باريس – (رياليست عربي): الجميع يعاني من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي نعيشها حالياً، الغني والفقير، القادر وغير القادر، على مستوى الفرد والأسرة والدول والحكومات والشعوب.
فمنذ بداية جائحة كورونا في نهاية عام 2019، والتي لم يتعافَ منها العالم بعد، زادت المعاناة والمشاكل والصعوبات منذ نشوب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في الرابع والعشرين من شهر فبراير من العام الجاري.
أصبح العالم يعاني من أزمات سياسية وغذائية وصحية واجتماعية وثقافية واقتصادية، في شتى مناحي الحياة، وهذه ليست المرة الأولى التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي لأزمات شديدة، سوف نستعرض أشهرها في محاولة لاسترجاع الماضي، والاستفادة منها فيما يمر به العالم بظروف مشابهة اليوم وهي:
أزمة الإئتمان 1772
بدأت هذه الأزمة في لندن وانتشرت في عموم أوروبا، وذلك عندما كونت بريطانيا ثروة هائلة من خلال ممتلكاتها الاستعمارية وتجارتها في فترة 1760.
خلق هذا حالة من الإفراط في التفاؤل، أفضت إلى التوسع الائتماني السريع من قبل العديد من البنوك البريطانية، وقد انتهى هذا التفاؤل بشكل مفاجئ في 8 يونيو 1772، عندما فر ألكساندر فورديس، أحد شركاء البنك البريطاني “Neal, James, Fordyce and Down” إلى فرنسا، هرباً من سداد ديونه.
بعدها، انتشرت أنباء الهروب وعمت حالة من الفزع في إنكلترا، حيث بدأ الدائنون في تشكيل طوابير طويلة أمام البنوك البريطانية للمطالبة بسحوبات نقدية فورية، وقد انتقلت الحالة إلى كل من اسكتلندا وهولندا، ودول أوروبية أخرى (وهو الذي نراه ونسمعه بشكل يومي هذه الأيام).
ويرى بعض المؤرخون أن التداعيات الاقتصادية لهذه الأزمة كانت أحد أهم الأسباب التي أدت في النهاية إلى استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا.
الكساد الكبير
تعتبر هذه الأزمة هي الأسوأ خلال القرن العشرين، ويعتقد أنها بدأت عندما انهارت سوق الأسهم الأميركية في عام 1929، ولاحقاً تفاقم الأمر بسبب السياسات الاقتصادية الفقيرة للإدارة الأميركية آنذاك، استمر الكساد عشر سنوات تقريباً، وأسفر عن خسارة هائلة في الدخل ومعدلات بطالة قياسية ونقص في الإنتاج، خاصة في الدول الصناعية.
وفي الولايات المتحدة بلغ معدل البطالة حوالي 25 في المئة في ذروة الأزمة عام 1933.
أزمة أسعار النفط 1973
بدأت الأزمة عندما قرر أعضاء منظمة أوبك (خاصة من العرب)، الرد على قرار الولايات المتحدة بإرسال شحنات السلاح إلى إسرائيل خلال حرب 1973.
وقررت دول أوبك إعلان حظر النفط، ووقف صادراته إلى الولايات المتحدة وحلفائها، وقد أدى هذا إلى نقص كبير وارتفاع حاد في أسعار النفط، تبعته أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة والعديد من البلدان المتقدمة، وقد أدت هذه الأزمة إلى حدوث تضخم مرتفع للغاية (ناشئ عن الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة)، وركود اقتصادي، ونتيجة لذلك، سمى الاقتصاديون هذه الفترة باس “Stagflation”، أي الركود زائد التضخم “الركود التضخمي”، وقد استغرق الأمر عدة سنوات حتى انتعش الإنتاج وتراجع التضخم إلى مستويات ما قبل الأزمة.
الأزمة الآسيوية 1997
بدأت الأزمة في تايلاند عام 1997، وسرعان ما انتشرت إلى باقي دول شرق آسيا وشركائها التجاريين.
