دمشق – (رياليست عربي): تعمدت واشنطن تجاوز الخطوط الحمراء الروسية وتهديد أمنها القومي, لإجبار موسكو على خوض المعركة العسكرية, وها هي تفعل الشيء ذاته مع بكين.
من الواضح أن الاستفزازات الأمريكية للصين عبر البوابة التايوانية , عكست نمطاً مشابهاً لتلك التي استخدمتها لاستفزاز روسيا عبر البوابة الأوكرانية, وأنها مستمرة بوتيرةٍ تصاعدية, إلى أن تتحرك الاّلة العسكرية الصينية وتطرق أبواب تايوان.
من خلال إدراك واشنطن عدم قدرتها على مواجهة الصين بشكل مباشر, وتقييد نشاطها العسكري حول تايوان, ألزمت نفسها باعتماد الاستفزاز استراتيجيةً أساسية لهذه المرحلة, ولم تكتف بزيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان في مطلع أغسطس/ آب, وأتبعتها بزيارة عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي, لحث بكين على تسريع تنفيذ تهديداتها عبر التدخل العسكري المباشر لحماية أمنها القومي والحفاظ على وحدة الأراضي الصينية ومبدأ “الصين الواحدة”, لكن القيادة الصينية لجأت لتنفيذ مناوراتٍ وتدريباتٍ عسكرية ضخمة, وكثفت من حضورها العسكري حول تايوان, أرسلت من خلالها غضبها وردها الحازم على تلك الزيارات الاستفزازية.
يبدو أن استراتيجية بكين بزيادة السيطرة العسكرية أجواء تايوان والأراضي المحيطة بها, تؤكد عدم رغبتها في احتواء واستيعاب كل ما يدور حول الجزيرة التايوانية, دون الحاجة إلى الانجرار إلى عملية عسكرية مباشرة, فالدروس التي يستخلصها القادة الصينيون من الحرب على روسيا, قد تدفعهم نحو استراتيجية مختلفة عنوانها التفوق العسكري والاقتصادي, لكنها في الوقت نفسه, تحاول الوصول إلى ذات النتائج, وإلى تدمير عناصر القوة التي يتم تزويد الحكومة التايوانية بها, إن كانت سياسية أو اقتصادية أو عسكرية, لن تستطيع معها الاستفزازات العسكرية والسياسية الأمريكية بما فيها عبور السفن البحرية الأمريكية مضيق تايوان, منع بكين استثمار نشاطها العسكري لفرض سيطرتها بشكل متزايد على الجزيرة “المتمردة”, وإلى تطوير حالة الاستقرار السابق ونقلها إلى نموذج جديد, تكون فيه شروط بكين أكثر وضوحاً وصرامةً من ذي قبل.
بات من الواضح أن الهمس الأمريكي, يدفع إدارة تايوان نحو إظهار استقلالها عن الصين, من خلال توثيق العلاقات الخارجية, وإبرام الصفقات العسكرية والاقتصادية والتجارية, على هواها وكما يحلو لها, وبحرية تامة تكرس انفصالها عن الدولة الصينية, في تجاهل تام لمدى عمق ارتباط الاقتصاد التايواني بالاقتصاد الصيني, وهذا ما يمكن للإدارة الصينية أن تستغله لإفشال المخطط الأمريكي برمته, وبإخضاع الانفصاليين دون اللجوء إلى عملية عسكرية, تبدو الصين مستعدة تماماً لمواجهة القوات المسلحة التايوانية, أو لأي تدخل غربي وأمريكي محتمل.
ومن المستغرب أن تستفيد الصين من دروس الحرب الغربية على روسيا, ولا تستفيد منها حكومة تايوان ونخبها السياسية, وهم يرون أهداف واشنطن التي تتخطى تدمير أوكرانيا وتقسيمها, وبأنها لا تعدو أكثر من ذريعةٍ تستخدمها ضد روسيا, لقد بات من الواضح أن عملاء الانفصال في تايوان لا يأبهون أيضاً بتدمير جزيرتهم, ويعولون على “استعداد واشنطن للدفاع” عنها وعنهم, ولا يرون أهداف واشنطن في محاصرة الصين وإلحاق الأذى باقتصادها, ونسف خطوط شحنها التجاري البحري باستخدام الورقة التايوانية.
