دمشق – (رياليست عربي): للوهلة الأولى ظن البعض بأن ما يشهده لبنان من هجمات إسرائيلية مركزة تستهدف القدرات العسكرية والتنظيمية لـ حزب الله، سيكون دافعاً لـ تدخل إيران بغية الدفاع عن حليفها الرئيس، حتى ذهب البعض بعيداً في تصوراته متوقعين أن تتدخل إيران في الساحة اللبنانية لـ ردع إسرائيل أولاً، وتخفيف الضغط العسكري عن حزب الله ثانياً، لكن ظنون البعض تبقى في إطار الخيال وتمنياتهم ليست إلا أوهام بعيدة عن الواقع، إذ أن ما سبق لا يتناسب وعناوين المشهد الإقليمي الذي تقرأه إيران جيداً وفق منظور مصالحها وبما يناسب توجهاتها الإقليمية، ولعل ما قاله وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي حين سُئل عن استخدام القوة العسكرية لمساندة “حزب الله”، كان جوابه أن ليس الآن بسبب المفاوضات، وهل المقصود المفاوضات النووية؟، رداً على ذلك، قال عراقجي “’حزب الله‘ يتخذ قراراته بنفسه وهو قادر على حماية نفسه ولبنان والشعب اللبناني، لقد نجحت جبهات المقاومة و”حزب الله” على أرض المعركة حتى الآن، وستنتصر في النهاية”.
في المقابل فإن تتبع خطاب إيران الرسمي، يُميط اللثام عن التوجهات الإيرانية الجديدة تُجاه أذرعها والإقليم عموماً. ترجمة ذلك جاء عبر خطاب بزشكيان في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي كان إيجابياً في ما يخص أهداف إيران برفع العقوبات والتفاوض مع الغرب، كما كرر بزشكيان بصورة نمطية وشعاراتية مواقف إيران الثابتة في شأن قضايا الشرق الأوسط، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية ولبنان، وهي مواقف تشكل سبباً للتوتر في العلاقات بين طهران والغرب، لكن الأهم هو ما جاء بالنسبة إلى إسرائيل والملف النووي.
تدرك إيران بأن خطابها الرسمي الهادئ قد يلقى الصدى السياسي المطلوب في واشنطن تُجاه الملف النووي والعقوبات، وبصرف النظر عن ما أسمته إيران الانتقام من سلوك إسرائيل، والرد على الأخيرة عبر استهداف صاروخي طال فلسطين المحتلة، لكن هذا الرد الذي علمت الولايات المتحدة بتوقيته وتفاصيله وكانت أضراره محدودة، لابد وأن يُستثمر في سياق مفاوضات الملف النووي. صحيح أن الولايات المتحدة الآن لن تتحرك تُجاه الملف النووي لانشغالها بالانتخابات الرئاسية، لكن الصحيح أيضاً بأن الملف النووي ومسألة العقوبات لا يُمكن حلهما بمعزل عن نقاط النزاع بين إيران والولايات المتحدة.
بهذا المعنى فأنه كلما تصاعدت التوترات في المنطقة، عملت طهران على استغلال ذلك، وتهيئة الفرص بما يضمن لها تقديم ذاتها كمفتاح لحل أزمات المنطقة، كما أن إيران وعبر خطابها الدبلوماسي تُجاه الولايات المتحدة والغرب والرغبات بعدم التصعيد مع إسرائيل، فإنها ضمناً تبحث عن مسار مُجدي يوصلها إلى الاتفاق النووي، ويرفع عنها العقوبات التي أدخلت اقتصادها في دائرة الخطر، وضمن ذلك فهي توظف الوضع في لبنان وغزة ومعهما البحر الأحمر سبيل ما سبق من غايات وأهداف. واللافت والذي يبدو بأنه خطوة تُجاه إسرائيل، فإن بزشكيان وخطابه في الأمم المتحدة قال بأن “بلاده لا تريد الحرب مع إسرائيل”، ولم يقل “الكيان الصهيوني”، الأمر الذي يؤكد بأن الخطاب الإيراني وعبر هندسة مصطلحات وعبارات جديدة، إنما غايته تغيير الخطاب نحو إسرائيل، لـ يتمكنون لاحقاً من التفاوض حول قضايا أخرى، من دون الحاجة إلى إقامة علاقات ودية مع تل أبيب.
في المقلب الآخر، وبعيداً عن الخطاب الإيراني، فأنه ليس من المتوقع أن يقوم حزب الله بـ إيقاف جبهة إسناد غزة، أو فصل عن مسار معركة طوفان الأقصى، فـ الحزب أمام تحدٍ يفرض عليه إعادة إثبات ذاته أمام مناصريه، لا سيما مع كمّ الضربات التي تلقاها الحزب مؤخراً، وتحديداً اغتيال أمينه العام، وهذا ما يعني في العمق بأن الحزب سيعمل في إطار رفض الهزيمة والانكسار حفاظاً على شرعية وجوده كـ قوة مقاومة، وفي المقابل فإن ما تقوم به إسرائيل من تكثيف استهدافاتها الجوية لـ مراكز الحزب في الجنوب اللبناني وصولاً إلى قلب بيروت العاصمة، لا يحسم حرباً ولا يُنهي مواجهة حزب الله، والأهم أن ما تقوم به إسرائيل لن يُعيد مستوطني الشمال إلى منازلهم، كما أن تباهي نتنياهو بالقضاء على قوة الحزب العسكرية ومنظومته الصاروخية هي مبالغات، وحين يقول نتنياهو بأنه عمل على تحييد أخطر رجل واجه إسرائيل خلال العقود الماضية، فإن هذا لا يُعد سوى دعاية سياسية يقوم بها نتنياهو للتغطية على فشله في إعادة مستوطنيه إلى الشمال حتى اللحظة.