وأثارت تدفقات رؤوس الأموال المضاربة من البلدان المتقدمة إلى اقتصادات شرق آسيا أو مجموعة الدول التي تعرف بـ”النمور الآسيوية” مثل تايلاند وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية، حالة من التفاؤل، أدت إلى الإفراط في الائتمان، وتراكم الديون في اقتصادات هذه الدول، وفي يوليو 1997، اضطرت الحكومة التايلاندية إلى التخلي عن سعر صرف عملتها الثابت مقابل الدولار الأميركي الذي حافظت عليه لفترة طويلة، بسبب قلة مصادر العملات الأجنبية.
وقد أدى هذا إلى اندلاع موجة فزع وسط الأسواق المالية الآسيوية، ما انعكس سريعاً على الاستثمارات الأجنبية التي تصل قيمتها مليارات الدولارات.
ومع انتشار الذعر في الأسواق وتزايد قلق المستثمرين من حالات الإفلاس المحتملة لحكومات شرق آسيا، بدأت المخاوف من الانهيار المالي في جميع أنحاء العالم في الانتشار، وقد استغرق الأمر سنوات للتعافي.
الأزمة الاقتصادية 2007 -2008
المحور الأساسي لهذه المدرسة يرتكز على فكرة تدخل الحكومة لضمان استقرار الاقتصاد.
خلال فترة الكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن الماضي لم تستطع النظريات الاقتصادية في ذلك الوقت ان تفسر أسباب التدهور الشديد للاقتصاد العالمي أو أن تجد حلاً للنهوض بالإنتاج والتشغيل.
خسائر في البورصة الأميركية بسبب الكساد الكبير – 31 ديسمبر 2007، أدت الأزمة الاقتصادية في 2007 إلى ركود كبير، يعتبر أشد أزمة اقتصادية منذ ركود عام 1929، وأحدث ركود 2007 دمارا في الأسواق المالية في جميع أنحاء العالم، وقد اندلعت الأزمة بسبب انهيار ما سميت وقتها بـ”الفقاعة العقارية” في الولايات المتحدة، ما أدى إلى انهيار بنك “ليمان براذرز” الاستثماري في سبتمبر 2008، كما أن العديد من المؤسسات المالية العالمية كانت على شفا الانهيار، حيث تطلب إنهاء الأزمة عمليات إنقاذ حكومية غير مسبوقة، واستغرق التعافي نحو 10 سنوات، بعدما خسر العالم ملايين الوظائف ومليارات الدولارات.
وفي ظل الأوضاع الاقتصادية العالمية التي تعصف بالعالم، يخرج علينا الباحثين والمتخصصين والخبراء والمحللين والمهتمين في الشئون الاقتصادية بجميع أفرع علم الاقتصاد المالي والنقدي، الكلي وغير الكلي بحلول ومقترحات، وآراء مختلفة ومتنوعة، بل وأحيانا متضاربة، يحيطها التفاؤل مرة، وكذلك التشاؤم في مرات كثيرة، لذا، كان من الحتمي والضروري الرجوع الي الاقتصادي الشهير كينز، والتعرف على أفكاره وآراءه الاقتصادية في المعالجة والتغلب على المشاكل والأزمات الاقتصادية التي تعرض لها أنظمة الاقتصاد الحر.
تجاوز الأزمات، ونظرية كينز في الاقتصادية
جون مينارد كينز (John Maynard Keynes) عالم اقتصادي انكليزي قاد ثورة فكرية في الاقتصاد قلبت الفكر السائدة عن السوق الحر وحقيقة توفيره للوظائف والأشغال ” التوظيف ” حيث كان الفكر السائد في السوق الحر في ذلك الوقت يقضي أن أي شخص يريد الحصول على عمل يمكنه الحصول عليه لكن يجب أن يكون مرناً بالأجور ويقبل بأي أجر يفرض عليه.
تعتمد نظرية كينز بالأساس على التأكيد على الطلب الكلي (aggregate demand) الذي يتمثل بإنفاقات الأفراد، الأعمال التجارية، والحكومة والتي تعتبرها النظرية المحرك الأساسي للاقتصاد، وأكد كينز على أن الأسواق الحرة ليس لديها الإلية المستقرة لتوفير الأشغال “الاقتصاديون الكينزيون كما يسمون أنفسهم (Keynesian economist)” ينادون بضرورة تدخل الحكومة في السياسات العامة لتوفير الأشغال واستقرار الأسعار.
