تفاخر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر تغريدة له على “تويتر” ليلة السبت-الأحد بأن شيئاً كبيراً للغاية قد حدث (1)، فكان ما تبعه توالي العواجل الإخبارية صباح يوم الأحد (27 تشرين الأول) يوضح ما أراد أن يستخدمه ترامب استباقا في “دعايته” للانتخابات الرئاسية المقبلة في بلاده. لقد أكدت تصريحات مسؤولين أميركيين (2) بداية يوم الأحد مقتل زعيم تنظيم داعش الإرهابي، أبو بكر البغدادي في بلدة حدودية مع تركيا في الشمال السوري، وهو “الانتصار الكبير” على التنظيم الإرهابي وفق ما قال عنه ترامب.
ترامب أشار إلى أن الولايات المتحدة بدأت في تلقي معلومات مخابراتية عن مكان البغدادي قبل شهر تقريبا (فترة آخر تسجيل صوتي للبغدادي)، واستطاع مسؤولو المخابرات الأميركية تحديد مكانه على وجه الدقة قبل أسبوعين في حين أصبح ترامب نفسه على علم بالهجوم المزمع قبل ثلاثة أيام (3). وتداولت تقارير إعلامية، نبأ عن مقتل زعيم تنظيم “داعش” أبو بكر البغدادي خلال عملية عسكرية نفذتها طائرات أميركية في قرية باريشا التابعة لمحافظة إدلب (شمال غرب سوريا). وبحسب مسؤولين أميركيين فإن معارك قصيرة اندلعت عند دخول القوات الأميركية للمجمع السكني الذي كان يتواجد به البغدادي، مشيرين إلى أنه “قتل نفسه بتفجير سترة ناسفة”.
ولكن من هو الذي قُتل في الاستهداف الأميركي، وهل فعلا استطاعت واشنطن هذه المرة من قطع رأس التنظيم الإرهابي، وما هي تبعات هذا الحدث؟
ظروف ومكان إقامة البغدادي
لا يزال إعلان مقتل البغدادي تثار حوله الشكوك، وذلك بالاستناد إلى التقارير الاستخباراتية الإقليمية والأميركية التي كانت تتضارب حول مكان إقامته، عقب خسارة تنظيمه الأراضي الواسعة التي كان يسيطر عليها قبل أن تخرج عن سيطرته المدينة تلو الأخرى، ابتداء من الموصل العراقية (المدينة التي أعلن فيها عن دولة خلافته المزعومة في حزيران 2014)، فـ الرقة السورية (العاصمة البديلة للخلافة والتي تحررت من سلطة التنظيم في تشرين الأول 2017)، و انتهاء بمنطقة الباغوز بمحافظة دير الزور (شرقي سوريا).
واشنطن كانت قد أعلنت في آذار الماضي النصر على تنظيم داعش في شرق الفرات السورية (4)، لتتنبأ بعدها تقارير استخباراتية عدة تواجد البغدادي ما بين البادية السورية (5)، ( بالتحديد بين ريفي حمص والسويداء) ؛ أو في صحراء الأنبار بالعراق (6)، وهو الأمر الذي أثار التساؤل حول مدى قدرة البغدادي على تخطي الحواجز العسكرية والأمنية التي كانت تحيط بآخر معاقله في الشرق السوري؛ سواء التابعة للوحدات الكردية أو حتى للفصائل المعارضة، ومن ثم استطاعته اختراق مناطق سيطرة التنظيم الإرهابي الآخر “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)؛ وهو التنظيم الذي يسيطر على معظم محافظة إدلب.
التقارير التي استبعدت خروج البغدادي عن هاتين المنطقتين، تناولت أيضاً الحالة الصحية الحرجة التي يمر بها البغدادي، وهو ما أكدته الاستخبارات العراقية نهاية تموز الماضي حينما قالت أن البغدادي أصيب بقصف عراقي استهدف مكان إقامته، وبأن القصف حينها أدى إلى إصابة البغدادي بشلل في الأطراف، بحسب العراقيين (7).
إن “الانتصار الكبير” كما وصف ترامب مقتل البغدادي؛ يستحق الوقوف عنده كثيراً، فهل سيتأكد حقاً مقتله وتثبت الإدعاءات الأميركية بأن تحليلات الحمض النووي للجثة التي يرجح عودتها للبغدادي، وبعد 15 دقيقة فقط من الاستهداف الأميركي (8)؛ جاءت لتؤكد إعلان واشنطن نبأ مقتل متزعم داعش، وكذلك ماهية نفوذ وقوة البغدادي في ظل الاستراتيجية التي ينتهجها التنظيم منذ خسارته للمدن الكبرى التي كان يسيطر عليها.
