القاهرة – (رياليست عربي): مع دخول العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة أسبوعه الثالث، وما خلفه من دمار شامل في المنشآت العامة والمرافق الحيوية، فضلًا عن آلاف القتلى والجرحى من جميع فئات الشعب الفلسطيني الأعزل، لا تزال حركة حماس الفلسطينية توجه ضربات موجعة إلى الكيان الصهيوني في سابقة ليست الأولى من نوعها، لكنها الأكبر والأقوى والأوسع نطاقًا، مما جعل الكثيرون يعتبرون حماس قوة لا يستهان بها، تمتلك أسلحة متطورة، ويقاتل تحت لوائها قوات مدربة على أعلى مستوى، تهدد إسرائيل وربما تكتب لها نقطة النهاية.
هذا الأمر طرح العديد من التساؤلات حول موارد حركة حماس المالية ومدى حجمها سواء في وسائل الإعلام المختلفة أو بين ساسة الدول شرقًا وغربًا؛ وهي تساؤلات تثير تحفظات كثيرة لأن هذه الحركة مدرجة على قائمة الجماعات الإرهابية في عدد من الدول الأجنبية والعربية.
تحديد حجم المساعدات المالية التي تُقدم لحركة حماس، ليس أمرًا يسيرًا، لأن إدراجها في قوائم الجماعات الإرهابية جعل كل معاملاتها المالية تتم سرًا، لذا فإن ما يتردد في وسائل الإعلام حاليًا حول حجم هذه المساعدات يعتمد على تسريبات من مصادر أمنية رفيعة المستوى ذات اتصال مباشر مع حماس، أو وفق تقديرات أجهزة المخابرات الأجنبية والإسرائيلية.
الجناح الأول: قطر
تعتبر قطر من أبرز الدول التي تربطها علاقات وطيدة مع حركة حماس وقادتها، وقد دُشنت هذه العلاقات عقب فوز حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006، وتولي القيادي بالحركة آنذاك “إسماعيل هنية” رئاسة الحكومة الفلسطينية (رئيس الوزراء). توطدت العلاقة بين الطرفين بعد أن دعت قطر رئيس المكتب السياسي للحركة آنذاك “خالد مشعل” لحضور “قمة الدوحة” أو “قمة غزة الطارئة” إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أواخر عام 2008، وهو العدوان الذي تطلق عليه إسرائيل “عملية الرصاص المصبوب”، بينما تطلق عليه حماس “معركة الفرقان”.
كانت حركة حماس لها مكاتب في دمشق، لكن بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، لم تدعم الحركة نظام بشار الأسد، وقرر أعضاؤها الرحيل عن سوريا، حيث وافقت قطر على استقبالهم وفتح مكاتب لهم في دوحة. منذ ذلك الوقت شرعت قطر في تقديم دعمٍ ماليٍ لحماس على شكل مشاريع خدمية وميدانية في قطاع غزة. وفي عام 2012 زار أمير قطر الشيخ “حمد بن خليفة آل ثاني”، ورئيس الوزراء الشيخ “حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني” قطاع غزة في زيارة هي الأولى من نوعها لرئيس دولة عربية بعد فرض الحصار الإسرائيلي على القطاع عام 2006. وفي إطار التوصل إلى المصالحة الفلسطينية، استضافت الدوحة عدة جولات من المفاوضات بين حركتي حماس وفتح الفلسطينيتين.