الفكرة الثورية
يركز كينز على أن عدم كفاية الطلب الكلي السوق يؤدي إلى فترة طويلة من البطالة، وأن الناتج الاقتصادي من البضائع والخدمات هو حصيلة أربع مكونات: الاستهلاك، الاستثمار، نفقات الحكومة، صافي الصادرات (وهو الفرق بين ما يبيعه البلد عما يشتريه من البلدان الأخرى)، أي زيادة في الطلب على السوق تأتي من أحد هذه المكونات الأربعة، لكن خلال فترة الركود الاقتصادي يقل الإنفاق فيقل الطلب على السوق.
على سبيل المثال، خلال فترة الركود تقل ثقة المستهلكين فتؤدي الى تقليل الانفاقات وخصوصاً على المشتريات ذا القيمة التقديرية مثل العقار، وهذا التقليل في الإنفاق يؤدي إلى قلة إنفاقات الاستثمار من قبل الأعمال التجارية وذلك استجابةُ لضعف الطلب على منتجاتهم. وهنا يقع الناتج الاقتصادي على كاهل الحكومة، طبقاً للاقتصاد الكينزي فإن على الحكومة التدخل في معدلات النمو والنشاط الاقتصادي، أو ما يعرف بالدورة الاقتصادي (business cycle).
المبادئ الأساسية الثلاثة في كيفية عمل الاقتصاد في المدرسة الكينزية :
الطلب الكلي (القدرة الشرائية) يتأثر بالعديد من القرارات الاقتصادية في القطاعين العام والخاص: القرارات التي يتخذها القطاع الخاص تؤدي أحياناً الى نتائج عكسية على الاقتصاد العام كمثال على ذلك قلة إقبال المستهلكين خلال فترة الركود الاقتصادي، وهذا يؤدي الى فشل في السوق مما يدعو الحكومة إلى اتخاذ سياسات فاعلة كالتحفيز الضريبيfiscal stimulus فعليها تدعم الكينزية الاقتصاد المختلط والذي يتمثل بقيادة القطاع الخاص للاقتصاد لكن بتحكم وأشراف ورقابة من قبل الحكومة والدولة، الأسعار والأجور تستجيب ببطيء للتغييرات في العرض والطلب، تنتج عنها نقص وفائض بصورة دورية وخصوصاً في العمالة (التوظيف/ البطالة).
التغييرات في الطلب الكلي لها أثرها الكبير على الناتج العام والأشغال على المدى القصير (ولكن ليس على الأسعار)، حيث يعتقد الكينزيون أن الأسعار سواء كانت راكدة او متقلبة في أي من مكونات الإنفاق (الاستهلاك، الاستثمار، أو نفقات الحكومة) سيغير في الناتج العام، فمثلا لو أن الحكومة أكثرت من الإنفاق مع إبقاء بقية المكونات ثابتة فأن الناتج العام سيرتفع.
لا يوجد هناك وصفة سحرية في المبادئ الاقتصادية الثلاثة لنموذج كينز، لكن ما يميز الكينزية عن باقي المدارس الاقتصادية هو إيمانها بتقليل مدة الدورة الاقتصادية the economic cycle ( مكونات الدورة الاقتصادية: الانتاج والتوسع ، ثم مرحلة الركود أو الانكماش (Recession)؛ وفيها تتراجع الأسعار والإنتاج، إضافة إلى تراجع نسبة النمو الاقتصادي، وترتفع نسب البطالة وتسريح العمال بشكل كبير. مرحلة الكساد (Depression)؛ والتي تنخفض فيها الأسعار وتسود البطالة ويستمر انخفاض النمو في الاقصتاد، وهي أسوأ مرحلة في الدورة الاقتصادية. والتي تصنف على أنها الأهم من بين جميع المشاكل الاقتصادية.