إن المخطط الأمريكي – الغربي تجاه الصين, نسف العلاقات الصينية – الأمريكية, القائمة منذ أربعين عاماً, وأكد تجاوز واشنطن الخطوط الحمراء الصينية, وكشف اللثام عن جوهر سياسة “الغموض الإستراتيجي” الأمريكي, وعن أهداف الزيارات المتتالية, التي سعت لتطوير مختلف أشكال العلاقات الأمريكية مع تايوان, ودفعها نحو الانخراط في العلاقات الدولية, على أنها دولة مستقلة, على حساب “الصين الواحدة”.
وفي هذا السياق, قام وفد أمريكي ثالث بزيارة تايوان برئاسة حاكم ولاية إنديانا، لبحث سبل التعاون الاقتصادي في إنتاج “رقائق السيليكون الإلكترونية” والتي تشكل عصب الصناعات التكنولوجية, وتكاد تنفرد بها تايوان في العالم, كذلك تم تشجيع اليابان على تطوير وتوسيع علاقاتها مع تايوان, وبالفعل استقبلت حكومة تايبيه عدة شخصيات سياسية يابانية, وبعض أعضاء البرلمان الياباني.
تبدو الاستفزازات الأمريكية وتجاوزها الخطوط الحمراء لكل من روسيا والصين, يؤكد عزم واشنطن القتال على جبهتين في اّن واحد, الأمر الذي يعكس هزائمها وعجزها في الحفاظ على “عرشها” وتفردها بقيادة عالم القطب الواحد, وتجد نفسها مجبرة على خوض المغامرات والمعارك السياسية والعسكرية والاقتصادية الخطرة, وإشاعة الفوضى القصوى, وإشعال ما أمكنها من الجبهات, ودفع أي مواجهة محتملة لأية أطراف, سواء كانوا حلفاء وشركاء أو أعداء, في محاولة لإضعاف الجميع وكسب الوقت لاستعادة مكانتها, ولجم وكبح العالم الناشئ الجديد متعدد الأقطاب بدعمٍ رئيسي من روسيا والصين.
من الواضح أن استراتيجية “الجنون الأمريكي” وقيادة اللعبة الخطرة , فصل إدارة بايدن عن الواقع, ودفعها بعيداً عن المصالح الأمريكية الحقيقية, وصم اّذانها عن سماع “الثعلب” هنري كيسنجر, وتأكيده عدم كفاية القدرات المالية والعسكرية الأمريكية الحالية, لتحدي روسيا والصين, وخوض القتال على جبهتين في اّنٍ واحد, وتقديم الدعم المالي والعسكري للنازيين الأوكران, وانفصاليي تايوان, بالتوازي مع انخفاض احتياطي الأسلحة في المستودعات الأوروبية, وانشغال القادة الأوروبيين ولهاثهم وراء تأمين الغاز المسال وبناء البنى التحتية لاستقباله, وملئ خزانات الغاز ومستودعات الأغذية, تفادياً لمواجهة غليان الاحتجاجات و”شتاء الحكومات” أكثر من منها لمواجهة البرد و”شتاء الشعوب”.
في الوقت الذي ينهمك فيه المجمع الصناعي الحربي الأمريكي, بجني الأرباح, وبإنتاج الأسلحة الضرورية لاستمرار المعركة العسكرية في أوكرانيا, ولرفع مستوى التصعيد العسكري وافتتاح المعركة الموازية في تايوان.
خاص وكالة رياليست – المهندس ميشيل كالاغاصي – كاتب وباحث سياسي – سوريا.