لم يعد خافياً على أحد ان الاقتصاد العالمي تأثر بشكل كبير للغاية في ظل تفشي الفيروس القاتل كورونا وهذا التأثير بكل تأكيد بشكله السلبي للغاية الذي ستبقى اّثاره وانعكاساته على مختلف القطاعات الاقتصادية بدون تميز ليبقى السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل الفيروس القاتل كان السبب وراء هذه الانعكاسات السلبية أم أنه كان يتم استخدامه كأداة لإعادة تشكيل النظام العالمي الاقتصادي من جديد وعلى أسس يفرضها الأمر الواقع الناتج عن نسبة الإصابات وعدد الوفيات في كل بلد بغض النظر عن قوة هذا البلد الاقتصادية أو ضعف الأداء الاقتصادي.
الملفت للنظر هنا هو تزامن انتشار الفيروس القاتل وأزمة أسعار النفط أو معركة النفط بين الدول المنتجة والمصدرة للنفط سواء كانت هذه الدول ضمن منظمة الأوبك أو أوبك + والتي أدت إلى انخفاض أسعار النفط بشكل سريع وتهاوي الأسواق العالمية والتي تعطلت اقتصاداتها كنتيجة مباشرة للإجراءات التي تم اتخاذها من قبل جميع دول العالم للتصدي لهذا الفيروس والمتمثلة بإعلان الحجر الصحي الاختياري وإغلاق القسم الأكبر من المعامل وخطوط الإنتاج وقطاع النقل بمختلف أشكاله الجوية والبرية والبحرية وليس فقط بين معظم دول العالم ولكن حتى ضمن كل دولة على حدى، وهذه الإجراءات رفعت من نسبة البطالة العالمية إلى مستويات قياسية لم يشهدها الاقتصاد العالمي منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى في ثلاثينيات القرن المنصرم أو تلك التي شهدها الاقتصاد الغربي تحديداً في العام 2008 من هذا القرن.
وبحسب الخبراء ومعاهد الأبحاث الاقتصادية العالمية فقد تم تقدير خسائر القطاعات الاقتصادية العالمية بحوالي الـ 5 ترليون $ إلى هذا اليوم ومع عدم وجود وضوح كامل لتطورات الوضع العالمي بما يخص وباء كورونا والازدياد المتواتر لعدد الإصابات بمختلف أنحاء العالم وعدم التوصل إلى اللقاح الذي سيقضي على هذا الفيروس أو على أقل تقدير الحد من انتشاره لتتمكن الحركة الاقتصادية من الدوران من جديد وتعويض الخسائر الهائلة والتي لم تتم خلال فترة قصيرة بكل الأحوال لتبقى انعكاسات هذا الوباء مرافقة للاقتصاد العالمي وتحت تأثيره الى فترة طويلة للغاية.
إلا أن بعض الأطراف الاقتصادية الكبرى مازالت تحاول أن تجعل من هذه المشكلة فرصة تستغلها اقتصادياً وبمختلف الاتجاهات من أجل تعويض خسائرها من جهة ومن جهة أخرى للخروج بنتائج إيجابية تجعلها أكثر تحكماً بالاقتصاد العالمي، وهنا بالتأكيد أقصد الاقتصاد الأمريكي الذي وضع كميات ضخمة للغاية من الأموال في خدمة الشركات الأمريكية الضخمة لمنع تعثرها أو إفلاسها من جهة ولكي تتوفر لديها السيولة المالية الكافية والقادرة على شراء أو استحواذ الشركات التي لم تجد من حكوماتها الدعم الكافي لوقف تعثرها وتدهورها وإفلاسها فتصبح لقمة سائغة ورخيصة أمام تلك الشركات التي تلقت الدعم من الإدارة الأمريكية وبمبالغ خيالي.
إذاً وبغض النظر عن السبب الحقيقي لإنتشار هذا الوباء ومن يقف خلفه إلا أن الحقيقة التي أضحت واضحة للعيان أن النتيجة الأولى والأساسية لتفشي هذا الفيروس هي ظهور نظام اقتصادي جديد يقوم على مبدأ “البقاء للأقوى” أو البقاء والتمدد لمن يتلقى أكبر مساعدة مالية من قبل حكومته لتوظيفها حصراً في التمدد والتغلغل في مختلف المجالات الاقتصادية أو أن يكون أمام الشركات المتعثرة، أما الإفلاس أو اللجوء إلى البنوك الدولية للحصول على قروض تكون نتيجتها الحتمية تأجيل موعد إشهار الإفلاس لا أكثر.
ومن هنا أيضاً نستطيع القول بأن الحرب الاقتصادية أو التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية من جهة وبين الولايات المتحدة وباقي دول العالم سواء كانت تلك الدول من أعداء أو منافسين أو حتى من أصدقاء الولايات المتحدة والتي سبقت ظهور وتفشي الفيروس تجعلنا نعتقد بأن هذا الفيروس ما هو إلا حلقة من حلقات الصراع والحرب الاقتصادية التي تبنتها إدارة الرئيس ترامب ليبقى الشعار الذي رفعه الرئيس ترامب “أمريكا أولاً” بعد أن شعرت الإدارة الأمريكية باهتزاز عرشها الاقتصادي العالمي ومحاولة الكثير من دول العالم الاستغناء عن خدمات الدولار كوسيلة دفع وحيدة لكل المعاملات التجارية في العالم، الأمر الذي سيفقدها السيطرة والتأثير على تلك الدول ليس فقط اقتصادياً وإنما سياسياً أيضاً.