فعوضاً عن ميزانية الحكومة الخاطئة تقترح الكينزية سياسة مالية أخرى وهي مواجهة التقلبات الدورية (countercyclical fiscal policies) والتي تعمل بعكس الدورة الاقتصادية. على سبيل المثال الإقتصاد الكينزي يقترح على الحكومة:
- بتشغيل العمالة في بناء البنية التحتية بأعداد كبيرة وإن كان على حساب العجز المالي للحكومة وذلك لتحفيز العمالة والحفاظ على استقرار الأجور أثناء فترة الركود الاقتصادي .
- تقوم الحكومة بفرض ضرائب دخل عالية للحيلولة دون حدوث تضخم اقتصادي في حالة ازدياد الطلب في الأسواق.
- تقترح المدرسة الكنزية بتغيير السياسة المالية وكيفية استخدامها في تحفيز الاقتصاد وذلك عن طريق خفض معدل الفائدة لتشجيع الاستثمار.
يري كينز إنه على الحكومات بأن يكون حل المشاكل الاقتصادية على المدى القصير بدلاً عن انتظار السوق ليصلح المشاكل تلقائياً على المدى البعيد وذلك حسب قول كينز “على المدى البعيد كلنا ميتون” لكن الكينزية لا تدعوا الحكومات الى تعديل السياسات كل بضعة أشهر وذلك لأنها تؤمن بأن الحكومات ليس لها القدرة لتضبط الأمور بنجاح.
هيمنت نظرية وسياسات الاقتصاد الكينزي بين فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية الى أوائل السبعينيات، حيث بدأت العديد من الإقتصادات المتقدمة تعاني من تضخم وبطيء في النمو الاقتصادي في نفس الوقت أو كما تسمى الركود التضخمي(stagflation)… ما يمر به العالم اليوم .
المدرسة المالية
قلت شعبية النظرية الكينزية وذلك لعدم امتلاكها سياسة للتعامل مع الركود التضخمي.
النقاد الاقتصاديون راهنوا على قابلية الحكومات في تنظيم الدورة الاقتصادية بتطبيق السياسة الضريبية وأصروا بدلاً عن ذلك على حل المشكلة الاقتصادية باللجوء الى السياسة المالية وذلك لأن الحكومات لديها التحكم الكامل بصرف المال والتي يؤثر بدورها على معدل الفائدة والتي بالنتيجة تخفف من الكارثة الاقتصادية.
يعتقد أصحاب المدرسة المالية بأن الأموال أو النقد له تأثير واضح على الناتج العام على المدى القصير لكن هذه السياسة تؤدي الى التضخم على المدى البعيد وهذا حسب نظريتهم الاقتصادية .
الاقتصاديون الكينزيون وجهوا النقد للمدرسة المالية واعتبروا أن النظرية الكينزية متكاملة حيث أنها تعالج المشاكل الاقتصادية على المدى القصير والبعيد، حيث تركز النظرية الكينزية على أن المال له تأثير نقدي على الاقتصاد من ناحية الأسعار والأجور وليس له أثر كبير على العمالة والناتج العام.
” القيمة المضافة والإنتاج الفعلي الحقيقي“
المدرسة الكلاسيكية الجديدة
كلا المدرستين الكينزية والمالية واجهتا الانتقاد من قبل المدرسة الكلاسيكية الجديدة التي ظهرت في أواسط السبعينات، والتي تقول بأن صُناع القرار ليس لديهم تأثير على الاقتصاد وأن الأفراد لديهم التأثير على السوق وأن تصرفاتهم هي التي ستغير السياسة الاقتصادية قبل أن تقوم الحكومة بذلك.
الكينزيون الجدد
نشأ جيل جديد من الكينزيين بين فترة السبعينات والثمانينات شكك في قابلية النظرية التي طرحتها المدرسة الكلاسيكية الجديدة حيث يقول الكينزيون الجدد على أنه حتى لو أن بعض الأفراد لهم تأثير صحيح إلا أن طلب السوق لا يستجيب على المدى القصير، “ولهذا فإن سياسة الضرائب تبقى مؤثرة على المدى القصير حسب المدرسة الكينزية”.
