القاهرة – (رياليست عربي): يُطلق مصطلح “سينما الدفاع المقدس” في إيران على الأفلام التي تتناول موضوع الحرب الإيرانية – العراقية المعروفة في الاصطلاح السياسي الإيراني باسم “الحرب المفروضة”، وفي الاصطلاح السياسي العالمي باسم “حرب الخليج الأولى”، وهي الحرب التي امتدت ثماني سنوات منذ عام 1980 حتى عام 1988 دون جدوى.
في خِضَم هذه الحرب، دشن رئيس الإدارة العامة للدراسات والعلاقات السينمائية بوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي آنذاك “حُسين وَخشوري” Hossein Vakhshouri الدورة الأولى من “مهرجان أفلام الدفاع المقدس” عام 1983. أُقيمت هذه الدورة في سينما “آزادي (الحرية)” في الفترة من 22 حتى 28 سبتمبر بالتزامن مع “أسبوع الدفاع المقدس” الموافق ذكرى اندلاع الحرب، وشارك بها 10 أفلام روائية طويلة وقصيرة، و24 فيلمًا وثائقيًا طويلًا وقصيرًا.
وفقًا لما يذكره “وخشوري”، كان الهدف من إقامة هذا المهرجان تقديم أعمال فنية تشحذ الهمم، وتحفز الحس الوطني لدي الشعب الإيراني، بالإضافة إلى استعراض بطولات الجنود على جبهة القتال وتقريظها، وتكريم شهداء الحرب.
ظل موضوع الحرب الإيرانية – العراقية محور المهرجان الرئيس طوال سنوات الحرب وبعدها إلى أن تغير اسمه خلال الدورة السادسة عشرة عام 2020 إلى “مهرجان أفلام المقاومة الدولي”، حيث اتسعت محاوره لتشمل موضوعات الحرب والنضال والدفاع عن الوطن، وترسيخ مبادئ الثورة الإسلامية والعمل على نشرها، ومجابهة اللوبي الأمريكي – الصهيوني والهيمنة الغربية على منطقة الشرق الأوسط.
يحظى “مهرجان أفلام المقاومة الدولي” باهتمامٍ كبيرٍ من قبل الدولة، وعادة ما تشهد مراسم الافتتاح والختام وتوزيع الجوائز حضور قيادات رفيعة المستوى من الحرس الثوري. هذا المهرجان تقيمه حاليًا مؤسسة “رواية الفتح الثقافية” و”جمعية سينما الثورة والدفاع المقدس” كل عامين، وتشارك فيه أفلام من مختلف أنحاء العالم. عُقدت النسخة السابعة عشرة من المهرجان العام الماضي في الفترة من 3 إلى 8 مارس، ومن المقرر عقد الدورة الثامنة عشرة العام القادم في التوقيت نفسه.
سينما الدفاع المقدس
حفل صُنَّاع السينما الإيرانية بالحرب الإيرانية – العراقية منذ اندلاعها، حيث شكلت أفلام الدفاع المقدس كعبة السينمائيين عقب الثورة باعتبارها موضوعًا يتوافق مع أيديولوجيات النظام الجديد ويحظى باستحسانه، هذا فضلًا عن كونها موضوعًا نجا من مِقصِّ الرقابة المتزمتة التي جردت السينما من حريتها شكلًا ومضمونًا، وجعلتها تدور في فلكٍ محددٍ لا تستطيع الخروج منه، وكادت تقضي على صناعة السينما تمامًا.
على مدار سنوات الحرب الثماني، قدمت السينما الإيرانية أفلامًا تؤرخ إلى مجريات الحرب، لكنها تُظهِر وجهًا واحدًا لها فقط، يتمثل في استعراض بطولات الجنود في مواجهة العدو، والتضحية بالنفس في سبيل الدفاع عن الوطن، والدعاية إلى استمرار القتال اتساقًا مع شعار “حرب.. حرب حتى النصر” الذي رفعه النظام وروج له على نطاق واسع.
كان من أبرز هذه الأفلام؛ “عُقابها: العِقبان” عام 1985 من تأليف “محمد رضا يوسفي”، وإخراج الإيراني – أرمني الأصل “صاموئيل خاچیکیان” Samuel Khachikian، و”پَرواز در شب: رحلة في الليل” عام ۱986 من تأليف وإخراج “رسول مُلا قُلي پور”، و”كانى مانگا: مرتفعات کاني مانجا” عام 1987 من تأليف وإخراج “سيف الله داد”.
لم يستطع صُنَّاع السينما في ذلك الوقت التطرق من بعيد أو قريب إلى أوجه أخرى للحرب كمآسيها ومساوئها وما خلفته من دمار استنزف ثروات البلد المادية والبشرية، أو إلقاء الضوء على دوافع الطرف الآخر في خوض تلك الحرب وما حل به من خسائر. دائمًا كانت تُقدم الأفلام مع اختلاف قصصها وحبكاتها في قالبٍ محددٍ يتسق مع أيديولوجيات النظام الإيراني الداعم للحرب.
مع انتهاء الحرب، قدمت السينما الإيرانية أفلامًا ناقشت ما يُسمى بــ “قضايا ما بعد الحرب”، حيث صوَّرت عذابات أسر الشهداء، ومعاناة الجنود المصابين وما حل بهم وبذويهم من مصائب، وما لحق بالبلاد من خراب شامل. في هذا السياق، ظهرت تدريجيًا مجموعة من الأفلام تناهض الحرب، وتندد بعبثيتها وانعدام جدواها، وتراها من منظور أرحب من منظور النظام الضيق؛ المحدود؛ الموجه، تغلب عليه “رؤية إنسانية” ذات بُعد فلسفي. كان من أوائل هذه الأفلام “عروسى خوبان: العُرس الميمون” من تأليف وإخراج ” مُحسن مخملباف” عام 1989.
منذ أوائل التسعينيات حتى كتابة هذه السطور يخوض صُنَّاع هذه الأفلام ذات الرؤية المغايرة حربًا من نوع آخر مع الرقابة الإيرانية كي ترى أعمالهم النور. بعض من هذه الأفلام وُئِدَت في مهدها، والبعض الآخر طاله الحذف والمنع، والبعض الثالث ظهر على الشاشة فترة قصيرة من الوقت، ثم اِختفى نهائيًا.
أقدمُ لكم من بين هذه الأفلام 5 نماذج تناولت الحرب الإيرانية – العراقية من زوايا مختلفة يطغى عليها الجانب الإنساني، حرصتُ في اِنتقائها على أن يمثل كل واحد منها حقبة زمنية بعينها منذ نهاية الحرب في أواخر الثمانينيات إلى نهاية ما نعيشه من سنوات كي نرى معًا كيف تناولت السينما الإيرانية الحرب في عرين سُّعارها حتى نُّفاثة كِيرها.
- ى کوچک “باشو؛ الغریب الصغیر”
في رائعة المؤلف والمخرج الإيراني الكبير “بَهرام بيضائي” “باشو؛ غریبهى کوچک: باشو؛ الغريب الصغير” عام 1986، يُصوِّر لنا واحدةً من أسمى القصص الإنسانية إبان الحرب الإيرانية – العراقية، ألا وهي حكاية الفتى الصغير “باشو”.
باشو “عدنان عفراویان” فتى صغير من عرب إيران يقطن محافظة خوزستان جنوبي البلاد، يفقد أسرته بالكامل أمام عينيه أثناء قصف القوات العراقية، فيهرع وسط الحقول هلعًا إلى أن تصل شاحنة بضائع مصادفة. يعتلي ظهر الشاحنة خفيةً، فيغلبه النعاس من شدة التعب. عندما يستيقظ يجد نفسه في أرض غريبة لم يرها من قبل هي محافظة جيلان (گیلان) شمالي إيران.
يقفز باشو من الشاحنة، ويفر إلى غابة بعيدًا عن الانفجارات المدوية على قارعة الطريق حتى يصل إلى حقل أرز تملكه السيدة “نايي جان (سوسن تسليمي)”. نايي أم لبنت وولد صغيرين تعيش بمفردها بعدما تطوع زوجها “قسمت شنبه سرايي (پَرویز پور حُسيني)” Parviz Pourhosseini في جبهة القتال. على الرغم من نظرات الخوف المتبادلة واختلاف اللسان، يرق قلب نايي إلى باشو، وتشفق على حاله، فتعطيه خبرًا وماءً، وتصحبه معها إلى البيت، وتعامله كابنها الأكبر سنًا من ولديها. يبدأ باشو في مساعدة نايي في أعمال المزرعة كنوع من رد الجميل لما لاقاه منها من حُنوٍّ وعطفٍ، لكن بشرته السمراء ولغته غير المفهومة تصبح محط سخرية من أهالي القرية واستهزائهم، هذا إلى جانب شكهم في أمر نايي وإساءة الظن بها.