في المرحلة الأخيرة من سيطرة داعش على الباغوز (آخر معاقل التنظيم في شرق الفرات)؛ لم تكن مكانة البغدادي وسطوته في التنظيم تشير إلى أنه محط إجماع وتوافق لدى كوادر “داعش”، فقد ذكرت صحيفة “الغارديان” البريطانية في شباط الماضي، أن البغدادي نجا من “محاولة انقلاب داخلية” (9)؛ مشيرة إلى أن محاولة الانقلاب أدت إلى إطلاق نار بين مقاتلين أجانب في “داعش” والحراس الشخصيين للبغدادي الذي نجا من العملية وهرب إلى منطقة مجاورة في البادية السورية، دون ذكر أية تفاصيل إضافية وقتذاك.
إن عملية الانقلاب -التي فشلت- و بحسب المعطيات فقد حصلت بالفعل، وهي ذات صلة بالخلافات الدائمة بين التيارين الرئيسيين داخل التنظيم الإرهابي (“الحازميين” نسبة إلى أحمد بن عمر الحازمي، و “البنعليين” نسبة إلى تركي بن علي)، والخلافات قد كانت إحدى معضلات “داعش” خلال فترة سيطرته على الأراضي العراقية و السورية، ما يعني لنا أن العقيدة المتشددة لدى عناصر التنظيم أكثر وأقوى تأثيراً من الولاء لزعيمهم.
إذاً فالزعيم المشلول -بحسب العراقيين- والمعزول تماماً وفق ما ذكرته جل التقارير، لا تدفع بالقول أن “انتصارا كبيرا” تحقق بمقتل البغدادي، وإنما شأن مقتل البغدادي قد يكون لا يتعدى شأن مقتل أي عنصر إرهابي سواء في “داعش” أو أشقائه الآخرين كـ “حراس الدين”، أو “تنظيم القاعدة”، أو “جبهة النصرة”.
بخاصة وأنه كان قد رشّح منذ شهر آب الماضي، العراقي (التركماني الأصل) عبد الله قرداش كخليفة “يرعى أحوال المسلمين” عوضاً عنه (10)؛ وفق ما ذكرت وكالات إعلامية مقربة من “داعش” -آنذاك-، و ليكون ذلك أيضاً عاملاً إضافياً يقلل من أهمية ونفوذ البغدادي.
إن محاولة واشنطن إقناع المجتمع الدولي بأنها استطاعت القضاء على “داعش” بعدما تمكنت من قطع رأسه (البغدادي) هي محاولة بائسة، فواقع الحال بالنسبة لنشاط التنظيم الإرهابي والظروف الميدانية والانتصارات عليه أجبرت التنظيم على التشتت، ما يعني أن قطع رأس الثعبان لن يوقف جسده عن الحركة.
البغدادي الذي أُعلن عن مقتله 5 مرات سابقة قبل تأكيد ترامب يوم الأحد؛ مقتله للمرة السادسة، فيبدو أن الأمريكان قد قرروا أن يستنسخوا له مصيراً مشابهاً لمصير أسامة بن لادن زعيم “تنظيم القاعدة” الإرهابي.
مخطط أميركي من أجل الانتخابات الرئاسية
في أيار 2011 أعلنت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق؛ باراك أوباما، مقتل أسامة بن لادن قبل شهور من بدء حملة الانتخابات الرئاسية 2012 (الولاية الرئاسية الثانية لأوباما) (11)، في سيناريو شبيه بما فعلته إدارة الرئيس ترامب تجاه البغدادي، في ظل قرب الحملة الانتخابية للانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة.
إن إعلان عملية القتل لا تؤكد حدوثه، حيث ادعت واشنطن في حادثة بن لادن أنها ألقت جثته في البحر دون الكشف عن أي صورة للجثة، وهنا في حادثة البغدادي وخلال 15 دقيقة فقط يؤكد فحص الحمض النووي أن الجثة المتفحمة تعود لزعيم “داعش”، ما يرجح أننا سنكون أمام السيناريو ذاته، بأن تدعي واشنطن إلقاء جثة البغدادي في البحر؛ دون أية صور وتفاصيل توثق وتثبت حقيقة ما يتحدثون عنه.
يكمن التساؤل بخصوص ادعاء مقتل البغدادي حول توقيت هذا الإعلان، وكذلك القدرة التي انعدمت لدى واشنطن وتحالفها الدولي في قتل زعيم داعش على مدى أكثر 5 سنوات لتبرز وفي هذا الوقت بالتحديد، حيث يأتي الآن إعلان ترامب عن مقتل البغدادي وهو يستعد لخوض غمار “الدعاية” لفترته الرئاسية الثانية، فترامب يريد أن يقدم للناخب الأمريكي عملاً كبيراً قام به يشفع له بانتخابه لفترة ثانية بعد سلسلة الأزمات التي عصفت بإدارته.
يمكن القول أن هذه الأفعال باتت نهجاً تتبعه الإدارات الأميركية عند خوض سباق الفترة الرئاسية الثانية باختلاف تياراتها السياسية، ساعين في إبراز حدث كبير يبرر انتخابهم مرة أخرى.