وما يثير القلق أيضاً ويؤكد مرة أخرى على محاولة الولايات المتحدة الدفع بعجلة الاقتصاد الأمريكي إلى الأمام ليس فقط بتقديم المساعدات المالية للشركات الضخمة الأمريكية وإنما دعوة إدارة الرئيس ترامب إلى إنهاء تعطيل الحياة الاقتصادية والعودة إلى ممارسة القطاعات الاقتصادية نشاطاتها ضارباً بعرض الحائط توصيات منظمة الصحة العالمية والاختصاصيين في مجال الطب، وكأن لسان حال الرئيس الأمريكي يقول لا يهمنا الخسائر بأرواح الأمريكيين بقدر ما يهمنا التمسك والتوسع في السيطرة على الاقتصاد العالمي ومنع ظهور نظام عالمي جديد اقتصادي سيؤدي في لحظة ما إلى إنهاء هيمنة وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على الاقتصاد العالمي.
وفي المقابل فإن الدول الأخرى والتي تحاول التصدي للواقع الذي تريد الولايات المتحدة فرضه على العالم بحكم الفيروس وفي مقدمتها المحور الصيني – الروسي وباقي الدول التي تحاول الخروج من تبعية الدولار الأمريكي في اقتصاداتها والابتعاد قدر الإمكان على هذه الوسيلة التي أضحت تهدد اقتصاداتها ومن ثم أمنها القومي، هذه الدول أثبتت أنها قادرة وبكل ثقة على التصدي لهذه الجولة من الحرب التجارية، وبكل ثقة وثبات وتقدم على الرغم من العبء الكبير الذي ولدته أزمة وباء كورونا، ولكن غياب الفقاعة الاقتصادية والمالية في اقتصاداتها على عكس الاقتصاد الأمريكي وسياساتها الاقتصادية الداخلية والخارجية والمختلفة من حيث الشكل والمضمون وحتى الأهداف عما هي عليه في الاقتصاد الأمريكي ستقلب في حقيقة الأمر الفقاعة الأمريكية الجديدة والمتمثلة بالدعم المالي الضخم للشركات الأمريكية لتنعكس بشكل سلبي على الداخل الأمريكي ولتوضع إدارة الرئيس ترامب أمام احتمالان أحلاهما مر، “ضخ مبلغ يزيد عن الـ 6 ترليون $ للشركات الأمريكية “، في حقيقة الأمر الاقتصاد الأمريكي يعاني في الأساس من مديونية خيالية تجاوزت الـ 22 ترليون $” واللجوء من جديد في هذه الفترة الحرجة إلى تشغيل ماكينات طبع الأوراق النقدية ” كلفة طباعة الـ 100 دولار أمريكي هي فقط 12 سنت” سينعكس سلباً على الاقتصاد الأمريكي ويفقده قدرة إضافية على التنافس في الأسواق الخارجية مهما حاولت الشركات الأمريكية الضخمة العودة إلى الداخل الأمريكي وتوطين صناعاتهم في الداخل الأمريكي.
الأمر الاّخر يكمن في العدد الكبير جداُ وللغاية للعاطلين عن العمل في الداخل الأمريكي والذي تجاوز الـ 7 مليون عاطل عن العمل والذي لم تعره إدارة الرئيس ترامب الأهمية كما أعارتها للشركات، فحجم المساعدات للأشخاص الذين فقدوا مصدر دخلهم تحددت عند حاجز الـ 1200 $ للشخص و3000 $ للعائلة المؤلفة من أكثر من 4 أشخاص، وهذا المبلغ بكل تأكيد هو رقم بسيط للغاية لا يكفي لسد وتعويض احتياجات هؤلاء مع عدم وجود رؤية واضحة في مصير الفيروس، وبالتالي فإن إدارة الرئيس ترامب يجب أن تكون على استعداد لعدم الاستقرار الأمني الداخلي والذي ربما يتطور ليأخذ شكل الحرب الأهلية أو حرب العصابات، ويؤكد ذلك ظهور النازيين الجدد في الداخل الأمريكي الذين يدعون تارة إلى قتل الأمريكيين من أصول أفريقية، إضافة إلى ذلك الفشل الذريع لإدارة الرئيس ترامب في الاستعداد والتصدي لهذا الفيروس من الناحية الطبية، الأمر الذي اضطر الوحدات الطبية إلى تنصيب أنفسهم الحاكمين بأمر الله وأن يلعبوا دور ملاك الموت ليقرروا من يحق له الحياة ومن يحكم عليه بالموت من المحتاجين للوضع تحت أجهزة التنفس الاصطناعي وهذا ما يولد كراهية أكبر في الداخل الأمريكي ليس فقط لإدارة الرئيس ترامب وإنما للنظام الرأسمالي الذي يدير الولايات المتحدة بغض النظر عن إدارة الحزب الجمهوري أو الديموقراطي للبيت الأبيض.
ختاماً، إن ظهور وانتشار هذا الفيروس سيكون المدخل لنظام عالمي جديد بكل شيء وفي جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى الأخلاقية، فأما أن يظهر ويخرج هذا المارد الجديد الذي سيدير عجلة العالم على اسس ومبادئ جديدة، وإما السير قدماً في الفناء التدريجي للبشرية بفيروس كورونا أو غيره من الفيروسات لتبقى اتفاقيات الطاقة وسوق الطاقة العالمية سواء كانت النفطية أو الغازية هي المدخل الحقيقي لإرساء الأمن والاستقرار والسلم في العالم.
خاص – وكالة “رياليست” – د. فائز حوالة – موسكو