وفق المعطيات السابقة، وفي ظل رفض نتنياهو إيقاف الحرب في غزة وتالياً في لبنان، فإن التدخل البري في جنوب لبنان يبدو حتمياً، وبصرف النظر عن أهداف التدخل سواء المحدود أو العميق أو العمل على إنشاء منطقة عازلة، لكن يبدو واضحاً أن نتنياهو يريد إطالة أمد الحرب لـ استنزاف الحزب عسكرياً، ورغم ما يحدث في لبنان، إلا أن الحرب لا زالت في بدايتها ولم تنته، لكن في المقابل فإن هذه الحرب لن تُحسم في المدى المنظور، كما أن القوة الإسرائيلية التي تُوظف قصفاً واستهدافاً لكل ما يتحرك في الجنوب اللبناني، تأتي في ظل اختلال موازين القوى مع الحزب، خاصة أن الأخير جُرد من غطائه الأمني، لكن رغم ذلك فإن إسرائيل تدرك بأنها غير قادرة على إنهاء الحرب إن لم تتدخل برياً، ويُفترض بأن نقطة قوة المقاومة تتجسد في العامل الجغرافي، على عكس إسرائيل.
ما تعرض له الحزب مؤخراً، فإنه من الصعوبة أن يؤدي ذلك إلى خروجه من المواجهة مع إسرائيل، حيث كانت آخر كلمات أمينه العام أن “جبهة الإسناد لن تتوقف حتى يتوقف العدوان على غزة، مهما بلغت التضحيات”، كما أن إسرائيل أكدت على أنه استهدفته لأنه رفض فك الترابط بين جبهتي غزة ولبنان، وهو خط يصعب على أي قيادة مستقبلية تجاوزه مهما كانت الظروف أو المسوغات المفترضة. وربطاً بما سبق، فإنه من الصعوبة وقف الحرب في لبنان دون غزة، فـ إسرائيل أمام فرصة تاريخية وذهبية من أجل إنهاء كل المخاطر التي يشكلها الحزب، خاصة أن إسرائيل تعيّ بأن إيران لن تتدخل بشكل مباشر، وتدرك بأن جُل التصريحات الإيرانية لا تعدو عن كونها وسيلة ضغط في مسار المفاوضات النووية، ولا ضير بتقديمها بعض التنازلات في سياق ما سبق. وعطفاً على ذلك فإن إسرائيل تتمتع بدعم غير مسبوق ولا محدود ولا مشروط من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية في ظل صمت عربي وإقليمي، وترى أنها تعرضت لذروة ما يمكن أن تتعرض له من لوم وانتقاد وتجريم سياسي وقانوني وشعبي؛ هذا الأمر سيدفعها إلى أقصى خيارتها سواء في معركة محدودة، أو حرب واسعة.
بهذا المعنى فإن إسرائيل تسعى إلى مواجهة وتقويض كل من يُهددها ويستهدفها، من فلسطين إلى لبنان وسورية وحتى اليمن، وصولاً إلى إيران نفسها، وهنا لا يُفترض النظر لـ تصريحات نتنياهو المتكررة بـ “تغيير خرائط الشرق الأوسط” على أنها مجرد تهديدات، في ظل هذه “الفرصة التاريخية”، ودعم دولي لا محدود لخيارات إسرائيل، وعليه، سيستثمر نتنياهو الأسابيع المقبلة التي تسبق وتلي الانتخابات الرئاسية الأميركية بالحد الأقصى، ليس فقط بمنطق “البطة العرجاء”، واستغلال تراجع قدرة إدارة بايدن على الضغط عليه، ولكن أيضًا باستثمار دعم الأخيرة والعمل على رفع فرص دونالد ترامب في الفوز، بزيادة مستوى التصعيد في المنطقة.
ختاماً، تهديدات نتنياهو لـ إيران وفصائلها وكل من استهدف إسرائيل تبدو جدية، وليست مجرد تلويح، وهذا ما يُحتم على صانع القرار الإيراني وراعي المقاومين، أن لا يُخاطر بأوراقه في سورية واليمن والعراق ولبنان، وما نراه من استهدافات مباشرة لـ إسرائيل لا يتخطى حُدود المتفق عليه، وتدرك إيران بأن تدخلاً واسعاً من قبل الأوراق الإيرانية في الدول سالفة الذكر، يعني تغييراً في قواعد الإقليم وتحركاً سيُقابله تحرك أمريكي عاجل، قد يوسع دائرة الاشتباك بالإقليم لـ تطال إيران، وبالتالي فإن طهران في هذا التوقيت تُوزن الأمور بميزان الذهب.
لكن يبقى السؤال الأهم؛ هل ستضمن إيران وخطابها الدبلوماسي الهادئ عدم التوسع الإسرائيلي والأمريكي، وصولاً لمشارف دمشق وبغداد وصنعاء وطهران بعد النشوة التي تعيشها إسرائيل والولايات المتحدة، الأمر الذي سيشجّعهم على تنفيذ مخططات استراتيجية بالمنطقة، ضمن ما يسمى بـ الشرق الأوسط الجديد.
خاص وكالة رياليست – أمجد إسماعيل الآغا – كاتب وباحث سياسي – سوريا.