وفي عام 2016 أعلن الديوان الأميري القطري عن صرف منحة مالية إلى قطاع غزة تبلغ 30 مليون دولار شهريًا على أن تُجدد سنويًا بشكل دوري، وتتولى اللجنة القطرية في غزة استلام الأموال المحولة ومتابعة أوجه صرفها. توزع المنحة على 3 جهات فلسطينية بالتساوي؛ الجهة الأولى “الأسر المعوزة”، حيث تحصل قرابة 100 ألف أسرة فقيرة على 10 ملايين دولار. والجهة الثانية “قطاع الكهرباء”، حيث تُدفع 10 ملايين دولار ثمنًا للوقود المخصص لمحطة توليد الكهرباء بقطاع غزة. والجهة الثالثة “حركة حماس”، حيث تخصص 10 ملايين دولار كمساهمة في دفع رواتب موظفي الحكومة الفلسطينية من حركة حماس. لكن منذ منتصف العام الجاري قلصت الحكومة القطرية الأموال المخصصة لحركة حماس إلى 3 ملايين دولار فقط، بسبب تقارب الحركة مع النظام السوري –شأنها شأن أغلب الدول العربية– بعد قطيعة استمرت أكثر من 10 سنوات، حيث تعارض قطر عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية معللةً ذلك بأسباب لم تتجاوزها بعد.
وبعيدًا عن الدعم المالي، تلعب قطر دور الوسيط السياسي بين حركة حماس وسائر الأطراف الدولية في العديد من الملفات الشائكة، ولعل آخرها إطلاق سراح 4 رهينات أمريكيات إسرائيليات خلال الأيام الأخيرة بوساطة قطرية، كانت حماس قد احتجزتهن خلال عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر الجاري.
الجناح الثاني: إيران
توصف إيران دائمًا بأنها الداعم الاستراتيجي الأكبر لحركة حماس في المنطقة، وعلى عكس القطريين، يصرح المسؤولون الإيرانيون على الملأ بأنهم يقدمون مساعدات مالية وعسكرية ضخمة إلى حماس تقدر بملايين الدولارات. فقد أعلن الزعيم الإيراني “عليّ خامنئي” في 3 فبراير 2012 خلال خطبة الجمعة بطهران صراحةً: “لقد تدخلنا في (العمليات العسكرية) المناهضة لإسرائيل؛ وكانت نتيجة هذا التدخل انتصار (حزب الله) في حرب الـ 33 يومًا (حرب تموز عام 2006)، وانتصار (حركة حماس) في حرب الـ 22 يومًا (معركة الفرقان عام 2008). وكل موضع وكل أمة وكل جماعة تقاوم الكيان الصهيوني فيما بعد، سنأزرها ونساعدها، ولن نتورع عن التصريح بهذا الأمر”. كما قال في 15 نوفمبر 2019 أثناء خطبة جمعة أخرى: “لقد دعمنا القضية الفلسطينية، وساعدنا الفلسطينيين، وسنساعدهم، وليس لدينا أي تحفظ أو غضاضة إزاء هذا الأمر. يجب على العالم الإسلامي مساعدة فلسطين”.
لم تكن هذه المساعدات خفية عن أعين العالم، حيث صرح رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي “مايكل ماكول” Michael McCaul مؤخرًا بأن إيران منذ سنوات طويلة تدعم حركة حماس ماليًا وتدرب مقاتليها على العمليات العسكرية. لكن المعلومات المتاحة عن حجم هذه المساعدات محدودة جدًا، كما أن الأرقام المتداولة في وسائل الإعلام المختلفة بشكل متكرر تستند إلى تقديرات أجهزة المخابرات الأجنبية. هذا فضلًا عن أن قيمة المساعدات المالية التي قدمتها إيران إلى حماس خلال العقدين الماضيين لم تكن ثابتةً، بل متأرجحة بين الزيادة والنقصان.
بداية المساعدات المالية الإيرانية لحماس
منذ تأسيس حركة حماس في أواخر الثمانينيات حتى اليوم، شهدت العلاقة بينها وبين الحكومات الإيرانية المتعاقبة صعودًا حينًا وهبوطًا حينًا آخر، ومع ذلك لم تتوقف مساعدات إيران المالية لهذه الحركة في أي وقت من الأوقات أو في أية مرحلة من المراحل.
توطدت العلاقات بين حركة حماس والنظام الإيراني عقب اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل عام 1993 بموجب اتفاقية “أوسلو” الموقعة بين أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة آنذاك “ياسر عرفات” ممثلًا عن السلطة الفلسطينية، ووزير الخارجية الإسرائيلي “شيمون بيريز” Shimon Peres ممثلًا عن دولته. لكن وفقًا لما يذكره القيادي البارز في حركة حماس “محمود الزَهَّار” أن المساعدات المالية الإيرانية شرعت في التدفق على هذه الحركة عام 2006.
يذكر الزَهَّار في حوار متلفز على قناة “العالم” الإيرانية الناطقة باللغة العربية عام 2020 أنه تسلم ما يقرب من 22 مليون دولار في حقائبٍ لم تكن تسع ما بها من أموال عقب لقائه الأول مع اللواء “قاسم سليماني”، قائد فيلق القدس السابق بالحرس الثوري الإيراني، عام 2006. ووفقًا لما صرح به الزَهَّار؛ كان من المقرر أن يقدم سليماني إليهم المزيد من الأموال، لكن كان مع الزَهَّار 9 أشخاص فحسب، وسعة كل حقيبة تسع 40 كيلوجرامًا، فلم يتمكنوا من حمل حقائب أكثر، لذا أخذوا 22 مليون دولار فقط.
وعندما قام موقع “ويكيليكس” WikiLeaks عام 2010 بتسريب مجموعة من المراسلات السرية الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية، جاء في إحدى الرسائل أن إيران تساعد حماس.
ويتعلق موضوع الرسائل بجهود واشنطن الرامية إلى إيقاف إمدادات الأسلحة الإيرانية إلى الجماعات الإسلامية “المسلحة” في الشرق الأوسط. وتكشف الرسائل عن أن الولايات المتحدة قد حذرت السودان في يناير 2009 من السماح بنقل “أسلحة إيرانية” عبر أراضيها كان من المتوقع أن تصل إلى حماس.
كما تشير تسريبات “ويكيليكس” إلى أن رئيس جهاز المخابرات المصري الأسبق “عمر سليمان” أبلغ مسؤولين أمريكيين في أبريل 2009، أن مصر نجحت في منع إيران من توصيل مساعدات مالية إلى حماس تبلغ قيمتها 25 مليون دولار، كان من المقرر أن تُنقل عبر سيناء شهريًا بشكل دوري. ووفقًا لهذه التسريبات، يذكر السيد سليمان “أن مصر بعثت رسالة واضحة إلى إيران مفادها أن الإيرانيين لو تدخلوا في الشؤون المصرية، فإن مصر سوف تتدخل في الشؤون الإيرانية”.
تفاصيل هذه الرسائل وما تتضمنه من معلومات سرية لم تؤكد مطلقًا من قبل أحد المسؤولين على الرغم من تداولها في وسائل الإعلام على نطاق واسع وقت تسريبها.
سنوات الفتور: الأزمة السورية وانعكاسها على العلاقة بين إيران وحماس
شهدت العلاقة بين إيران وحركة حماس خلال الثورة السورية نوعًا من الفتور، فالنظام الإيراني على عكس أغلب الأنظمة العربية والغربية كان ولا يزال أحد الداعمين الرئيسين لنظام بشار الأسد. مع بداية الاحتجاجات السورية المناهضة لنظام بشار الأسد، رفضت حماس دعم هذا النظام، ونقلت مكاتبها من دمشق إلى دوحة. كما أفادت تقارير بعض وسائل الإعلام الإيرانية، من بينها الموقع الإخباري المقرب من الحرس الثوري “تابناك” في ديسمبر 2013، أن قوات حماس دخلت الحرب ضد بشار الأسد، ومع ذلك لم تتوقف مساعدات إيران المالية لحماس، حيث يذكر رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس “خالد مشغل” في حديثه المطول مع جريدة “الشرق” القطرية في ديسمبر 2014 أن مساعدات إيران المالية لم تتوقف خلال هذه السنوات لكنها تأثرت.
وكتب الموقع الإخباري “المونيتور” Al-Monitor عن عواقب تقليص المساعدات الإيرانية على حركة حماس قائلًا: “إن تقليص دعم إيران المالي لحركة حماس في السنوات الأخيرة أثر عليها وأوقعها في أزمة مالية، فقد اضطرت حماس إلى غلق عدة مؤسسات إعلامية تابعة لها كقناة القدس الفضائية والمركز الفلسطيني للإعلام، كما خفضت رواتب موظفيها إلى النصف أو أقل من ذلك”.
عودة الوفاق بين الطرفين
بعدما شهدت الأزمة السورية بعض الهدوء، واستأنفت حركة حماس علاقاتها مع نظام بشار الأسد، أصبحت العلاقة بين هذه الحركة والنظام الإيراني أقوى من ذي قبل. خلال هذه الفترة نشرت مصادر دبلوماسية وإعلامية أرقامًا متباينةً حول حجم المساعدات المالية التي تقدمها إيران لحماس. ففي عام 2020، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن حجم هذه المساعدات وفق تقديراتها يبلغ 100 مليون دولار سنويًا، لكن وسائل إعلام إسرائيلية زعمت أن هذا الرقم أكبر من ذلك، حيث أفاد تقرير القناة (12) الإسرائيلية في أغسطس 2019 بأن طهران أعربت عن رغبتها في زيادة دعمها المالي الذي تقدمه لحركة حماس شهريًا إلى مبلغ غير مسبوق قدره 30 مليون دولار، وذلك خلال اجتماع عُقد بين الزعيم الإيراني “عليّ خامنئي” وقادة حماس.
وفي ديسمبر 2021 صرح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس “إسماعيل هنية” بأن إيران دفعت 70 مليون دولار لهذه الحركة حتى تؤسس “قوة ردع” تابعة لها في المنطقة لديها القدرة على مجابهة إسرائيل، وتعتبر الصواريخ التي تُصنِّعها حماس في قطاع غزة، جزءًا من هذه القوة.
هذه المساعدات قد ازدادت خلال السنوات الأخيرة، فوفقًا لتقرير نشرت وكالة الأنباء البريطانية “رويترز” Reuters نقلًا عن مسؤول أمني إسرائيلي، أن إيران رفعت مساعداتها المالية للذراع العسكري لحركة حماس “كتائب عز الدين القسام” من 100 مليون دولار إلى حوالي 350 مليون دولار سنويًا.
المساعدات العسكرية: صواريخ محلية بأموال إيرانية
إلى جانب المساعدات المالية، قدمت إيران إلى حركة حماس مساعدات عسكرية أيضًا، حيث كتب قطاع الأخبار بهيئة الإذاعة الوطنية الأمريكية “إن بي سي نيوز” NBC News في أغسطس الماضي أن إيران كانت تتعامل مع حركة حماس، وعلى اتصال بها طوال سنوات عديدة، وبالإضافة إلى المساعدات المالية، زودت إيران هذه الحركة بتقنيات تكنولوجية مكنتها من بناء ترسانتها الصاروخية في قطاع غزة وفق “المخططات الإيرانية”.
ونقلت صحيفة “خراسان” الإيرانية في نوفمبر 2012 عن العميد الأسبق بالحرس الثوري وعضو البرلمان الإيراني آنذاك “جواد كريمي قدوسي” قوله: “إننا أرسلنا إلى قطاع غزة 50 ألف صاروخ وآلاف الصواريخ المضادة للدبابات”. وفي العام نفسه، قال اللواء “محمد عليّ جعفري” القائد السابق للحرس الثوري: “إن إيران نقلت تكنولوجيا تصنيع صواريخ فجر 5 إلى قطاع غزة”.
وفي يناير 2018 أعلن اللواء “قاسم سليماني” القائد السابق لفيلق القدس بالحرس الثوري “أن جميع الإمكانيات الإيرانية تحت تصرف حركة حماس”. وفي يوليو 2019 قال الزعيم الإيراني “عليّ خامنئي” خلال لقائه مع قادة حركة حماس في طهران: “منذ سنوات قريبة، كان الفلسطينيون يناضلون بالحجارة، أما اليوم فهم مجهزون بالصواريخ الموجهة بدلًا من الحجارة، وهذا يعني الشعور بالتقدم”.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر