دمشق – (رياليست عربي): عُقب نجاح المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان في الإنتخابات الرئاسية الإيرانية، وقيامه بـ إقتراح أعضاء الحكومة الجديدة، وعرضهم على المرشد على خامنئي، فقد أعطى الأخير إشارات تُحدد مسار عمل بزشكيان وحكومته، وترجم واقعاً توجهات إيران الجديدة، لا سيما أن المناخ الإقليمي وملفاته المُعقدة تتطلب مقاربات أكثر هدوءاً، وكذا فإن الوضع الاقتصادي في إيران، يُمثل نقطة الضعف الرئيسية لدى المُرشد، ولا انفراجة دون رفع العقوبات الأمريكية عن طهران، ولا رفع عقوبات دون تهدئة إيرانية في ملفات متعددة كـ الملف الفلسطيني والاتفاق النووي، نتيجة لذلك فإن المُرشد مهندس سياسات إيران الخارجية، يُدرك بأن المرحلة القادمة تُحددها أولويات جديدة، والأهم أن إيران بحاجة ماسة إلى فُسحة تناور من خلالها ضمن فضاء إقليمي شديد التوتر.
خامنئي الذي قال عقب استشارة بزشكيان في أعضاء حكومته أن “لا قيود وعوائق أمام التعامل مع العدو الأمريكي عند اللزوم حين يكون ذلك مفيداً، من دون الثقة به”. ولم يتأخر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في ترجمة ما قاله خامنئي وفق منظوره، حين وضع وحدد سياسة الحكومة الجديدة بأنها “إدارة الصراع” مع الولايات المتحدة، وذلك ضمن اتفاق الطرفين على مصالحهما، وبكلام آخر فإن إيران جاهزة للتفاوض سواء في تحديد مسار غزة على اعتبار أنها “قائدة المحور المقاوم”، أو حيال تقديم تنازلات في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني، وفي الحالتين فإن إيران أو بالأحرى المرشد الإيراني، يتطلع إلى مساحةً أكثر هدوءاً، وغربلة الواقع الإقليمي بما يتناسب ومصالح إيران، ولا ضير ضمن ذلك من تقديم الأولويات على الشعارات.
غزة وما تشهده تبدو وكأنها حلقة في سلسلة الصراع الأمريكي الإيراني، ويبدو أن طهران التي كانت تأمل من خلال استثمار الورقة الفلسطينية، وتسعير جبهات الإسناد دعماً لمصالحها الإقليمية ولتعزيز مكانها في ملف الإتفاق النووي، أنها تراهن على صفقة أوسع من الاتفاق النووي، بعدما كانت في الماضي تُصر على حصر التفاوض بالموضوع النووي، لكن حرب غزة مستمرة ولم تتمكن أذرع إيران من حسم الموقف لصالح طهران، فـ إسرائيل ومن وراءها الولايات المتحدة مستمرون في الحرب حتى تحقيق أهدافها في القضاء على حماس، وتغير الواقع الغزيّ وإعادة ضبطه وتركيبه بعيداً عن إيران.
صحيح أن إيران تقود فصائل المقاومة في حرب الإسناد لـ حماس، وتُدير نيران أذرعها في وحدة الساحات في حرب غزة، لكن الصحيح أيضاً بأن إيران تدرك بأن ما يلي حرب غزة جُملة من المتغيرات الجيوسياسية، وثمة معادلات استراتيجية هي في طور التشكل لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. وتراهن إيران وربما تتصور بأن دورها في إدارة نيران فصائلها “وساحات المقاومة”، سيُقدم لها مكاناً ذهبياً يُجيز لها التفاوض مع الولايات المتحدة على مستقبل المنطقة، وبأن الولايات المتحدة ستقوم بالتسليم بدور إيران الإقليمي، بما يُحقق لها تفاهمات خاصة مع الإدارة الأمريكية يُعزز من مكانها في رقعة شطرنج الشرق الأوسط.