تحرص نايي على مراسلة زوجها قمست طوال فترة غيابه، وتخبره في إحدى الرسائل بأمر باشو، وتطلب منه أن يقبل الفتى كابن لهما، لكن قسمت يرفض، ويدعوها إلى طرده. عندما يكتشف باشو فحوى الرسالة، يفر من البيت، لكن نايي تُعيده مرة أخرى. بعد فترة من الوقت تصاب نايي بالمرض، فيعتني بها باشو، ويتولى إدارة البيت والمزرعة إلى أن تطيب.
خلال تلك الفترة تتمكن نايي وباشو من التفاهم معًا عن طريق المزج بين اللغات الجيلاكية (گیلَکی) والفارسية والعربية، وتعرف قصته. حينما يعود قسمت إلى البيت فاقدًا ذراعه في الحرب، يدور شجار حاد بينه وبين نائي حول بقاء باشو معهما ينتهي بموافقته.
يصافح الزوج الشمالي الفتي الجنوبي، ويعانقه كابنه. كلاهما خسر في الحرب جزءًا منه، الزوج خسر ذراعه، والفتى خسر عائلته، والآن وجد كل منهما ما خسره في الآخر. قسمت وجد في باشو ذراعًا يتكئ عليها بدلًا من ذراعه المبتورة، وباشو وجد في قسمت أبًا بدلًا من أبيه الفقيد.
الحرب والاضطهاد والمرأة
يطرح المخرج “بهرام بيضائي” من خلال فيلمه ثلاث قضايا حيوية في المجتمع الإيراني؛ الأولى ويلات الحرب، والثانية الاضطهاد العرقي، والثالثة المرأة المُعِيلة. الحرب حرمت الفتى الصغير “باشو” من أهله، وجعلته يتيمًا بلا مأوى، وحينما نزح من الجنوب إلى الشمال، اُضطهد بسبب هيئته ولغته المختلفتين عن هيئة أهل الشمال ولغتهم.
على الرغم من مرور كل هذه السنوات على إنتاج الفيلم لا تزال قضية الاضطهاد العرقي والديني تطفو من حين لآخر على سطح المشهد السياسي في إيران حتى الآن، كما لا تزال المحافظات الجنوبية من البلاد، محل تجمع العرب والأكراد وأهل السُنة، تعاني من الإهمال الحكومي وافتقار الخدمات الأساسية.
أما المرأة، فقد صوَّرها الفيلم نموذجًا للمرأة الإيرانية المُعِيلة، تتولى رعاية الأسرة، وتقوم بعمل الزوج طيلة غيابه، وهي رؤية تناقض نظرة النظام الأبوي في إيران تجاه المرأة باعتبارها ظل الرجل.
هذا الطرح السينمائي لم يلق ترحاب النظام الإيراني، وطلبت الرقابة من بيضائي في رسالة عام 1986 بتغيير 74 مشهدًا في الفيلم حتى يُجاز عرضه، لكن بيضائي رفض، وبالتالي لم يحصل على تصريح العرض. من اعتراضات الرقابة المضحكة على بعض مشاهد الفيلم، ظهور المقاتلات الحربية في تتر البداية تتحرك من اليمين إلى اليسار، فاعتبرت الرقابة أن المشهد يُقصد به أن إيران مَن بادرت بالهجوم على العراق.
ظل فيلم “باشو” ممنوعًا من العرض حتى عرض في 12 فبراير 1990 بعد وساطة من الكاتب والناقد الفني البارز “رضا براهني”. وفقًا لآراء عدد كبير من السينمائيين والنقاد الإيرانيين، يعتبر هذا الفيلم أفضل فيلمٍ في تاريخ السينما الإيرانية.
حصد الفيلم العديد من الجوائز المحلية والعالمية؛ كان من أبرزها جائزة لجنة التحكيم الخاصة من “مهرجان الكرة الذهبية السينمائي” بأضنة Adana Golden Boll Film Festival – المُسمى آنذاك “مهرجان الفنون والسينما” Arts and Film Festival– خلال نسخته السادسة عام 1992، الدبلومة الفخرية من “رابطة النقاد المحترفين البلجيكيين” لاختياره كواحد من أفضل 5 أفلام في عام 1992، جائزة أفضل فيلم صوَّر دور المرأة الاجتماعي على الشاشة الفضية من “مهرجان پَروين اِعتصامي (Parvin E’etesami) السينمائي الدولي” بإيران خلال نسخته الخامسة عام ۲۰۰۹.
- آژانس شیشهای “الوكالة الزجاجية”
وفقًا لآراء عدد كبير من النقاد الإيرانيين، يحتل المرتبة الرابعة في قائمة أفضل 10 مخرجين في تاريخ السينما الإيرانية بعد الثورة، يتقدمه بالترتيب الثلاثي العالمي “أصغر فَرهادي”، و”داريوش مِهرجويي”، و”عباس كيارُستَمي”. كما يعد واحدًا من بين 9 سينمائيين إيرانيين تقلدوا وسام “المناضل الفخري” في مجال الثقافة والفن عن مجمل مسيرتهم الفنية. مع ذلك عادة ما يواجه المخرج الشهير “إبراهيم حاتمي كيا” عثرات كثيرة تضعها الرقابة الإيرانية أمام صناعة أفلامه على الرغم من مضامينها المتماشية مع أيديولوجية الثورة الإسلامية.
الحرب الإيرانية – العراقية هي المضموع الطاغي على أغلب أعمال حاتمي كيا، تناولها من زوايا عديدة واتجاهات مختلفة، مما جعله يستحوذ على نصيب الأسد في سينما الدفاع المقدس، ويوصف بأنه رائدها.
يمثل فيلم “آژانس شیشهای: الوكالة الزجاجية” ذُروة أعمال حاتمي كيا الناجحة، كما يعتبر أيقونة سينما الدفاع المقدس، والفيلم الأكثر تأثيرًا عليها فيما بعد.
تدور أحداث الفيلم حول “عباس (حبيب رضايي)”، أحد مقاتلي قوات التعبئة (البَسيج) بخُراسان، أُصيب في الحرب بشظية قذيفة، استقرت جوار الشريان السباتي. بإلحاحٍ من زوجته نرجس “(بیتا بادران)”، يتوجه إلى طهران من أجل الفحص الطبي. أثناء سيره في الشارع يلتقي صدفةً رفيقه في الحرب “الحاج كاظم (پَرویز بَرستويي)” Parviz Parastui الذي يعمل سائق أجرة على سيارته الخاصة، فيقله إلى طهران. يُشخِص الطبيب “بَهمن (صادق صفايي)” حالة عباس بأنها حرجة، وينصحه بالسفر إلى لندن في أسرع وقت ممكن حتي يستأصل الشظية. يبدي الحاج كاظم استعداده لتأمين تكاليف رحلة علاج عباس عن طريق بيع سيارته.
بسبب تأخير مشتري السيارة عن القدوم في الوقت المحدد إلى الحاج كاظم وعباس المنتظرين في وكالة السفر، يقترح الحاج كاظم على مدير الوكالة (فَرشید زارعي فرد) أن يأخذ مفتاح السيارة ووثائقها الرسمية رهنًا إلى أن يصل المشتري بالمال في مقابل الحصول على التذاكر، لكن المدير يرفض. يخبر الحاج كاظم مدير الوكالة بأن عباس من مقاتلي الحرب، علَّه يوافق، لكنه كلام الحاج كاظم يثير سخرية مدير الوكالة وتهكمه على الحرب والمحاربين. يشتاط الحاج كاظم غضبًا، ويهشم زجاج مکتب المدير الزجاجي، ثم يستولي على سلاح ضابط شرطة كان متواجدًا هناك، ويتخذ من عملاء الوكالة رهائن ليُجبِر المسؤولين على ترتيب سفره مع عباس إلى لندن.
