لنرى كيف أنَّ الهيمنة الأمريكية لايمكن أن تستمر، إلا في حال متمثلة بوجود مشروع سياسي، تستخدم فيه الولايات المتحدة القوة عسكرياً، والضغوط السياسية والاقتصادية، وحلف الناتو، والتحالفات الثنائية، من أجل الاستمرار على قمة الهرم الدولي، يمكن القول إن طرحاً كهذا يمكن أن يستمر، إلا أنه لن يكون قادراً على أخذ مدايات من عام 1990 و2001، كون الدول المنافسة أخذت تتجه إلى تشكيل نظمها الإقليمية، بما يناسب مصالحها: روسيا وشرق أوروبا، وروسيا والقوقاز، والصين وجنوب شرق آسيا، والدول المطلة على شرق آسيا، وغيرها. وقد ظهر حلف الناتو نفسه بموقف العاجز عن التصرف في الأحداث السورية، وترك تركيا بلا خيارات، حتى إنه أظهر تدخلاً في الشأن التركي صيف عام 2016، على نحو دفع تركيا إلى إحداث تغيير في استراتيجيتها والانفتاح على روسيا وإيران، بمعنى أن حلف الناتو الذي اعتنق اتجاه التوسع أفقياً وعمودياً في القارة الأوروبية عام 1999، واتجه إلى الانفتاح على العالم عام 2004 عبر توسيع علاقات الشراكة، وجد نفسه غير قادر على الاتفاق على إدارة أحداث إقليمية مهمة تقع على تخومه الجنوبية وترك المبادرة لروسيا فيها. ومن ثَمَّ، فإن قدرة الولايات المتحدة على الاستعانة به مستقبلاً، غير قابلة للتصور ضمن حدود عليا، إنما المسألة نسبية وضعيفة الاحتمال.
يبقى أن تظهر الولايات المتحدة حدثاً عالمياً، على غرار حدث 11 أيلول/سبتمبر 2001، تدفع معه إلى استقطاب العالم حولها ودفع الدول الأخرى إلى تجديد منظورها للقيادة عالمياً، إلا أن التفكير بخطوة كهذه، سيكون من باب المغامرة الخطرة، لأنها ربما ستنطوي على استخدام سلاح دمار شامل على مصلحة عالمية مهمة.
قد تلجأ الولايات المتحدة إلى خيارات أخرى، ومنها مثلاً استخدام الشركات الأمنية في أداء عمليات شبه عسكرية ضد منافسين، أو ربما القيام بتطوير حروب معلوماتية أو لأنواع جديدة من الحروب قائمة على مزاوجة عوامل طبيعية وتكنولوجية: فيضانات أو زلازل أو حروب بيولوجية متقدمة على نحو تجهد به موارد خصومها وتستنزفهم.
ومن ثَمَّ، فإن خلاصة القول، إن العالم يتجه نحو عالم متعدد الأقطاب، وربما عالم اللاقطبية إذا ما وصل الانتشار النووي فيه إلى مرحلة لا تستطيع فيه الدول الكبرى أن تضبط تفاعلات النظام الدولي، على مدى العقد المقبل. أما ما بعده، فإن العالم سينفتح على تعددية قطبية واسعة من دون الحاجة إلى امتلاك السلاح النووي؛ فالقوة تغيّرت في معناها، وصارت تركز على الاقتصاد والتكنولوجيا والمعرفة، أكثر مما تركز على القوة العسكرية. كما أن الدول أضعفت في عالم ينفتح على مؤسسات العولمة والعالمية، كصندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية، واحتمالات التوسع بعضوية مجلس الأمن ليكون أقرب إلى الحكومة العالمية، والمحكمة الجنائية الدولية، والشركات المتعددة الجنسيات، أي أننا هنا أمام عالم لن تتملك الولايات المتحدة فيه عوامل قوة قادرة على إحداث حسم عالمي، إنما يمكنها التأثير والمشاركة في إدارة الأحداث العالمية، والانتصار في حروب وصراعات إقليمية محدودة، ويمكن فيها أيضاً كبح الولايات المتحدة عبر تحالفات دولية – إقليمية، على غرار ما حدث في سورية، عندما وصلت الولايات المتحدة إلى مرحلة العجز عن إدارة الأحداث أو التعامل معها.
