيا الإتحادية ما زالت تكتسب قدراً أعظم من النفوذ في تشكيل سياسات الكنيسة الأرثوذكسية، كما هو الحالي في صربيا وفي أوكرانيا وفي سوريا وفي لبنان.
- ولهذا السبب، يعتبر بعض الخبراء والمستشارين الروس ضمن قسم الشرق الأوسط والأدنى، في داخل وزارة الخارجية الروسية، أن روسيا الإتحادية، وبعد مرور كل هذه السنوات على بدء التدخل الروسي (تسع سنوات على العملية العسكرية الروسية في الجمهورية العربية السورية)، أي تدخلها العسكري في الجمهورية العربية السورية، إلا أن موسكو ما زالت مصممة على بذل جهودها لتعزيز سلطة الدولة السورية، وتحقيق مصالحة سياسية جادة مع الخصوم المحليين للحكومة السورية، لأن ذلك من شأنه أن يدعم الدولة السورية، وأن يحقق طموحات موسكو كلاعب مهم في المنطقة.
- ولذلك تؤكد وزارة الخارجية الروسية، أن موسكو ستتابع مساعدة دمشق من أجل عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وكذلك لدعم الإغاثة وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع، وهو ما سيعني تحقيقاً لأحد أهم أهداف موسكو، أي هدفها السياسي والإستراتيجي في الحفاظ على نفوذ أوسع في المنطقة بمجرد انتهاء الصراع الأوكراني، وحتى ذلك الحين، سيظل النهج الروسي عسكرياً وأمنياً في الجمهورية العربية السورية، وفي لبنان، وفي المشرق الأوسع بمثابة (الحفاظ على التوازن الدقيق) لحماية مصالح الجميع، بما فيها مصالح سوريا ولبنان وروسيا الإتحادية.
حسام الدين سلوم – دكتوراه في تاريخ العلاقات الدولية – خبير في العلاقات الدولية الروسية.