الرهان الإيراني وما تتصوره طهران ليس “مُلك يدها”، خاصة أن إعادة تشكيل الشرق الأوسط تحكمه عناوين أكثر اتساعاً من القضية الفلسطينية، وربما تشكيل الشرق الأوسط الجديد سيُبنى فقط على أنقاض حرب اقليمية شاملة وأوسع بكثير من حرب غزة، وربطاً بذلك فإن الدور الإيراني في حرب غزة وعلى أهميته وغاياته، فإنه لا يُعطيها التفرد بـ الدور الإقليمي حتى وإن تمكنت من الاستحواذ على الاعتراف الأمريكي بدورها، فـ ثمة لاعب روسي ينتظر مآلات حرب غزة، ويرفض تكبير الدور الإيراني في المنطقة، كما أن اللاعب التركي وكذا الإسرائيلي هم أيضاً ينتظرون ما ستؤول إليه التطورات، ويبقى اللاعب الصيني الذي لن يكتفي بمشروعه “الحزام والطريق”، وكلهم مستثمرون بارعون وقناصون ماهرون في توظيف الحدث الشرق أوسطي.
“محور المقاومة هو أهم مكون لقوة إيران”، هذا ما قالة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وهذا ما يؤكد أيضاً بأن قوة إيران قائمة أساساً على فصائل تتبع إيدلوجياً لها، من اليمن إلى العراق وصولاً لـ سوريا ولبنان، حيث جرى تأسيس تلك الفصائل لـ تتبادل القصف مع إسرائيل، وتعطي إيحاءات بأن الورقة الفلسطينية وربما مستقبلها أصبح في يد طهران، غير أن الواقع يؤكد بأن ما يحدث في وحدة الساحات وجبهات الإسناد هو عمق المشروع الإقليمي لـ طهران، فالأخيرة تعمل بدهاء استراتيجي على المدى الطويل، فهي لا تريد الحرب والصدام مع الشيطان الأكبر، ولا تريد ضمن ذلك مواجهة مباشرة مع الشيطان الأصغر، وتدرك بذات التوقيت بأن تحرير فلسطين من البحر الى النهر، “وإلقاء الإسرائيليين في البحر”، يعني حرباً كُبرى مع الولايات المتحدة وأوروبا، وخلافاً عميقاً مع روسيا والصين، وهذا ما يؤكد بأن رفع شعار تحرير فلسطين، هو للإفادة الإقليمية فقط.
مع استمرار حرب غزة، فإن القناعات الأمريكية والإيرانية بـ ضبط أدواتهما يأتي في في إطار الرغبات بـ احتواء الصراع ومنع تحوله إلى حرب إقليمية واسعة، ورغم ذلك فإنه من الصعوبة بمكان قراءة ما تُخطط له إيران وكذا الولايات المتحدة، وبخلاف ما قد يتراءَى للبعض، فإن إيران لا تريد توسيع جبهات القتال، وبمعنى أدق هي تقوم بإدارة الجبهات وضبطها بما في ذلك استهداف الملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي، ورشقات صواريخ حزب الله على إسرائيل، ما يُترجم استعداد إيران للتعامل العقلاني مع الظرف الشرق اوسطي الخطير، ولا ضير من تبادل المنافع والمصالح مع الولايات المتحدة بحسب عراقجي، خاصة أن طهران تدرك بأن توسيع دائرة الحرب والجبهات له أثمان باهظة، خاصة أنها قد تكون على مسافة قصيرة من خسارة استثمارها الطويل في فلسطين، في حال باتت حركة حماس خارج اللعبة الفلسطينية.
حقيقة الأمر فإن إيران والولايات المتحدة عن وكلائهما “فصائل المقاومة وإسرائيل” يملكان مفاتيح الحرب والسلام في هذا التوقيت الإقليمي الدقيق، ويستطيعان الجلوسَ والتفاوض حول إنهاء النزاع والانتقال إلى الملفات الأخرى، ورغم أن هذا الاحتمال قد لا يكون مريحاً للقوى الأُخرى في المنطقة، ولا حتى للفلسطينيين، إلا أن هذا الواقع يؤكد بأن طهران وواشنطن قادرتين على التحكم في مسار الأزمات، فـ مصر ودول الخليج لا تملك نفوذاً كافياً للضغط على حماس، وإسرائيل ليس بوسعها تحدي الضغوط الأميركية، فهي الضامن لأمنها. وبين هذا وذاك فإن الجميع يستثمر في الواقع الفلسطيني، فلا أحد يريد تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وكل الشعارات بمستوياتها السياسية والإنسانية حيال معاناة الفلسطينيين والصلاة في القدس وتحرير فلسطين، ليست إلا غطاءً لغايات أعمق وأدق.
خاص وكالة رياليست عربي – أمجد إسماعيل الآغا – كاتب وباحث سياسي – سوريا.