في السابع من كانون الثاني الماضي، زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، العاصمة السورية دمشق، التقى خلالها نظيره السوري، في ثاني زيارة له إلى سوريا منذ تدخل موسكو الحاسم إلى جانب دمشق (أيلول 2015).
تلك الزيارة التي تبعها -آنذاك- تطورات ميدانية كبيرة في الشمال السوري؛ تمثلت بسيطرة دمشق على كامل الطريق الدولي “M5” و محيطه، ما أكد لاحقاً بأن الهدف الرئيسي لزيارة الرئيس الروسي كان الاتفاق بين الطرفين على الشكل الميداني المفترض للمنطقة خلال فترة لاحقة لم تتعدى الشهرين.
في المقابل فإن المتوقع أن تكون زيارة وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو إلى دمشق، والتي أعلن عنها يوم الاثنين الفائت (23 آذار) شبيهة بالزيارة الأخيرة إلى دمشق للرئيس الروسي من ناحية التطورات الميدانية التي ستتبعها، والتي ستُشكّل لاحقاً محطة محورية مهمة للعلاقات الروسية التركية في الملف السوري.
لاتخرج زيارة شويغو عن إطار الاتفاق على خرائط نفوذ جديدة في أبرز مسائل الملف السوري سواء في إدلب أو شرق الفرات، مع الإشارة هنا على حضور رجل الاستخبارات الأول لدمشق، علي مملوك، وهو الذي يحافظ دوماً على حضوره في زيارات شويغو إلى دمشق، غير أن أيضاً توقيت هذه الزيارة يعني الكثير فيما يتعلق بتثبيت تفاهمات ثنائية -معلنة أو غير معلنة- أُبرمت بين تركيا وروسيا في اتفاق موسكو الأخير حول إدلب (5 آذار).
تغييرات إضافية تتجاوز فتح ممر آمن في عمق محيط الطريق الدولي “M4” بعمق 6 كلم شماله وجنوبه؛ من المفترض أن تحدث على الأرض -بتنسيق روسي تركي- قد تؤدي إلى سيطرة موسكو على كامل منطقة جنوب الطريق الدولي، مع ضمان سيطرة دمشق على الطريق بكامله؛ سواء بقتال متفق عليه بين أنقرة وموسكو -كما أسلفنا-، أو حتى بدون قتال مقابل انسحاب كامل للقوى المسلحة جنوب الطريق؛ نحو الشمال من إدلب.
ماذا الآن حول إدلب؟
بدت التوقعات حول انهيار الاتفاق الروسي-التركي في موسكو؛ “مراهنةً خاسرة”، وهو ما أكدته التصريحات المشتركة لكلا الجانبين عقب الاتفاق فيما يتعلق بتسيير الدوريات المشتركة بينهما، وذلك في ظل تثبيت التفاهمات بين الجانبين والاتفاق على ترسيخ آليات التعاون الميداني على أساس اتفاق موسكو، وقد تم الاتفاق وفق ما أفادت به مصادر بتقسيم الطريق الدولي “M4” إلى قسمين يتولى الجانب التركي الجزء الشمالي منه، بينما تتولى روسيا مهمة الجزء الجنوبي منه.
وذلك في مؤشر يدل بشكل أو بآخر على أن روسيا قد أحرزت مكاسباً لها في الطرق الدولية، على حساب نفوذ أوسع للجانب التركي قد يكون في شمال إدلب؛ أو حتى في المناطق الحدودية والغربية من شرق الفرات.
أبرز الاختبارات التي يتوجب على تركيا اجتيازها، ما يتعلق بوضع حل نهائي لمعضلة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) وباقي التنظيمات الجهادية المنتشرة في محيط الطريق الدولي حلب-اللاذقية؛ وعلى رأسها “الحزب التركستاني”، وكذلك على الحدود السورية-التركية؛ شمالي إدلب (جماعة حرّاس الدين). ما يدلّل بأن الأتراك باتوا في مرحلة متقدمة من التفاهم مع شركائهم الروس حيال ذلك، وقد يكون هذا الجانب أحد الرسائل التي نقلها وزير الدفاع الروسي إلى الأسد.
