إن الحديث عن وقف إطلاق النار بين أطراف النزاع في ليبيا، يأخذنا للحديث عن عقيدة وموقف الجزائر الثابت والرافض لأي تدخل عسكري حرصها للبقاء على مسافة واحدة من طرفي الصراع في ليبيا، بناء على مقاربة دعم الحوار السياسي وإيجاد مخرج سلمي للأزمة بما يخدم ليبيا وشعبها وكل أقطار المنطقة، وبعكس ما يحدث من “تناطحات” بين القوى الفاعلة المغذية للصراع، كجناح الإمارات ومصر والسعودية ، أو تركيا وقطر، أو محور أوروبا ..روسيا والصين، لا تملك الجزائر أي أطماع مهما كانت نوعها ما عدا سعيها لضمان أمن واستقرار المنطقة، لأن أمنها الداخلي من أمن دول الجوار.
وعلى ضوء ما سبق ذكره، جاء الدور المحوري للآلة الدبلوماسية الجزائرية التي فعلت نشاطها وكثفت تحركاتها على أكثر من مستوى، فور تنصيب رئيس الجمهورية الجديد عبد المجيد تبون، الذي تحدث عن تفعيل دور الجزائر في القضايا الإقليمية والدولية، ويقصد بالتحديد ملف الدولة الجارة ليبيا، وكانت أول خطوة في ذلك عقده اجتماعاً للمجلس الأعلى للأمن لمناقشة الوضع واتخاذ تدابير لتفعيل الدور الجزائري على جميع الأصعدة، وهو ما حدث تماماً.
فضلاً عن الإنزال الدبلوماسي الذي شهدته البلاد، الأسبوع الماضي، بدء باستقبال رئيس المجلس الرئاسي الليبي فايز السراج، ثم توالت زيارات كل من وزراء خارجية تركيا ومصر وإيطاليا، بالإضافة الى المكالمة الهاتفية بين الرئيس تبون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وتوجيه الدعوة للرئيس التونسي قيس سعيد لزيارة الجزائر، بالإضافة إلى اتصالات علنية وسرية مع أطراف أخرى، لعبت الجزائر أوراق ضغط تتكيف وعقيدة المقاربة التي تراها الأصلح لليبيا والمنطقة ككل.
صحيح ، الإعلان عن وقف إطلاق النار من قبل حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج وقوات الجنرال خلفية حفتر أو ما يعرف بحكومة الشرق، جاءت بناء على دعوة أنقرة وموسكو بعد اللقاء الذي جمع الرئيسين أردوغان وبوتين، لكن لا يمكن بأي حال إغفال تحركات الطرف الجزائري الداعي منذ سنوات لإيجاد حل سياسي سلمي بعيداً عن أي تجاذبات أو صراعات عسكرية، كما كانت الجزائر سابقة لإرساء مبادرات تهدئة تمهيداً للحوار وحتى لما كانت تعيش الجبهة الداخلية حالة توتر وعدم استقرار قبل انتخاب الرئيس الجديد، أعادت الجزائر سفيرها الجزائري إلى مكتبه بطرابلس قبل نحو شهرين ونصف من الآن.
طبعا، وقف إطلاق النار فرصة للدبلوماسية الجزائرية من أجل إعادة تجديد أنفاسها وتوسيع قبول مقاربة الحل السلمي من قبل لدى دول أخرى، وبالأخص وأن الأزمة الليبية أمام منعرج مؤتمر برلين أين سيجتمع أطراف النزاع داخل ليبيا بحضور الدول الفاعلة في هذا الملف، ومن دون شك سترمي الجزائر بكل ثقلها من أجل الدفاع عن عقيدة موقفها تجاه القضية، عكس بقية الأجنحة التي تتصارع حول أهداف متباينة، كتركيا وبعض الدول الأوربية مثلا التي لها أطماع اقتصادية بحتة تتنوع بين تقاسم كعكة النفط والظفر بمشاريع إعادة إعمار ليبيا وصفقات نقل الطاقة، بالمقابل تحلم روسيا بتوسيع نفوذها واستعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي في ليبيا، وفي كل هذا تبقى ليبيا وشعبها والمنطقة بالكامل الخاسر الأكبر.
بطبيعة الحال، الجزائر سارعت الزمن وراهنت على تعطيل تدفق الأزمة نحو التصادم الميداني بين أطراف النزاع في وقت كانت فيه دول كتركيا مثلا التي أرادت أن تضع العالم أمام واقع الحرب لتتفاوض من هذه النقطة فيما بعد، لذلك أعتقد أن الجزائر كسبت نصف الرهان، ووقف إطلاق النار سيتيح لها مزيدا من الوقت للحل ورقة دعم الحلول السلمية.
لا أعتقد أن الجزائر سترضخ للضغوط الدولية تحت أي مساومات، بل الأكثر من ذلك الجزائر تحاول استرجاع هيبتها الدبلوماسية إقليمياً ودولياً وعلى مستوى القارة ولن تقبل أن تتحول ليبيا التي تملك معها نحو ألف كلم كحدود برية أن تتحول إلى ساحة اقتتال دولية تهدد أمنها واستقرارها.
خاص وكالة “رياليست” – الأستاذ رضا ملاح – كاتب وإعلامي جزائري.