هل نظرية كينز هي الحل المناسب دائماً؟
في وقت الكارثة الاقتصادية العالمية بين عامي 2007 و 2008 عادت الأفكار الكينزية إلى الظهور، حيث اعتبرت النظرية على أنها الأساس للسياسات الاقتصادية لمواجهة الأزمة من قبل الحكومات حيث أتبعتها حكومتي الولايات المتحدة وبريطانيا في مواجهة الكارثة الاقتصادية، حيث كتب جريكوري مانكيو وهو أستاذ في جامعة هارفارد مقالاً في صحيفة نيويورك تايمز “إذا أردت أن تصغي لعالم اقتصادي واحد لفهم المشاكل التي تواجه الاقتصاد، فبلا شك أن هذا العالم الاقتصادي هو جون ماينارد كينز، ورغم أنه مات قبل أكثر من نصف قرن إلا أن تشخيصه للركود والكساد يبقى الأساس للاقتصاد الكلي الحديث.
على الرغم من ذلك, فأن الكارثة في عام 2007-2008أظهرت أن نظرية كينز تستوجب التحسين والتعديل لتعطي دوراً للعملة في نظامها بعد أن كانت النظرية غافلة عنه ودمج القطاع المالي كقطاع حقيقي يشابه قطاع الاقتصاد.
الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة
الوضع الاقتصادي العالمي على المحك، وأصبح الاقتصاديون يضربون أخماس في أسداس، بسبب ضخامة الأزمة، وهي متشعبة ومتعددة الأطراف أهمها: أزمة الغذاء/ ضعف وقلة مصادر التمويل/ انهيار أسعار العملات/ أزمة مصادر الطاقة/ مشاكل المناخ/ تضخم المديونيات المحلية والخارجية للدول/ ضعف النمو والتوظيف والاستثمار والتبادل التجاري والادخار/ ضعف وقلة الموارد/ توابع جائحة كورونا/ تصاعد حدة الصراعات والنزاعات المسلحة وعدم الأمن والاستقرار في كثير من مناطق العالم .
الحل
دعونا نتفق أنه ليس هناك حلول سحرية أو وصفة علاج سريعة لتلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعترض كثير من دول العالم، وخاصة الدول محدودة الموارد ومصادر التمويل، نطرح بعض التوصيات المستمدة من خبراء ومدارس الاقتصاد والمتخصصين والباحثين والآراء السابقة وتجارب الآخرين:
أهم العوامل والآليات الاقتصادية التي تؤثر سريعاً على سلوك الفرد (مستهلك ومنتج ومستثمر) وحركة السوق هي: سعر صرف العملة/ معدل الفائدة/ أنواع ومعدات الضرائب السائدة، سواء مباشرة أو غير مباشرة.
الحكومات وحدها غير قادرة وحدها على إيجاد حلول في المدى القصير للأزمات الاقتصادية مهما كان لديها من إمكانات وقدرات سيادية .
جوهر المشكلة الاقتصادية يرتكز في مدي القدرة والنجاح على التنبؤ بسلوك الفرد (المستهلك/ المنتج/ المستثمر).
التضارب التعارض بين الآليات الاقتصادية (المالية والنقدية) فعلى سبيل المثال فرض ورفع الضرائب يقلل من الاستثمارات، رفع سعر الفائدة يقلل من التضخم، ولكنه يحد من الاستثمارات والتوظيف، وهكذا .
ففي ظل قلة الموارد، وضعف الاستثمارات الأجنبية والمحلية، وارتفاع الأسعار، وقلة العرض (التضخم) وضعف القدرة الشرائية (الطلب) وتضخم الديون الخارجية والداخلية، ومعاناة الحكومات من عجز في ميزانياتها المالية والتجارية، وحالة التخبط في الأوضاع العالمية، وخاصة أسعار الطاقة والغذاء، وصعوبة ايجاد مصادر تمويل والحالة الضبابية، وتلاحق الإحداث وسرعتها، يجعل من الحتمي والضروري على متخذ القرار التأني والتروي في اتخاذ القرارات الاقتصادية، وعدم الوقوع تحت سيطرة وهيمنة الاقتصاديين (اللذين في الإساس هم مختلفون فيما بينهم: لذلك بنينا مقدماً اختلاف المدارس والآراء بين الاقتصاديين).
فمهمة الاقتصادي هي طرح البدائل، وعلى السياسي اتخاذ القرار: فالمسؤولية بكاملها تقع على كاهل متخذ القرار وحده أولاً وأخيراً، كما على متخذ القرار الانتباه جيداً من رجال الأعمال و المستثمرين ومجموعات الضغط (وطني/ أجنبي) واللذين يستغلون أزمات الدول للضغط على المسؤولين للحصول على أقصى إعفاءات ومزايا مقابل وعود ومشروعات في أغلبها وهمية وغير حقيقية، او لمشروعات ليس لها أي عائد أو مردود إقتصادي ملموس في المدى القصير أو المدى، بل إنهم أول من يقوم بسحب استثماراتهم وتحويلها إلى خارج البلاد، ويجب على الحكومات ترشيد سياسات الاعفاءات المجانية وعدم الإفراط في منح المزايا والامتيازات لرجال أعمال ومستثمرين يسعون فقط التربح وتحقيق أقصى عائد، والتغني بعبارات وشعارات: إن رأس المال حر أو جبان.. إلخ، ودون النظر إلى أي اعتبارات اجتماعية أو إنسانية، فيزداد الأغنياء غنىً، ويزداد الفقراء فقراً.
كما يجب أن يكون المسؤول عن القرارات الاقتصادية والمالية قريباً من المواطن، ويتسم بالقدرة على إقناعه وكسب ثقته، فقد كان لكينز أثناء الحرب العالمية الثانية، برنامج في الإذاعة يحث فيه المواطن البريطاني على الشراء، حتى وإن لم يكن في حاجة إلى تلك السلع والمنتجات، لأن ذلك يزيد الإنتاج والتوظيف ويقلل من البطالة والكساد (الترويج لأفكاره الاقتصادية، لتحويلها إلى واقع ملموس من خلال سلوك المواطن) وهكذا، فإن زيادة القدرة الشرائية للمواطن مهمة جداً لتحريك الدورة الاقتصادية في دورتها الصحيحة، من ناحية أخرى على الحكومات الانتباه إلى فخ تخفيض سعر عملتها المحلية أمام العملات الأجنبية وأهمها الدولار، لأن تخفيض سعر العملة له عواقب إقتصادية واجتماعية وخيمة في المدى القريب والبعيد، ومن يدعي أن تخفيض العملة جاذب للاستثمار، أو أنه يزيد من التصدير (حق يراد به باطل) ولكنه يزيد من عدم ثقة المواطن في حكومته والمسؤولين ويزيد من القلاقل الاجتماعية، ويهدد الأمن والاستقرار الاجتماعي للدول، فإن كان ولا بد من الأفضل اتباع السياسات المتدرجة وذات فترات بينيه متباعدة، ولننظر كيف انخفضت قيمة العملة لدول كثيرة إلى مستويات قياسية: منها على سبيل المثال، تركيا، لبنان، بريطانيا، منطقة اليورو.
ولماذا لا نعود إلى زيادة التبادل التجاري بنظام الصفقات المتكافئة (نظام المقايضة: Counter Trade) وهي حل مناسب للظروف والأوضاع العالمية الحالية، والتي تقفل بشكل كبير الاعتماد على تحويل العملات الأجنبية (أحد الحلول للتغلب على شح العملات العالمية).
أما بخصوص فرض الضرائب، مع معاناة الحكومات من ضعف مواردها.. فإن زيادة الضرائب أمر لابد منه، ولكن كيف؟ فالجدير بالذكر أن الحكومة البريطانية قامت بتعليق ضرائب القيمة المضافة، كما أنها أعفت الشركات والمصانع من زيادة إسعار الطاقة لمدة 6 شهور، كما قامت الحكومة الإيطالية بإعفاء أصحاب الدخول الضعيفة من الضرائب والذي يبلغ حوالي 2 مليار يورو، ولكنها في ذات الوقت فرضت على من تزيد ثرواتهم عن 3 مليون يورو، مما يجعلها تحصل على موارد تبلغ ما يقرب من 2 مليار يورو، هذه الأمثلة توضح أن على الحكومات إعادة النظر في فرض الضرائب، عن طريق إعفاء غير القادرين وأصحاب الدخول المحدودة، وأيضاً فرض ضرائب على القادرين وأصحاب رؤوس الاموال، وما أكثرهم.
أما بخصوص معدلات الفائدة، فيجب اتباع واتخاذ سياسات جديدة ومبتكرة وغيرها تقليدية لخلق أوعية ادخارية جديدة تراعي البعد الاقتصادي والاجتماعي، دون زيادة الأعباء المالية للجهاز المصرفي والحكومات في تلك الدول، فعلى سبيل المثال: لا يجوز للشركات امتلاك أموال في شكل ودائع أو أن تكون ودائع بدون فوائد، أو ذات معدل فائدة منخفض جداً، أو سلبي (حسب حالة وظروف السوق والاقتصاد الوطني والخارجي)، قصر حسابات الادخار (وهل هي وطنية آم أجنبية) على الأفراد، وعلى أن تكون تنازلية، وتكون مرتفعة لأصحاب الأوعية الأقل (بحد أقصى ٥ مليون) ويقل العائد كلما زاد الوعاء الادخاري (من 5 -20 مليون) وهكذا، وهو الأمر الذي سيراعي البعد الاجتماعي والاقتصادي، والحد من أعباء البنوك الحكومات والتزاماتها المالية المحلية والخارجية قبل الغير .
وأخيراً وليس آخراً، على الدولة والحكومات أن تستفيد من تلك الأزمة الاقتصادية العالمية، لإعادة النظر في هيكلة اقتصادها الوطني: لزيادة معدلات التصدير الذي يجب أن يكون هدف قوي ووطني لما له من مردود اقتصادي كبير على اقتصاد الدول والحكومات “ضرورة الاستعانة بأهل الخبرة في التصدير للأسواق الخارجية والدولية، والاستفادة من تجارب الدول الأخرى، وما أكثرها، سواء في مجال الزراعة/ الصناعة/ التجارة الداخلية والخارجية”، وتصدير السلع والمنتجات والخدمات والقوة البشرية.
والتركيز على الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة، والأسلحة العسكرية (إيران وتركيا حققوا تقدماً ملموساً في الطائرات المسيرة التي صدّرت لدول كثيرة منها روسيا) ووسائل التنقل المبتكرة (السيارة الطائرة: ابتكار ياباني أمريكي مشترك أعلن عنه مؤخراً)، صناعة الرقائق الإلكترونية، والطاقة المتجددة وتحلية المياه ونقية الهواء والمنتجات والسلع الصديقة للبيئة، وذلك كله من خلال وضع رؤية واستراتيجية شاملة، والاخذ بالأسباب والمنهج العلمي والاستعانة بأهل العلم والرأي .
ومن الجدير بالتنويه إليه، العمل الدؤوب على تدعيم وترسيخ مفاهيم الصراحة والشفافية والمحاسبة والثقة، ففقد ثقة المواطن في المسؤولين، هي أخطر المخاطر التي تهدد المجمعات والشعوب، جميع الخطط والإستراتيجيات والسياسات والندوات والدراسات وما بها من مزايا وإيجابيات، سوف تظل خبر على ورق ومجرد آمال وأحلام، وأسيرة وحبيسة الأدراج والأضابير، ولن تصبح حقيقة على أرض الواقع في غياب الثقة على كافة المستويات والمجالات: ثقة الفرد في ذاته، وفي الأسرة، وفي المجتمع .
فالفرصة متاحة للشعوب والأوطان بأن تجعل من الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية طوق نجاة ونبراس ينبر لها الحاضر والمستقبل للأجيال القادمة من خلال الأخذ بالأسباب: وأهم تلك الأسباب العلم والعلماء والمخلصين والوطنيين والعمل بروح الفريق .
وفي النهاية القرار في يد متخذي القرار، بناءً على مقترحات وتوصيات مقدمة من الخبراء والاقتصاديين، ولا نملك سوى الانتظار والترقب لما سوف تسفر عنه الأيام القادمة.
خاص وكالة رياليست – د. خالد عمر.