سرعان ما تحاصر قوات الشرطة وكالة السفر، ويدلف إليها “أحمد كوهي (قاسم زارع)” و”سلحشور (رضا كيانيان)”، مسؤولا وزارة الاستخبارات، مطالبين من الحاج كاظم تسليم السلاح والإفراج عن الرهائن، لكنه يرفض، ويمهلهما حتى الساعة السادسة صباحًا ليحضرا سيارة تقله برفقة عباس إلى المطار. تنتهي المهلة المحددة دون أن تأتي السيارة، فيقوم الحاج كاظم بتزييف مقتل مدير وكالة السفر ليدفع المسؤولين إلى تلبية طلبه. نتيجة تفاقم الأوضاع، تنتاب عباس حالة من التوتر الشديد وتزداد حالته الجسمانية سوءًا.
في نهاية الأمر تصل السيارة، فيحمل الحاج كاظم عباس على كتفيه، ويهرع إليها. يقتحم رجال الشرطة وكالة السفر ويحررون الرهائن، ثم يتجهون إلى الحاج كاظم وعباس لإلقاء القبض عليهما.
في تلك الأثناء، يصل فجأة “أصغر (أصغر نقي زاده)”، أحد رفاق الحاج كاظم وعباس بمروحية، حاملًا مرسومًا ممهورًا من مسؤول رفيع المستوى بالدولة يأمر بنقل الحاج كاظم وعباس إلى المطار. يستقل الحاج كاظم وعباس الطائرة قاصدين لندن، لكن قبل أن تخرج الطائرة من المجال الجوي الإيراني، يلفظ عباس أنفاسه الأخيرة.
الوكالة الزجاجية من منع وزارة الإرشاد إلى إجازة مكتب الإرشاد
بسبب طرح مضامين سياسية والمطالبة بالمحاسبة والحث على المكاشفة واستخدام موتيفات أجنبية، لم تلق أفلام “إبراهيم حاتمي كيا” أعجاب مسؤولي السينما الإيرانية، كما واجه هذا المخرج صعوبات كثيرة في استخراج تصاريح الموافقة على إنتاج أفلامه إبان تقلد “عزت الله ضرغامي” منصب نائب وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي للشؤون السينمائية، فضلًا عن إدراج وزارة الثقافة فيلمي “بوى پيراهن یوسف: عبق قمیص یوسف” عام 1995، و”برج مينو” عام 1996 ضمن قائمة الأفلام الأقل جودة، مما أصاب حاتمي كيا بالإحباط الشديد، وجعله يبتعد عن عالم السينما ما يقرب من عامين، ويعمل في محل والده.
في تلك الفترة شرع حاتمي كيا في كتابة سيناريو فيلم “الوكالة الزجاجية” فاقدًا الأمل في تصويره، متحررًا من قيود الرقابة، مدفوعًا بالتعبير عن مشاعره الداخلية والظروف المحيطة به آنذاك.
بعد الانتهاء من كتابة السيناريو، قدمه إلى عدد من ذوي الخبرة من أجل أخذ الرأي والمشورة مثل “محمد بِهشتي الشيرازي”، الرئيس التنفيذي الأسبق لمؤسسة الفارابي السينمائية، و”عطاء الله مهاجراني”، نائب رئيس الجمهورية للشؤون القانونية والبرلمانية آنذاك. بعد قراءة السيناريو، وصف “بهشتي” إنتاج هذا الفيلم بأنه “انتحار سياسي”، وطلب “مهاجراني” من حاتمي كيا جمع كل نسخ السيناريو والتخلص منها لأن مثل هذه القصة قد تشكل خطرًا عليه.
بعد فوز الرئيس الإصلاحي “محمد خاتمي” بانتخابات رئاسة الجمهورية عام 1997، وتولي مهاجراني منصب وزير الثقافة، والمخرج “سيف الله داد” نائب وزير الثقافة للشؤون السينمائية، قدم حاتمي السيناريو إلى وزارة الثقافة آملًا في الحصول على الموافقة في ظل وجود حكومة ذات توجهات إصلاحية، وكذلك تغيير وجوه مُدراء السينما، لكن بسبب الأجواء السوداوية المهيمنة على الفيلم ونهايته المأساوية، رفضت لجنة إصدار التصاريح الموافقة عليه.
خلال ذلك الوقت، كان المنتج “حبيب الله كاسه ساز” يتولى منصب مدير عام إدارة الرقابة بوزارة الثقافة، وعلى معرفة سابقة بحاتمي كيا، ويثق به، حيث كان الاثنان يتعاونان في صناعة الأفلام بالحرس الثوري منذ عام 1982، فوقَّع تصريح الموافقة على إنتاج الفيلم على مسؤوليته الشخصية باعتباره مدير عام الرقابة دون النظر إلى رأي لجنة إصدار التصاريح الرافض. حينئذ اجتمع كاسه ساز مع حاتمي كيا، وأخذ منه وعدًا شفاهيًا بتغيير مشهد النهاية محل الخلاف.
ويذكر أحد مسؤولي السينما، أن موافقة كاسه ساز جاءت في إطار موافقة ضمنية من جانب المرشد الأعلى “عليّ خامنئي” بعد أن بعث حاتمي كيا رسالة إلى المرشد يشكو فيها ما لاقاه من تعنت في اِستخراج تصريح الموافقة على تصوير الفيلم. عقب اطلاع خامنئي على سيناريو الفيلم، قال بخصوص مشهد النهاية: “إذا أُوصدت كل الأبواب، فلن يُوصد باب القيادة. ألا يوجد زعيم في هذا الدولة يقول شيئًا يحل المشكلة؟”.
بناءً على كلمة “خامنئي” المشيرة إلى ذاته “القيادية”، أعاد حاتمي كيا صياغة مشهد النهاية كالتالي: تصل مروحية موفدة من قبل مسؤول رفيع المستوى (المرشد الأعلى)، تقل الحاج كاظم وعباس إلى المطار وتحل أزمتهما، بدلًا من وصول سيارة الاستخبارات لتلقي القبض عليهما.
يذكر وزير الثقافة الأسبق “محمد حُسین صفَّار هَرَندي” أن نهاية الفيلم من وجه نظر حاتمي كيا كانت تدعو إلى “التمرد” باعتباره السبيل الوحيد أمام البطل مما أحال دون حصول السيناريو على موافقة وزارة الثقافة، لكن كلمة خامنئي كانت دعوة إلى وجود حل دائمًا.
يُحسب إلى “عليّ خامنئي” أنه منح قبلة الحياة إلى أحد أهم الأفلام السياسية في تاريخ السينما الإيرانية عقب الثورة، رغم ما طال الفيلم من تغييرات حتى يرى أضواء الشاشة الفضية. بعد هذا السجال الطويل، بدأ حاتمي كيا تصوير وكالته الزجاجية في خريف عام 1997 دون قيد أو شرط.
أصداء إيجابية وجوائز إيرانية
عُرض فيلم “الوكالة الزجاجية” أول مرة ضمن فاعليات الدورة السادسة عشرة من “مهرجان فجر السينمائي الدولي” بإيران عام 1998، واستطاع تحقيق رقم قياسي في اقتناص جوائز المهرجان المُسماة “السيمُرغ البلورية”، حيث حصل على 9 منها كان من بينها؛ أفضل فيلم وسيناريو وإخراج (إبراهيم حاتمي كيا)، أفضل ممثل دور أول (پرويز برستويي)، أفضل موسيقى تصوريرية (مجيد اِنتظامي)، إلى جانب جائزة أفضل فيلم من وجه نظر الجمهور. كما حصد الفيلم جائزة أفضل “فيلم سياسي بعد الثورة” من “مهرجان فجر السينمائي الدولي” خلال دورته السابعة عشرة في 1999.
في عام 2008 اختارت “جمعية نقاد وكُتاب السينما الإيرانية” فيلم الوكالة الزجاجية كواحدٍ من بين أفضل 5 أفلام في تاريخ السينما الإيرانية بعد الثورة، وفي عام 2018 اختاره “مهرجان أفلام المقاومة الدولي” خلال دورته الخامسة عشر كأفضل فيلم في تاريخ سينما الدفاع المقدس.
حقق الفيلم نجاحًا ساحقًا مع بَدء عرضه بدور العرض الإيرانية في منتصف عام 1998، وصُنف كواحدٍ من بين الأفلام الأعلى إيرادًا في تاريخ السينما الإيرانية بعد الثورة.