وبالإضافة إلى الهدف الرئيسي المتمثل باستثمار إعلان مقتل البغدادي تهدف الإدارة الأميركية إلى التغطية أيضاً على سحب قواتها العسكرية من شمال شرق سوريا في ظل الضغوط السياسية من الكونغرس الأميركي الرافض لهذا الإجراء، في الوقت الذي تحقق فيه موسكو إنجازات سياسية واضحة تثبت سيطرتها على الملف السوري برمته سواء بتوافقها مع تركيا من خلال اتفاقات سوتشي ومسار أستانا، الأمر الذي أتاح لها توجيه بوصلة العملية السياسية كما ترتأي.
كذلك هدفت الإدارة الأميركية للتشويش على ما كان يمضي به الديمقراطيين في مجلس النواب فيما يتعلق بإجراءات عزل ترامب (12)، وتوظيف مقتل البغدادي على أنه “نصر مؤزر” يبدد مشاكلها الداخلية.
ما بعد “إعلان مقتل” البغدادي
منذ ما قبل هزيمة تنظيم “داعش” في الباغوز بدير الزور السورية، بدأ التنظيم الإرهابي يعرض نفسه للفضاء الجهادي من أجل الاندماج مجددا مع المنظومة الجهادية، وهو من الناحية العملية أمر يشي بأن التنظيم لن يفنى ويندثر بمقتل البغدادي، فالتنظيم وإن انتهى جغرافياً أو كفاعلية عسكرية إلا أن مخاطره الأمنية لا تزال موجودة وهي مرشحة للظهور من جديد، فمثل هذه التنظيمات تعيش في فترة سبات ثم تظهر من جديد.
تقرير أميركي كان أشار مؤخراً إلى أن “داعش” يعيد بناء قوته باضطراد (13)، لافتاً إلى أنه وعلى عكس تصريحات الرئيس دونالد ترامب، بأن تنظيم “داعش” هُزم في سوريا، فإن العملية العسكرية التركية “نبع السلام” التي شنتها أنقرة ضد الوحدات الكردية، بالتزامن مع الانسحاب العسكري الأميركي من هناك، من شأنه أن يضاعف مشكلة عودة “داعش”.
لقد اتخذ التنظيم تدابير فعالة لتعزيز هيكليته التنظيمية وتمكين نفسه كي يصمد كجماعة سرية إرهابية ومتمردة، و بخلاف ما حصل في الماضي عندما كان سيدير عملياته كمجموعة من “الولايات” داخل بلد معين، فقد سهّل التنظيم عملية صنع القرار وعملياته من خلال دمج كافة “ولاياته” السورية في كيان واحد.
إن طبيعة تكتيكات “داعش” اختلفت بعد هزيمتهم في الباغوز، حيث بات التنظيم يعتمد على تنفيذ هجمات صغيرة مبتعدا عن العمليات الهجومية الكبيرة، بمعنى أن للتنظيم خطة وإعادة هيكلة تقوم على عدم قيام بعمليات تحتاج قوات كبيرة أو حتى رأس كبير مدبر، بقدر ما يعتمد على إيمان عناصره بعقيدتهم المتشددة في حفظ استمرارية تواجدهم، بل وحتى الاندماج مع “أخوة المنهج” في تنظيمات جهادية أخرى إذا دعت الحاجة.
المصادر:
(1) ترامب: شيء كبير جدا حدث للتو، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019، الرابط
(2) أنباء عن مقتل زعيم داعش بإنزال أميركي في إدلب، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019، الرابط
(3) ترامب يشيد بمقتل زعيم الدولة الإسلامية في غارة أمريكية، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019، الرابط
(4) ترامب: داعش انتهى لكن سنظل يقظين، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019 الرابط
(5) البغدادي «مختبئ» في البادية السورية، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019، الرابط
(6) المخابرات العراقية: البغدادي موجود بين بادية حمص وصحراء الأنبار، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019، الرابط
(7) “صقور العراق”: البغدادي مشلول حالياً لكنه متنفذ!، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019، الرابط
(8) فوكس نيوز: تحليل الحمض النووي أكد مقتل البغدادي، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019، الرابط
(9) “ذا غارديان”: زعيم “داعش” ينجو من محاولة اغتيال عبر انقلاب داخلي، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019، الرابط
(10) “البغدادي” يرشح عراقياً من الموصل خلفا له في قيادة تنظيم “الدولة”، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019، الرابط
(11) أوباما: مقتل بن لادن “يوم عظيم لأمريكا”، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019، الرابط
(12) إجراءات عزل ترامب: الكونغرس يسعى لاستجواب محامي الرئيس الأمريكي، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019، الرابط
(13) تقرير لمعهد أمريكي يخالف تصريحات ترامب حول نهاية داعش بسوريا، تاريخ الدخول، 28 أكتوبر 2019، الرابط
مالك الحافظ- باحث و محلل سياسي، خاص لوكالة أنباء “رياليست”