يُذكر أن وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، أعلن في الثالث عشر من الشهر الجاري عن توقيع اتفاق -إجرائي- بخصوص إدلب مع الوفد الروسي الذي وصل -آنذاك- إلى أنقرة، وأن أولى خطواته ستكون من خلال تنظيم أولى الدوريات المشتركة على طريق “M4” (حلب-اللاذقية الدولي).
وتحدث الوزير في تلك الأثناء؛ حول إنشاء مراكز تنسيق مشتركة مع روسيا ليتم من خلالها إدارة العمليات في إدلب، مضيفاً: “قمنا بدورنا بما يترتب علينا من أجل ذلك، والروس أظهروا موقفا بناءا في هذا الخصوص”.
في شرق الفرات تفاهمات تعكرها واشنطن!
ملف مناطق شمال شرقي سوريا أو ما يعرف بـ “شرق الفرات” كان حاضراً هو الآخر على أجندة شويغو في دمشق، غير أن معضلة تنفيذ الرؤية الروسية في هذا الجزء من سوريا؛ تتمثل في تعقد مصالح وخلافات الأطراف المتدخلة في المنطقة هناك.
تدرك موسكو أن معادلة إتمام هذا الملف لا تقل صعوبة عن ملف إدلب، وقد يبدو أن تفاهماتها مع تركيا لن يُعكر صفوها سوى التجاذبات مع واشنطن، غير أن نزع فتيل التوتر التركي-الكردي من ناحية، والكردي-السوري (حكومة دمشق) من ناحية أخرى، سيخفف كثيراً على موسكو صعوبة إنجاز هذا الملف بنجاح تترقبه.
من أجل تحقيق ما تصبو إليه موسكو فإنها قد لن ترى ضيراً بالمضي صوب إعلان “إدارة مشتركة” بينها وبين أنقرة على مناطق حدودية بين سوريا وتركيا؛ دائماً ما تؤرق الأخيرة، في مقدمتها (عين العرب/كوباني، و منبج)، مقابل ضمان إبعاد كافة أشكال التواجد العسكري والإداري لقوات “قسد”، وبدرجة أقل نسبياً القوات التابعة لدمشق، فضلاً عن انسحابات متوقعة لفصائل “قسد” إلى جانب القوات النظامية التابعة لدمشق من قرى وبلدات تهتم بها أنقرة في ريف حلب الشمالي وهي متاخمة لمناطق ما يسمى بـ “درع الفرات”، أبرزها (تل رفعت، بلدة منغ ومطارها العسكري، دير جمال).
كل تفاصيل هذا السيناريو قد تشي بأن المناطق الشرقية من سوريا والشمالية الغربية منها؛ باتت ضمن ملف الصفقات الذي تكدّست الكثير من أوراقه على مدى أكثر من 3 سنوات؛ دون الوصول إلى تحقيق استقرار مستدام، في ظل غياب الأفق السياسي السوري.
مجريات الأمور في شرق الفرات قابلة للتحولات المفاجئة بانتظار صدور نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة (أواخر العام المقبل)، طالما أن الإدارة الأميركية الحالية لا تريد أن تكون خارج لعبة الصراعات حول الملف السوري الأكبر حالياً ولا حتى داخلها بشكل مباشر، غير أن على موسكو مَهمة ترى أن التقدم لتحقيقها في الشرق السوري متمثلة بمنح أوراق رابحة لمصلحة تركيا هناك؛ بعدما تنازلت الأخيرة عن الكثير في إدلب، مقابل أن تُمسك موسكو بأوراق ضغط وازنة بوجه واشنطن في تلك البقعة.
مالك الحافظ- باحث و محلل سياسي، خاص لوكالة أنباء “رياليست” الروسية