صاحب هذا النجاح الجماهيري الكبير، إشادات واسعة من قبل النقاد، حيث يعتبر أغلبهم أن الوكالة الزجاجية فيلم متقن الصنع، شديد الصدق، استطاع خلق لحظات مثيرة سريعة الإيقاع. كما يعدونه واحدًا من أكثر الأفلام السياسية إثارة للجدل في تاريخ السينما الإيرانية، وأضحى مثالًا يحتذي به صُنَّاع الأفلام السياسية والاجتماعية ذات الطابع النقدي.
الحرب وقوات التعبئة وطبقات الشعب المختلفة
نستطيع القول إن فيلم الوكالة الزجاجية واحد من أهم الأفلام السياسية المعدودة في تاريخ السينما الإيرانية عقب الثورة، استطاع اجتياز خطوط حمراء لا تستطيع الأفلام الحالية اجتيازها بسهولة.
حاتمي كيا من خلال هذا الفيلم لا يدين الحرب الإيرانية – العراقية فحسب، بل يستنكر تعامل النظام الإيراني مع قوات التعبئة الذين شكلوا قوام الجيش في هذه الحرب.
قوات التعبئة أو كما تُعرف في إيران باسم “سازمان بسيج مستضعفين: وحدة تعبئة الفقراء والمستضعفين” هي قوات شعبية من المتطوعين المدنيين الذكور والإناث، تعتبر حاليًا أحد الوحدات “شبه العسكرية” التابعة للحرس الثوري، وتعمل تحت قيادته. تأسست هذه الوحدة بأمر من “الخُميني” في نوفمبر 1979، وأغلب أعضائها كانوا يوفدون إلى جبهة القتال طيلة الحرب الإيرانية – العراقية.
كان من الممكن أن يجعل حاتمي كيا بطلي فيلمه منتميين إلى الحرس الثوري أو الجيش الإيراني، لكنه قصد أن يجعلهما منتميين إلى مقاتلي التعبئة الذين آمنوا بمبادئ الثورة، وتطوعوا في الحرب عن قناعة، وضحوا بأرواحهم في سبيل الدفاع عن الوطن.
هؤلاء المقاتلون انتهت مهمتهم بانتهاء الحرب؛ منهم مَن ماتوا، وشُردت عوائلهم، ومنهم مَن باتوا عاجزين عائلين على ذويهم، ومنهم مَن حل بهم الفقر والفاقة. طوى النظام صحائفهم، وسلَّى الزمان ذكراهم كأنهم ما خطوا بدمائهم حاضر الأمة.
الوكالة الزجاجية من وجه نظر حاتمي كيا ترمز إلى “إيران الهاشة” عقب سنوات الثورة والحرب كزجاج سهل الكسر، يتصارع داخلها تيارات متباينة؛ بعضها يؤيد النظام الجديد، وبعضها يرفضه، والفريقان يشتركان في أمر واحد هو أن كل منهما يريد فرض رأيه على الآخر. في وكالة السفر نرى نماذج مختلفة من طبقات الشعب الإيراني الثرية والمتوسطة والفقيرة، تحتك ببعضها بعضًا، كل طبقة تمثل توجهاتها ومعتقداتها الخاصة، لكن أصحابها تجمعوا في مكان واحد، وجمعهم ظرف واحد.
أزمة الرهائن بين الوكالة الزجاجية والأرهاب والكباب وطلق صناعي
احتجاز رهائن دون قصد موضوع طُرح في عدد من الأفلام الأجنبية والعربية، لكن دعونا نتقصى هذا الموضوع في السينما المصرية صاحبة السبق في المنطقة العربية. في التحفة الفنية الخالدة “الإرهاب والكباب” عام 1992 للكاتب الكبير “وحيد حامد”، والمخرج المتميز “شريف عرفة”، يتوجه المواطن المطحون “أحمد فتح الباب (عادل إمام)” إلى “مُجمع التحرير” لنقل ابنيه من مدرسة بعيدة عن البيت إلى أخرى أقرب، فيصطدم بالبيروقراطية الحكومية وتقاعس الموظفين عن أداء عملهم، وينجرف به التيار إلى حمل مدفع أحد عساكر الحراسة بالمجمع، واحتجاز الموظفين كرهائن، ويصبح في نظر النظام “إرهابي”.
يرصد الكتاب “وحيد حامد” في إطار الكوميديا السوداء النطاعة والفساد والسلبية الناخرة في عظام الدولة المصرية، وسياسة النظام النعامية في التعامل مع الأزمات كأنها غير موجودة. في مجمع التحرير معقل البيروقراطية الحكومية ورمز النظام آنذاك، نرى شرائح وفئات متباينة من الشعب المصري مختلفة الآراء والمعتقدات مثلما رأينا في “الوكالة الزجاجية”. الفارق بين العملين هو أن الفيلم الإيراني يغلب عليه الطابع المأساوى، أما الفيلم المصري فيغلب عليه الطابع الكوميدي المشحون بخيبة الأمل.
في عام 2018، ظهر فيلم “طلق صناعي” من سيناريو وحوار الإخوة دياب “شيرين وخالد ومحمد”، وإخراج “خالد دياب”. تدور أحداث الفيلم في السفارة الأمريكية بالقاهرة حول مساعي الزوجين “حسن وهبة (ماجد الكدواني وحورية فرغلي)” من أجل الحصول على تأشيرة سفر إلى الولايات المتحدة كي تضع الزوجة الواشكة على الولادة مولدها هناك، ويحصل على الجنسية وفقًا للقانون الأمريكي، إلا أن هذه المساعي تؤول إلى الفشل، مما يدفع الزوج إلى الاستيلاء على سلاح موظف أمن السفارة، واتخاذ المتواجدين رهائن إلى أن تتناول الزوجة دواءً يُعجِل عملية الطلق، فتلد الطفل على أرض السفارة المحسوبة أرض أمريكية وفقًا للقانون الدولي.
الحبكة الميلودرامية أو “المشجاة” في “طلق صناعي” تجعله الأقرب إلى”الوكالة الزجاحية” عن “الارهاب والكباب”، لكن “آل دياب” يناقشون في إطار موضوع احتجاز الرهائن، قضية أعمق، ألا وهي الهجرة من الوطن في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية متردية، وتحقيق الحلم الأمريكي المتجسد في عيشة رغيدة وحياة مُترَّفة. في السفارة الأريكية الرامزة إلى دولة “الولايات المتحدة”، نرى نماذج مختلفة من شتى طبقات الشعب المصري، كل منها لها أسبابها الخاصة في الهجرة، وكل منها تَسلُك سبيلًا تعتقد أنه سيوصلها إلى تأشيرة السفر.
“الحاج كاظم” في “الوكالة الزجاجية”، و”أحمد” في “الإرهاب والكباب” أصبحا إرهابيين في نظر الحكومة، على الرغم من أنهما كانا يريدان طلبًا مشروعًا، قوبل باستخفاف من قبل النظام، أما “حسن” في “طلق صناعي”، فأصبح إرهابيًا في سبيل الفرار من وطن يستبيح آدميته ويهين كرامته.
تشترك الأفلام الثلاثة في أنها تدور بمكان واحد؛ وكالة السفر، مجمع التحرير، السفارة الأمريكية. كل بطل من أبطال هذه الأفلام تدفعه الصدفة البحتة إلى التحول من مواطنٍ مسالمٍ يراعي القانون إلى مجرمٍ مارقٍ ينتهك القانون.
ما بين الاقتباس وتوارد الخواطر يمثل كل من “الوكالة الزجاجية”، و”الإرهاب والكباب”، و”طلق صناعي” حالة مجتمعه، ووضع بلده، وظروف عصره، ويقدم لنا أنماطًا متباينةً من الشخصيات، كل واحد منها له مأساة تثير في نفوسنا مشاعر مختلطة ما بين الفرح والشجن، والتعاطف والقسوة، والحب والكره.
- اتوبوس شب “الحافلة الليلية”
بعيدًا عن وحشية الحرب وهمجيتها، يسلط فيلم “اُتوبوس شب: الحافلة الليلية” الضوء على العلاقة الإنسانية بين الجنود الإيرانيين والعراقيين.
الحافلة الليلية من إنتاج عام 2007، وتأليف “حبيب أحمد زاده”، وإخراج “كيومرث پور أحمد”، وهو مقتبس عن قصة قصيرة كتبها المؤلف نفسه بعنوان “سی و نه و یک اسیر: ۳۹ + 1 أسير”، صدرت ضمن المجموعة القصصية “داستانهاى شهر جنگى: حكايات مدينة الحرب” عام ۲۰۰۰. جميع قصص هذه المجموعة تدور حول الحرب الإيرانية – العراقية.