وهنا سيكون لدينا الآتي:
1- من حيث التفاعلات الدولية، يتوقع أن يتجه بعض من الصراعات الدولية للتنشيط، وأن يظهر جلياً في النظام الدولي، أو في النظم الإقليمية الفرعية، وبخاصة في شرق آسيا وجنوبها، وفي الشرق الأوسط، وفي أفريقيا وأمريكا اللاتينية، رغبة من بعض الدول في أن تأخذ مساحة تفاعل ومكانة وأدواراً دولية أوسع من المتحقق الآن، وهو أمر متصور في سلوك القوى الآتية: الصين وجنوب أفريقيا والبرازيل والهند خلال العقدين المقبلين.
2- الأطراف الفاعلة، ويتوقع أن تتجه وحدات دولية متعددة إلى ممارسة أدوارها، وعلى الأقل في النطاق الإقليمي، بمعنى أن هناك صعوبة في اختيار الاتجاه نحو الانكفاء في عالم معولم، والاتجاه هو نحو تنشيط كل عوامل الفاعلية بقصد احتلال مكانة دولية أو إقليمية خلال العقدين المقبلين، وأكثر النظم الإقليمية التي ستظهر دينامية ويغلب فيها الصراع، هو الشرق الأوسط.
هذه الديناميكية ستقود إلى نتائج مهمة، ألا وهي أن حركة الصراع الدولي بأبعاده العالمية والدولية والإقليمية، ستجعل أغلب دول العالم ترفع من مقدار انخراطها بتفاعلات نشطة، عالمياً ودولياً وإقليمياً، ومن ثَمَّ، ستولّد دينامية مرتفعة، تعيد معها احتساب القوة الداخلة في تعريف الهرمية والقطبية الدولية، لذلك، ستجد دول العالم نفسها أمام حقيقة، مفادها أن هناك اتجاهاً حاداً نحو عالم اللاقطبية، أي عدم وجود مركز للقوة عالمياً، إنما سنكون أمام عالم تسوده مراكز إقليمية لها تفاعلات عالمية؛ فالاتحاد الأوروبي من خلال أوروبا، وروسيا من خلال شرق أوروبا والقوقاز، والصين من خلال جنوب شرق آسيا، واليابان من خلال شرق آسيا، والهند من خلال جنوب آسيا، وجنوب أفريقيا من خلال أفريقيا جنوب الصحراء، والبرازيل من خلال أمريكا الجنوبية، كلها أقطاب عالمية، تستطيع الوصول إلى أي تفاعل عالمي وتشارك فيه أو تؤثر فيه بطريقة أو بأخرى. ولا يمكن الحديث عن حامل ميزان أمريكي على غرار عصر السلام البريطاني، كون التوازن سيفرض نفسه من خلال منطق الكلفة المصاحبة لأي صراع، وهو منطق سيدفع الصراعات لأن تكون داخل النظم الإقليمية القارية الكبرى، أكثر مما ستكون على المستويات العالمية والدولية الشمولية. أما ما يتعلق بالشرق الأوسط، فلا توجد حتى اليوم قوى يمكنها أن تكون دولية وكبرى، إنما ما زالت تقع في مصاف القوى الإقليمية، والكابح الرئيس لبروز قوى كهذه، هو التداخل بين الأبعاد الداخلية (المفككة أحياناً لاستمرار الدولة/ الوحدة الوطنية) والإقليمية (التنافس السلبي) والدولية (التدخل الخارجي، وانكشاف الدول الشرق الأوسطية أمام المصالح والسياسات الدولية).
عموماً، إن التفاعلات التي صارت تسود في العالم اليوم، يتوقع أن تدفع به نحو مزيد من العنف خلال السنوات المقبلة، لكن عند المستويات الإقليمية وليس العالمية الكلية. وفي أقل تقدير الاتجاه المتوقع هو رفع سقف صراعات جديدة، ربما ستقود إلى توسيع سقف الصراعات الدولية والإقليمية، إلا أنها ستكون أكثر تركزاً عند المستويات الإقليمية، منه عند المستويات العالمية.
خاص وكالة “رياليست” – الأستاذ مجد إبراهيم كاسوحة – باحث سوري.