تدور أحداث الفيلم في إحدى ليالي السنة الثالثة من الحرب الإيرانية – العراقية حول شابين من قوات التعبئة الإيرانية، أحدهما فتى يافع يبلغ من العمر 18 سنة يُدعى “عيسى (مِهرداد صدیقیان)”، تطوع في الجيش وهو في سن 16 من عمره بعد مقتل أبيه في الحرب، والآخر أكبر سنًا يُدعى “عماد (أمير محمد زند)”، كان يدرس في لندن، ومع اندلاع الحرب، عاد إلى البلاد، وتطوع في الجيش. يُكلف الاثنان بنقل ما يقرب من 40 أسيرًا عراقيًا، كانوا قد وقعوا في الأسر أثناء القتال، إلى حامية عسكرية داخل الحدود الإيرانية.
يقتاد عيسى وعماد الأسرى العراقيين إلى حافلة يقودها رجل عجوز يُسمى “العم رحيم (خسرو شكيبايي)”. خشيةً من حُدوث تمرد، تُعصَّب أعين هؤلاء الأسرى، وتُصفَّد أيديهم حتى لا يدركون كثرة عددهم مقارنة بقلة عدد الإيرانيين المرافقين لهم. تبدأ الحافلة في التحرك ليلًا، لكن أثناء الطريق تقع مجموعة من الحوادث غير المتوقعة.
بهيار (كوروش سليماني) أسير عراقي – كُردي الأصل كان يدرس الطب في لندن، وعاد إلى الوطن من أجل حمل عائلته إلى بر الأمان بعيدًا عن وطيس الحرب، لكنه جُند في الجش العراقي قسرًا. يحل عماد عصابته كي يساعد أسيرًا آخر مصابًا بالصرع، فيكتشف أنه الشخص الذي التقى به في رحلة قطار أثناء دراسته في لندن قبل شروع الحرب.
بعد فترة من المسير، يفقد عماد بصره إثر إصابته بشظية قذيفة، فيُضمِد بهيار جرحه، كما يلقى أحد الأسرى حتفه إثر انفجار، فيُدفن في رباطٍ وسط الطريق. بسب جدال عيسى والعم رحيم الدائم، يضلان الطريق حينًا، ويهتديان إليه حينًا آخر.
ينفجر إطار الحافلة، فيطلب العم رحيم وعيسى من أسير عراقي – إيراني يجيد الفارسية يُسمى “فاروق (محمد رضا فروتن)” أن يساعدهما في تغيير الإطار. فاروق ولد من أب عراقي وأم إيرانية، له من الأشقاء ثلاثة ذكور وأنثى واحدة، فر اثنين منهم خوفًا من بطش رجالات الرئيس العراقي “صدام حسين”، وأُلقي القبض على الثالث بصحبة شقيقته، وحُكِم عليهما بالإعدام.
عندما تُرفع العصابة عن عينيّ فاروق، ويتضح له عدد الإيرانيين القليل، يطلق عيسى عدة أعيرة نارية في الهواء متظاهرًا بقتله، ثم يكمم فمه حتى لا ينبس ببنت شفة، ويدرك الأسرى الآخرون ما اكتشفه.
في تلك الأثناء، ينتهز ضابط عراقي كان عضو في حزب البعث (أحمد کاوَري) Ahmad Kavari الفرصة، ويستل مُدية كان يُخفِيها ببيادته متخذًا من عماد الكفيف رهينة، ويجرد عيسى من سلاحه، ثم يسيطر على الحافلة بعد اشتباك مع العم رحيم. عندما يسقط العم رحيم خلال هذا الاشتباك نكتشف أنه ذو ساق صناعية.
ينشب شجار بين الضابط العراقي وفاروق، نفطن منه أن هناك عداء سابق بينهما، وأن عددًا من الأسرى المستقلين الحافلة ليسوا عراقيين ولا صلة لهم بالحرب، لكنهم اُستقدموا من بعض الدول العربية إلى جبهة القتال كمرتزقة، لذا یُبقِي الضابط العراقي على أيديهم مغلولة خشيةً من تمردهم.
تدلف الحافلة إلى حقل ألغام، فيستخدم الضابط العراقي كل من عيسى وعماد بعد تعصيب عيونهما وتقييد أيديهما ككبش فداء، يسترشد به موضع الألغام. ينجح فاروق في تجريد الضابط العراقي من سلاحه، لكن في تلك الأثناء، يلقى عماد حتفه في انفجار لغم.
تصل الحافلة في صبيحة الليلة الغاصة بالأحداث إلى محطتها النهائية، ونرى “ريحانة (إلِناز شاکر دوست) زوجة عماد تنتظره هناك كي تخبره بأنها حُبلى.
جوائز محلية ودولية
بدأ عرض “الحافلة الليلية” في 17 نوفمبر 2007 بدور العرض الإيرانية، لكنه لم يستطع تحقيق نسبة مشاهدة عالية، حيث جاء ترتيبه في المركز السادس والعشرين بقائمة الأفلام الأعلى مشاهدة عام 2007. مع ذلك احتفى النقاد به احتفاءً بالغًا، وحصد العديد من الجوائز المحلية والعالمية، كان أهمها: جائزة أفضل مخرج (كيومرث پور أحمد) في مسابقة الأفلام الأجنبية من “مهرجان الديك الذهبي والزهور المائة السينمائي الصيني” The China Golden Rooster and Hundred Flowers Film Festival خلال دورته السابعة عشرة عام 2008. جائزة خاصة من لجنة تحكيم جوائز “شاشة آسيا والمحيط الهادئ” The Asia Pacific Screen Awards بأستراليا خلال دورتها الأولى عام 2007. الدبلومة الفخرية أفضل ممثل دور أول (خسرو شكيبايي) من “مهرجان فجر السينمائي الدولي” خلال دورته الخامسة والعشرين عام 2007. جوائز أفضل فيلم (المنتج مهدي هُمايون فر)، وأفضل سيناريو وحوار (كيومرث پور أحمد وحبيب أحمد زاده)، وأفضل ممثل دور أول (خسرو شكيبايي) من “المهرجان القومي للسينما الإيرانية (جشن خانه سينمای ایران)” خلال دورته الحادية عشرة عام 2007.
فيلم استثنائي في تاريخ پور أحمد وسينما الدفاع المقدس
يعد فيلم “الحافلة الليلية” عملًا فارقًا في مسيرة المخرج “كيومرث پور أحمد” الفنية، فقد جاء بعد فيلمين لم يحققا النجاح المتوقع على المستويين الجماهيري والنقدي، وهما “نوك برج: حفة البرج”، و”گُل یخ: زهرة الثلج” عام 2005، لذا يعتبر عدد كبير من النقاد الإيرانيين أن “الحافلة الليلية” أعاد “پور أحمد” إلى مساره الصحيح، ومثل امتدادًا لنجاح فيلم “شب يلدا: الليلة الطويلة” عام 2001.
پور أحمد نفسه يعتز بهذا الفيلم ويحظى عنده بمكانه خاصة، حيث يقول عنه: “حينما طالعتُ كتاب (حكايات مدينة الحرب)، كانت قصة الفتى الذي يصطحب 40 أسيرًا من عبادان (آبادان) إلى معشور (ماهشهر)، خلابة وجذابة لدرجة أنها دفعتني إلى استكمالها كأنها تُحدِثني بأن أحولها فيلمًا. لقد أعدتُ كتابة سيناريو وحوار (الحافلة الليلية) 5 مرات خلال 9 أشهر”.
الحافلة الليلية لم يكن فيلمًا استثنائيًا في مسیرة پور أحمد الفنية فحسب، بل غدا أيضًا علامةً مضيئةً في تاريخ سينما الدفاع المقدس، حيث تزعم تيارًا جديدًا في هذه النوعية من الأفلام.
نحن هنا أمام منظور آخر للحرب الايرانية – العراقية لا يُصوِّر العلاقة العدائية بين جنود البلدين، لكنه يُصوِّر العلاقة الإنسانية بينهما عندما اِبتعدوا عن ميدان المعركة، وتواصلوا فكريًا ووجدانيًا. هذا المنظور عمد پور أحمد إلى ترسيخه طوال أحداث الفيلم قوليًا من خلال الحوار، وفعليًا من خلال السيناريو.
من بداية الفيلم يُعلِي الأبطال من قيمة الإنسان والإنسانية رغم التقاتل والاقتتال، فبعدما أراق جندي التعبئة الإيراني “عيسى” دماء عدد من الجنود العراقيين داخل خندق، كانوا قد قتلوا رفيقه توًّا، يقول باكيًا مشيرًا إليهم: “لمَ نقتل؟، إنني أحسُ، إنني أشعرُ، إنني إنسان”. ويقول “عم رحيم” السائق: “الأمم لا تعادي بعضها بعضًا”. على الجانب الآخر يختم الأسير العراقي – الإيراني “فاروق” الفيلم بعبارة “هنا شط وهناك شط”، في إشارة منه إلى نهر (شط العرب) الفاصل بين إيران والعراق.
إلى جانب هذا الحوار النابذ للحرب الجانح للسلم، رسم پور أحمد شخصيات وخلق أحداثًا تجسد العلاقة الطيبة بين الجنود الإيرانيين والعراقيين خلال رحلتهم الليلية. عماد الإيراني كان على معرفة ببهيار العراقي قبل شروع الحرب، حيث جمعتهما رحلة قطار في لندن، فتصاحبا وتآلفا مثلما يأنس غريبان لبعضهما في السفر، ولما اِلتقيا في الحافلة مصادفةً، تعاونا معًا ضاربين بعداء بلديهما عرض الحائط.
هذه العلاقة الطيبة القائمة على الصدفة تبرُز بشكل أعمق في شخصية “فاروق” وتعامله مع الطرف الإيراني، فهو يحمل الجينات العراقية من أبيه والجينات الإيرانية من أمه، تتجسد في كيانه الهويتان الإيرانية والعراقية، مثلما جاء على لسانه “هنا شط وهناك شط” أي أنهما ضفاف “نهر واحد” من المستحيل اِفتراقهما. كما برر محابته إلى الطرف الإيراني بسبب ما لاقته عائلته من قهرٍ وجورٍ على يد النظام العراقي.
في هذا السياق، لم يغال پور أحمد في تصوير المعارك، وربأ بنفسه عن الانغماس في استعراض المشاهد العنيفة والدموية المتعارف عليها في الأفلام الحربية كأنه يرفع صيحة سلام من قلب طبول الحرب.
هذه المباشرة في الحوار والتصوير والحبكة الدرامية الداعية إلى إعلاء قيمة الإنسان عرَّضت الفيلم إلى انتقادات حادة، واعتبر النقاد الحوار غير منطقي، والسيناريو شبه مستحيل، والحبكة ضعيفة؛ فكيف نقتل الآخر ونبكي عليه؟ وكيف يتعاون السجين مع الجلاد؟ وكيف يتحول العدو إلى صديق بين ليلة وضحاها؟.. هذا الرأي يتسق مع واقع الحياة، وبه من الصواب أكثر ما به من الخطأ، لكن پور أحمد كان يريد إخراج فيلم مختلف، يقدم من خلاله رؤية إنسانية للحرب بعيدة عن الرؤية النمطية السائدة في أغلب أفلام تلك الفترة، ومن هنا جاءت المباشرة في الطرح من أجل توصيل فكرة المخرج إلى الجمهور دون مواربة.
على الرغم من أن الأحداث تدور كلها في دهماء الليل، عمد پور أحمد إلى تصوير الفيلم بتقنية “الأبيض والأسود”، مضفيًا على الصورة أجواء قاتمة تجسد الحالة المأساوية المهيمنة على الأحداث من خطر وخوف وموت.
معظم مشاهد الفيلم صُورت في الحافلة التي باتت وطنًا جديدًا يجمع الإيرانيين والعراقيين، تتلاشى فيه الحدود الجُغرافية، ويتحول فيه العدو إلى صديق، ويتجلى فيه معنى الإنسان.
في النهاية نستطيع القول إن الرؤية الإنسانية التي طرحها پور أحمد في “الحافلة الليلية”، جعلت مخرجو أفلام الدفاع المقدس من بعده يعزفون نغمة أخرى تخاطب في الإنسان سُمُوّه، وتعزف عن دُنُوّه.
- ملکه “الملكة”
فوق النغمة الإنسانية التى عزفها فيلم “الحافلة الليلية”، يعزف فيلم “ملكه: الملكة” النغمة نفسها لكن من مقام آخر يصحبنا إلى عالم خيالي يهيج بالأفكار الفلسفية. الفيلم من إنتاج عام 2012، وتأليف وإخراج “محمد عليّ باشه آهنگر” Mohammad Ali Bashe Ahangar، وشارك في كتابته “محمد رضا جوهري”.
في أواخر الحرب الإيرانية – العراقية يتولى الجندي “سياوش Siavosh (میلاد کي مرام)” مَهمة الحراسة والمراقبة في المنطقة الحدودية على جبهة القتال، لكنه يمقت عمله المتواضع، ويود أن يثبت إلى رؤسائه قدرته على القيام بعمل أكثر أهمية. بالصدفة البحتة، يجد مدخنة شاهقة بمصفاة نفط “عبدان”، تشرف على كمائن العدو ومواقعه الحيوية بوضوح تام، فيعتبرها فرصة ذهبية يثبت بها كفاءته ويكبد العدو خسائر فادحة. عندما يعتلي المدخنة، يجد بها جثة جندي يُدعى “جَمشيد (مصطفى زماني)”، وإحداثيات العدو، ومناظير المراقبة، وكبائن الاتصال بالوحدة العسكرية، فيدرك أن هذه المدخنة كانت محل الحارس السابق، واُستشهد بها. يبدأ سياوش في إبلاغ قادته بنقاط تمركز القوات العراقية، لكن مع أول ضربة توجهها القوات الإيرانية إلى القوات العراقية، تتبدَّى لسياوش روح الحارس السابق جمشيد، وتقول له: “إن هذه الحرب غير مجدية، وأن أعداءنا بشر مثلنا”. تتحول الفرصة التي منحت سياوش القدرة المطلقة على القضاء على العدو، إلى نقمة ينوء بحملها، تُثير حيرته بين قتل الأعداء أو السماح لهم بالحياة.
رقم قياسي من الجوائز في المهرجانات الإيرانية
حقق فيلم “الملكة” نجاحًا ساحقًا، ومن الممكن اعتباره واحدًا من أنجح أفلام سينما الدفاع المقدس خلال العقدين الأخيرين. شارك الفيلم في العديد من المهرجانات الدولية والإيرانية، وأحرز رقمًا قياسيًا في الحصول على الجوائز، كان أهمها جائزتي “السلام وحقوق الإنسان” و”لجنة التحكيم الخاصة” من “مهرجان الدين اليوم السينمائي” Religion Today Film Festival بمدينة تورنتو الإيطالية خلال نسخته السادسة عشرة عام 2013، وكانت لجنة التحكيم قد علقت أثناء منح جائزتها الخاصة للفيلم قائلةً: “إن تجسيد الحرب الإيرانية – العراقية قرار مهم وشجاع في حد ذاته، فالقدرة على خلق صور سريالية مفرحة في بعض الأحيان، وحزينة في كثير من الأحيان، ومليئة بالشكوك الأخلاقية في أغلب الأحيان هي واحدة من إنجازات الفيلم الرئيسة، لذا قررنا منح جائزة خاصة إلى الفيلم الإيراني (الملكة)”.
أما عن المهرجانات الإيرانية، فقد رُشح الفيلم إلى نيل 14 جائزة عن فئات مختلفة من “مهرجان فجر السينمائي الدولي” خلال دورته الثلاثين عام 2012، لكنه حصل في النهاية على 3 جوائز فقط؛ وهي: جائزة “السيمُرغ البلورية” أفضل موسيقي تصويرية (حُسین عليّ زاده)، وجائزة “السيمُرغ البلورية” أفضل تصميم ديكور وملابس (عباس بُلوَندي) Abbas Bolvandi، والدبلومة الفخرية أفضل مؤثرات بصرية (حسن إيزدي).
كما حصد الفيلم 4 جوائز من “مهرجان أفلام المقاومة الدولي” خلال دورته الثانية عشرة عام عام 2012؛ وهي: جائزة أفضل فيلم في المسابقة الدولية، وجائزة أفضل ممثل دور أول (ميلاد كي مرام)، وجائزة أفضل مؤثرات خاصة (مُحسن روز بهاني)، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة لمدير التصوير (علي رضا زرين دوست).
واستطاع الفيلم اقتناص أغلب جوائز “المهرجان القومي للسينما الإيرانية” خلال دورته السادسة عشرة عام 2014، حيث بلغ عددها 11 جائزة؛ كان أبرزها: جائزة أفضل فيلم (المنتج أبو القاسم حُسيني)، جائزة أفضل مخرج (محمد عليّ باشه آهنگر)، جائزة أفضل ممثل دور أول (میلاد کي مرام).
الشكوك الأخلاقية
يقوم فيلم “الملكة” على فكرة الشك لدى الإنسان؛ ما هو الصواب وما هو الخطأ؟، ما هو الصالح وما هو الطالح؟ ما هي معايير الحق وما هي الباطل من وجهة نظر الأنا والآخر؟ هل قتل العدو دون مواجهة مباشرة شكل من أشكال الدناءة أم شكل من أشكال الحيل الإستراتيجية المبررة في الحروب؟ كلها شكوك راودت البطل “سياوش”، وعبثت بذهنه، وجعلته يسقط في غياهب الحيرة ما بين الأقدام على القتل أو التراجع عنه.
الحرب الإيرانية – العراقية لم تكن حربًا بغرض الغزو، لكنها كانت بغرض فرض السيطرة على منطقة الخليج العربي بحجة النزاع على الحدود المائية (نهر شط العرب)، ذكَّى نيرانها أطراف خارجية من أجل استنزاف قوى الدولتين آنذاك. طوال ثماني سنوات لم تطأ قدم جندي إيراني أو عراقي أرض الطرف الآخر، واقتصرت المواجهات العسكرية على المناطق الحدودية بين البلدين دون تحقيق أية مكاسب، أي أن كل من الجيشين الإيراني والعراقي كان يحارب على أرضه.
هذه الفكرة بلورها المخرج “باشه آهنگر” في العديد من مشاهد الفيلم؛ من بينها مشهد تظهر فيه روح الحارس “جمشيد”، وهي تُثنِي “سياوش” عن قتل جندي عراقي جريح، كان رفاقه ينقلونه إلى سيارة الإسعاف، ثم تؤنبه في المشهد التالي على التقاعس عن قتل هذا الجندي؛ علَّه يكون قد قتل أحد الجنود الإيرانيين ويتَّم أسرته، مما يوقع سياوش في براثن عذابات الشك فيما هو صائب وما هو خاطِئ؟
في مشهد آخر يعتبر واحدًا من أجمل مشاهد الفيلم، يمنع سياوش ضابطًا عراقيًا رفيع المستوى من الانتحار، مسه الجنون عقب مصرع كتيبته بأكملها أمام عينيه. إقدام سياوش على هذه الفعلة من وجهة نظره كان نوعًا من التكفير عن الذنب بعدما قدم إحداثيات هذه الكتيبة إلى قادته، وتم قصفها.
الروح أو الشبح الذي ظهر في الفيلم يُملِي على البطل أفعاله، يرمز إلى الضمير الإنساني، ويمثل قوى الخير والشر المتصارعة داخل النفس البشرية. الحوار المتبادل بين البطل والروح هو حوار بين الوعي واللاوعي، تتجلى فيه شكوك الإنسان، ومخاوفه، ومشاعره المتناقضة المكنونة في أعماق ذاته. هذه الروح الشفافة تستشرف المستقبل، وتخبر البطل بأن الحرب لن تسفر عن نتائج سوى موت آلاف العسكريين والمدنيين من الجانبين، مما يجعل البطل يتخذ قرارات تتنافى مع الواقع القائم، لكنها تتوافق مع المبادئ الإنسانية.
هذا الخيال منح الفيلم منحىً منطقيًا على عكس فيلم “الحافلة الليلية” الذي واجه انتقادات عديدة بسبب تغير مشاعر الجنود الإيرانيين تجاه أقرانهم العراقيين من العداوة إلى الصداقة في طرفة عين. المبرر الدرامي هنا مجيء شخص من المستقبل ممثلًا في “روح الحارس” يُنبِأ البطل بعبثية الحرب.
إيران الملكة الخالدة
ينتهي الفيلم بمشهد رائع تظهر فيه جُثة سياوش بعد مصرعه في إحدى عمليات القصف المدفعي المدمرة، ويقف على حافة المدخنة حارس جديد يطالع جبهة العدو، ثم يلتفت شاخص البصر إلى الجثة شبه المتحللة، وفي خلفية المشهد يتهادى إلينا صوت سياوش وهو يتحدث إلى الطفل “سامي (دانيال حسناوي)” الذي ظهر في بداية الفيلم راكبًا الدرَّاجة مع سياوش، قائلًا: “هل تسمع ذلك يا سامي؟ أتعتقد أن الله يوحي إلى النحل؟ أيتحدث إليه إذًا؟ كل النحل يلسع، لكن (نحل العسل) وحده يختلف عن باقية أنواع النحل، أتعرف ما هو الفرق؟ إنه يموت حينما يلسع. لا أعرفُ الآن.. أيعلم أنه إذا لسع يموت أم لا!! لو يعلم، فلمَ يلسع؟ ما بين حياته وخليته، يختار نحل العسل خليته، وحدها فقط ملكة النحل إن لسعت فلن تموت، حيث تبقى لتتكاثر الخلية”.
ملكة النحل هي إيران، والخلية هي الأرض، والنحل هو الشعب، وثلاثتهم لا يستطيعون العيش دون بعضهم بعضًا. ملكة النحل لا تستطيع العيش دون خلية غاصة بالنحل الشغَّال، والنحل لا يستطيع العيش دون ملكة، وكلاهما لا يستطيعان العيش إلا في خلية. موت ذكور النحل مرهون بتلقيح الملكة حتى تظل الخلية في حالة تكاثر أو بمعنى أدق قائمة، فبعد عملية التزاوج، تنفصل أعضاء الذكور التناسلية في جسد الملكة، مما يؤدي إلى وفاتها سريعًا، أي أن ذكور النحل تضحى بنفسها من أجل توالُد الخلية وبقائها.
هذا الصورة الخلاَّقة يتجلى فيها معنى الوطن، حيث يضحي أبناؤه بأرواحهم في سبيل حمايته والحفاظ عليه، وتلك التضحية ستظل مستمرة إلى أبد الآبدين حتى يظل الوطن قائمًا، شامخًا، مقتدرًا.
كان من الممكن أن يكتفي المخرج “باشه آهنگر” بالاسم الذي اِنتقاه لفيلمه ناعتًا به (إيران)، لكن المونولوج الذي ألقاه البطل في نهاية الفيلم، أضفى على الاسم بُعدٌ عميقٌ بلورته كتابة كلمة (الملكة) على صدر الأفيش في شكل خلية نحل. أما ظهور حارس جديد في المشهد يؤكد استمرار أبناء إيران في التضحية بأنفسهم من أجل حماية الوطن، فهم حُرَّاسه الدائمون، يموت واحد يأتي غيره.
إن فيلم “الملكة” واحد من الأفلام المميزة في تاريخ سينما الدفاع المقدس، سيبقى خالدًا في ذاكرتها، فقد نجح “باشه آهنگر” في تصوير الحرب الإيرانية – العراقية من منظور إنساني فريد لا يخلو من مضمون الفداء والإيثار، يمُدُّ جسرًا بين الحرب واللاحرب عَلِق بمنتصفه البطل بين الشك واليقين.
- دِرخت گِردو “شجرة الجوز”
يُحكى في القصص الشعبي الإيراني أن: إذا قُتل طفل برئ جورًا، ودُفن أسفل شجرة، فإن روحه الطاهرة ستحل في جسد طائر، مُغرِّد، جميل، ويجتمع بأهله ثانيةً…
خلال الحرب الإيرانية – العراقية، استخدم “صدام حُسين” الأسلحة الكيميائية في قصف إيران؛ من بينها غاز الخردل القاتل الناجم عنه دخان سام يسبب حروقًا وتقرحات جلدية خطيرة، وأضرارًا بالغة بالأعين والرئتين والأغشية المخاطية والأعضاء الداخلية للإنسان، وتشنجات عصبية حادة قد تؤدي إلى الموت السريع، بالإضافة إلى خطر الإصابة بالسرطان وحدوث تغييرات وراثية على المدى البعيد.
في 28 يونيو 1987، قصفت القوات العراقية قنابل غاز الخردل على 4 مناطق مكتظة بالسكان في مدينة “سَردَشت” الكُردية الواقعة بمحافظة أذربيجان الغربية شمال غربي إيران، راح ضحية هذا القصف 110 مدنيًا، وتعرض 8 آلاف شخص إلى استنشاق قدر كبير من الغاز السام لا يزال الكثيرون منهم یعانون من آثاره الحادة حتى الآن.
في ديسمبر 2005 عقدت محكمة العدل الدولية في (لاهاي) جلسة محاكمة تدين جرائم الحرب والإبادة العرقية، شارك فيها بنَّاءٌ كُرديٌ يُدعى “قادر مولان پور”، الشهير باسم “مام قادر” أي “العم قادر” بالكُردية، من أهالي قرية “رَشة هُرمة”، كشاهد على قصف مدينة “سردشت” بالسلاح الكيميائي، وحُكم على رجل الأعمال الهولندي “فرانس ڤان أنرات” Frans van Anraat بالسجن 17 عامًا لاتهامه ببيع مواد خام إلى نظام صدام حُسين خلال حقبة الثمانينيات، اُستخدمت في إنتاج الأسلحة الكيميائية.
مام قادر فقد زوجته )مريم( وابنته (شاهين) وابناه (ناصر، ومالمال) تباعًا عقب قصف قريته. كانت مريم حُبلى في بنتٍ، وبسبب إصابتها البالغة، وضعت مولدتها مبكرًا، ثم وافتها المنية، فانتقلت المولدة إلى مستشفى بتبريز. في تلك الأثناء، كان مام قادر يدفن أبناءه في القرية، ولما عاد وعلم بوفاة زوجته، توجه إلى تبريز يتقصى أمر ابنته. على مدار ما يقرب من 30 عامًا راح يبحث عن ابنته آملًا في العثور عليها، لكنه لم يجدها مطلقًا حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى في 31 ديسمبر 2016.
في سبتمبر 2023 أزاح عُمدة سردشت “کامل رسولي” الستار عن تمثال نصفي لمام قادر نُصب في أحد ميادين مدينة سردشت الرئيسية بحضور جمع من المسؤولين الإيرانيين وأسر ضحايا القصف الکیمیائي. هذا التمثال نحته المثَّال الكُردي “هادي ضياء الديني” كرمز إلى تضحيات أهالي سردشت ومقاومتهم إبان الحرب الإيرانية – العراقية.
قصة حياة “مام قادر” تحولت إلى فيلم سينمائي عام 2020 بعنوان “دِرخت گِردو: شجرة الجوز” من إخراج “محمد حُسين مهدويان”، وسيناريو وحوار “إبراهیم أمیني” و”حُسین حَسني”، ولعب دور مام قادر الممثل الإيراني العالمي “پَيمان مَعادي”، وشاركه البطولة مِهران مُدیري ، ومینا ساداتي، ومینو شریفي.
شارك الفيلم في الدورة الثامنة والثلاثين من “مهرجان فجر السينمائي الدولي” عام 2020، وحصل كل من مهدويان على جائزة “السيمُرغ البلورية” كأفضل مخرج، ومعادي على جائزة “السيمُرغ البلورية” كأفضل ممثل دور أول. كما شارك الفيلم في عدد من المهرجانات الدولية ببعض الدول الآسيوية.
مَثَّل “شجرة الجوز” إلى جانب “خورِشید: الشمس” للمخرج “مجيد مجيدي”، و”یلدا؛ شبى براى بخشش: يلدا؛ ليلة الغُفران” للمخرج “مسعود بخشي” السينما الإيرانية في النسخة الثالثة والتسعين من جوائز الأوسكار الأمريكية عام 2021، لكن لم يوفق أيٌّ من الأفلام الثلاثة في اقتناص جائزة أفضل فيلم أجنبي.
الصبغة الكُردية
فيلم “شجرة الجوز” يختلف عن الأفلام السابقة في أنه يسرد لنا قصة أحد ضحايا الحرب الإيرانية – العراقية، وهي قصة واقعية بطلها مواطن مدني ينتمي إلى الأقلية الكُردية، وليس رجلًا عسكريًا مثلما اِعتادت سينما الدفاع المقدس تقديم أفلامها.
الأكراد ثالث أكبر مجموعة عرقية في إيران بعد الفُرس والأذربيجانيين، فوفق إحصائيات تقديرية أُجريت عام 2014، يبلغ عدد الأكراد في جميع أنحاء إيران 8 مليون نسمة، أي ما يعادل 10% من إجمالي الشعب الإيراني. يتمركز الأكراد في محافظات کُردستان، وکرمانشاه، وعیلام، وأجزاء من محافظتي أذربیجان الغربیة وخُراسان الشمالیة، وعدد من المحافظات الأخرى، ويتحدثون اللغة الكُردية، ويتبع أغلبهم المذهب السُني الشافعي إلى جانب المذهب الشيعي الاثني عشري، ويتميزون بزي وتراث ثقافي وعادات وتقاليد خاصة بهم.
حرص المخرج “محمد حسين مهدويان” على إظهار الطابع الكُردي الخاص بالبطل وقريته، ولم يقم بتفريسه على سبيل الاستسهال، فالممثلون يتحدثون الكُردية، ويرتدون ملابس كُردية، والموسيقى التصويرية صاغها الموسيقار “حبيب خَزايي فر” بلمسات كُردية، وشارك فيها بالعزف على الكمنجة الفنان الكُردي “أردِشير كمكار”. كل هذا أضفى على أجواء الفيلم هالة من المصداقية تتواءم مع القصة الواقعية.
من أجمل مشاهد الفيلم وأشجاها، وأوقعها أثرًا، حمل مام قادر أطفاله الثلاثة إلى حمام عمومي ووضعهم تحت مِنضَحة الماء البارد عنوة وهم يصرخون من شدة الألم كي يغتسلوا من آثار التقرح الجلدي بسبب تعرضهم إلى غاز الخردل، وذلك بعدما رفضت مستشفى “28 بهمن” بتبريز استقبالهم قبل الاغتسال خوفًا من تعرض المرضى إلى التلوث الكيميائي.
مشهد قاعة محكمة العدل الدولية في نهاية الفيلم يحمل في طياته رسائل عديدة لا تقتصر على إبراز فجيعة مام قادر فحسب، بل تسلط الضوء بشكلٍ مبطنٍ على وضع الأكراد في إيران باعتبارهم أقلية عرقية تواجه أشكال عديدة من الاضطهاد وطمس الهوية. بعدما ينتهي مام قادر من الإدلاء بشهادته على الحادثة ورواية قصته، يتعجب القاضي من أمله في العثور على ابنته بعد مرور 30 عامًا، فيجيبه قائلًا: “نحن الأكراد إذا ما كان لدينا أمل، لكُنا مُحِينا سريعًا”.
شجرة الجوز في القصص الشعبي الإيراني
استلهم المخرج “مهدويان” اسم الفيلم من القصص الشعبي الإيراني مضفرًا أحد موتيفاته الشهيرة في ثنايا الأحداث بشكل أكثر من رائع. شجرة الجوز كما تظهر منذ لحظات الفيلم الأولى شجرة وارفة على ضفاف نهر بقرية “رَشة هُرمة”، كانت “مريم (مينو شريفي)” زوجة مام قادر تستظل بها، والأطفال يلعبون حولها، منتظرين عودة الأب من العمل كل يوم، لذا أصر مام قادر على دفنهم أسفل هذه الشجرة على الرغم من صعوبة الرجوع إلى القرية بعدما فُرض عليها الحجر الصحي جراء التلوث الكيميائي، وبعد وفاة مام قادر، قام أصدقاؤه بدفنه إلى جوار زوجته وأبنائه. على هذا النحو جمعت شجرة الجوز شمل هذه الأسرة المنكوبة بعدما فرقتها الأقدار.
عن الأشجار رُويت أساطير عديدة في التراث الشعبي الشرقي والغربي؛ كان من أشهرها أن الطفل البرئ الذي قُتل ظلمًا وعدوانًا، ودُفن أسفل شجرة، ستحل روحه الطاهرة في جسد طائر، مغرِّد، جميل، ويجتمع بأهله مرة أخرى.. هذه الأسطورة نطالعها في القصة الإيرانية المعروفة “بلبل سرگشته: العندليب الضال” مثلما رواها رائد جمع القصص الشعبي الإيراني والإذاعي الشهير “صبحي مهتدي”، والقصة الألمانية “شجرة العَرعَر” The Juniper Tree، أو “شجرة اللوز” The Almond Tree مثلما رواها جامعا القصص الشعبي الألماني الأوسع صيتًا في العالم أجمع “الأخوان جريم” Brothers Grimm.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر.