كشفت أزمة الفيروس التاجي (كورونا) تطورا خطيرا في مستقبل تعدد الحروب الجديدة للصراعات الدولية خاصة بين القوى العظمى المؤثرة على المشهد العالمي، وعلى الرغم من أن الفيروس لم يكن هو الأول الذى يورق مضاجع الدول العظمى، فقد تعرضت العديد من دول العالم لمثل هذا النوع من الأزمات والحوادث (تسرب الفيروسات) لكن مجملها كان يتم احتواءها محليا ولا يتجاوز أرض الدولة بخلاف ما صاحب فيروس كورونا من غرابة انتشاره والرعب الذى زرعه في الحكومات والأشخاص، وما زالت هناك عدد من الاستفهامات حوله يحاول العلماء والباحثين إيجاد تفسيرات منطقية، ولنتعرف أكثر على ما يجرى في الساحة العالمية لابد من الرجوع بالظروف والمقدمات السابقة لإنتشار الفيروس، ومحاولة ربطها عبر منطق التحليل الإستراتيجي بما يدور الان وفي المستقبل.
بعد أن قرقت في مستقنع الشرق الأوسط وشرق الاطلنطي على مدى نصف قرن ويزيد، تدعمها في هذا الموقف رؤية مفادها ان المنطقتين كانتا تمثلان مفتاح لحكم العالم، ولكن ما ان استيقظت الولايات المتحدة وتوجهت انظارها صوب شرق آسيا وغرب الباسفيك حتى أكتشفت ان هناك إرهاصات لقوة عظمى غير تقليدية، تتطلع للوصول لحلبة المنافسة العالمية، وربما القيادة؛ هذه القوة لم تكن موجودة على مسرح التوازنات الدولية السابقه، يتزعمها أكبر كيان سياسي عالمي تتجاوز عضويته (89) مليون عضو وهو (الحزب الشيوعي) وقد ولد هذا التنظيم من معاناة الفلاحين جراء الاستعمارين الانجليزي والأمبراطوري الياباني، واستطاع زعيمها ماو ان يضع اللبنة الأولى للحزب واختار التوجه الماركسي.
ظهرت الصين كقوة اقتصادية عظمى وتسندها ترسانة ردع استراتيجي غير تقليدية، بعد أن تخيرت الزمان والمكان الذى يمكن فيه قياس حركة الرياح لنشاط قوة وفاعلية الولايات المتحدة في المسرح الجيوسياسي العالمي، واستفادت من الفراغ الذى تراجعت فيه قوى عظمى كاليابان وروسيا، لتعزز حضورها بمنطقة نفوذها التقليدية اقليمياً في منطقة آسيا وغرب الباسفيك اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، ثم مروراً بأدغال أفريقيا وشواطئ المتوسط وصولاً للكاريبي والمناطق المطلة قبالة السواحل الشرقية للولايات المتحدة وداخلها، وللوصول لهذه المكانة استعانة بكين بحلفاء اقوياء مستفيدة من دروس التاريخ، وهنا لابد من الإشارة لبروز عملاق كبير بقدرات غير تقليدية وهي جارتها كوريا الشمالية، والتى بات تهدد إلى جانبها المصالح الأمريكية جدياً في منطقة الشرق الأقصى وغرب الباسفيك وبحر الصيني الجنوبي.
توجه الولايات المتحدة تجاه الصين يمكن ملاحظته منذ العام ٢٠٠٨م وهى اللحظة التى وصل فيها باراك أوباما الي البيت الأبيض، فقد وجد الاقتصاد الأمريكي يتهاوى نحو الانهيار وذلك بسبب حروب بوش في العراق وافغانستان، وبالتالى وضع نصب أعينه احياء العلاقات مع أسرع نمو اقتصادي في العالم، لتجاوز الأزمة المالية العالمية: وقد صاغ مجموعة من الخطط لاستدراج الصين وبدأ بالاتى:
- في وقت سابق عقدت الولايات المتحدة صفقة لبيع اسلحة لتايبيه وقد فقام اوباما بإيقافها.
- رفض اوباما مقابلة الدلاي لاما زعيم التبت ليصبح أول رئيس امريكي يرفض مقابلة زعيم روحي.
- إمتنعت إدارته عن الانتقاد الصريح لسجل حقوق الانسان في الصين.
- قام بتفعيل منتدى الحوار الإستراتيجي الذى يعقد بعد كل عامين، وقد تأسس المنتدى في العام 2005_2006 ويحضر مؤتمره رئيسي الدولتين ووزيري الخزانة والتجارة والاستثمار، ويهدف إلي تعزيز التعاون التجاري وإزالة العوائق الاقتصادية.
عند هذا الوضع تأكد مجلس الأمن القومى الصيني واللجنة المركزية للحزب، انه في حال انهار الأقتصاد الأمريكي هذا يعنى فقد الصين لسوق كبير مع فقدان 5 مليون صيني لعملهم داخل الولايات المتحدة، وبالتأكيد في هذا التوقيت ايضا ليس في صالحها، لذلك تبنت الصين استراتيجية لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي وقد كان، وكذلك الحال مع أوروبا في حيث توجهت تصريحات قيادات أوروبا وقتها بضرورة ان تتبنى الصين استراتيجية لزيادة سعر عملتها وانعاش الاقتصاد العالمي من الانهيار، هذه الاستراتيجية الصينية سميت استدراج الغرب الي فلك الحياد العظيم، وهي اللحظة التي أعلن فيها الحزب الشيوعي الصيني استراتيجياً دخول الصين مرحلة المبادرة، و التى تستطيع فيها الدفاع والهجوم معا على أي عدو محتمل، وقد استطاعت بعد ذلك تحييد عدد من القوى من الإضرار بمصالحها الحيوية.
الصين اليوم هي واحدة من أعظم الدول الفاعلة في مسرح السياسة العالمية، وقد سدت هذا الفراغ بعد تراجع أدوار عدد من القوى التقليدية (بريطانيا فرنسا، اليابان) واستطاعت شكلا التزاوج بين الرأسمالية المتزنة والاشتراكية ذات الخصائص التنينية، وليس غريباً ان تصبح معظم تصوراتها أقرب لنادي الرأسمالية، فمثلاً شنغهاي أكبر مدينة اقتصادية في العالم، أكثر من نصف إنتاج شركاتها برأسمال غير وطني يتبع لدول غربية رأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ان الولايات المتحدة والصين قوتان عظيمتان، فالثانية تحتل المرتبة الثانية عالمياً باقتصاد تجاوز 18 ترليون دولار، وهي اكبر دائن للولايات المتحدة ب 5 ترليون دولار، بينما تتربع الأولي على عرش الاقتصاد العالمي ب 20 ترليون دولار، وقد بلغت موازنة وزارة الدفاع الامريكية لعام 2020 ب(738) مليار دولار؛ منها 174 مليار لتمويل العمليات العسكرية خارج حدود البلاد، وفي هذا الخصوص احتجت موسكو رسميا عبر رئيس لجنة الشؤون الدفاعية بالبرلمان الروسي (الدوما) يوري شفيتكين وقالت أن الميزانية الدفاعية تحمل طابعا عدوانيا وتستهدف بالأساس روسيا والصين؛ بينما سارعت بكين للإعراب عن غلقلها الشديد، وعبر رئيس هيئتها التشريعية بقوله: “ان البند المتعلق بتايوان ينتهك بشكل خطير مبدأ دولة واحدة ونظامان” كما أردف :”ان هذا التوجه سيزيد من تعقيد العلاقات بين بكين وواشنطن وسيزيد من عدم الاستقرار في مضيق تايوان”. أما ميزانية الدفاع الصينية فقدرت ب 260 مليار دولار.
اوروبياً:
تعاني أوروبا من أزمات كبيرة تتعلق بالتجاذبات السياسية العالمية وانقسام في مركز اتخاذ القرار الموحد بين بروكسل وبرلين وباريس، خاصة بعد مفاوضات بريكزت التى افضت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ وبالتالي هذا امتحان لقيادة أوروبا الجديدة في هذا الموقع وهي ألمانيا باعتبار انها القوة الاقتصادية الأولي في أوروبا، وفي حين ان هناك موقف شبه موحد تنأي به بعض دول الجنوب الأوربي؛ ولقد بات من الواضح أن تلك المواقف التى صنفت بالنشاذ داخل الإتحاد لكل من إيطاليا وإسبانيا والبرتقال واليونان مغزاها هو الخناق الذى ضاق بعنق الأوروبيين نتيجة السياسات الاقتصادية الصينية، اما سياسياً فقد صوتت هذه الدول في أكثر من مرة ضد مشاريع قرار غربية في جلسات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بل جزء منها يتعلق بمواقف داخل الاتحاد، ففي العام 2018 رفضت هذه الدول ما عدا اسبانيا لمشروع قرار يجرم الصين بمعاملاتها لشعوب مقاطعة شينجيانغ، والذى صدر من ومفوضية حقوق الإنسان بجنيف التابعة للأمم المتحدة.
واشطن طالبت الدول الأوروبية بزيادة ميزانيتها الدفاعية في حلف الناتو، في أكثر من مرة، وطالبتها ايضا بزيادة الرسوم الجمركية على واردات بكين، وضرورة تبنى وقف واضح تجاه بكين وموسكو مقابل الحماية؛ لكن يبدو ان الصين استطاعت ان تحييد ألمانيا في عدد من الازمات خاصة الأمنية منها، في حين ما زالت فرنسا تعاني صراع الانعتاق من أوروبا وزعامتها، وتتوارى في الاثناء سياساته حلف واشنطن بخلاف الموقف الالماني، وقد ذكر الرئيس الامريكي دونالد ترمب في اخر لقاء له قبيل انعقاد قمة الناتو مع الامين العام للحلف ينس است لتنبريغ “ان اكثر من يحتاج حلف الناتو هو فرنسا، فنحن لا نحتاجه”.
أما بكين التى استفزتها تغريدات واشنطن مرة وتحركاتها في غرب الباسفيك ومحاولة التواصل والتحرش بتايون من جهة ثانية قابلتها الصين بنعو من ضبط النفس والصبر الاستراتيجي،وترى أن التعاطى مع واشنطن لابد أن يتأسس على مضامين واليات أخرى، وليست الحرب المباشرة التى سيخسرها الجانبان، ولذلك تمتلك بكين مجموعة من كروت الضغط والمناورة تجعلها على المدى القريب لا ترغب في مواجهة واشنطن ، وهي تتمنى ان لا تواجهها غريبا حتى لا تغوض استراتيجيتها العظمى وهى التحكم العالم اقتصاديا.
استنتاجات:
الصين كررت في أكثر من مرة انها لا تريد تغوض النظام العالمي، لكنها في نفس الوقت تقول ان العالم لا يمكن أن يسير بهيمنة أمريكية، وهذا ما جعل دول مثل الهند وألمانيا وتركيا تطالب بمقعد دائم في مجلس الأمن، وفي المقابل الولايات المتحدة تحاول ان تجبر الصين لصياغة نظام يحافظ على مكانتها وتتحكم في الراغبين للدخول إلى جانبها في هذا النظام، ولا أعتقد أن أمريكا لديها اليوم لها القدرة لمنع هذا تحول الذى سيكون لصالح لصين.
أمريكا على وشك انهاء أعظم استراتيجية في القرن 21 وسمتها استراتيجية القرن وهي مئوية، وتستهدف هذه الاستراتيجية بالدرجة الأولى وبناءا على عدد من المؤشرات، الدول الصاعدة لمسرح التوازنات العالمية ومن ضمنها روسيا والصين، كما تتضمن هذه الاستراتيجية انسحاب الولايات المتحدة من مسرح التفاعلات الدولية بوضعها الحالي لتكتفى بعزلة بخمسين عاماً، ومن هنا نرى ان بعد مجيء دونالد ترمب خرج من 5 اتفاقيات مهمة وعظيمة هي اتفاق الدول (5+1) النووي الإيراني، اتفاق باريس للمناخ، اتفاق التجارة عبر المحيط الهادي، اتفاق الصواريخ المتوسط (INF) والصين نفسها غير عضو في هذه الاتفاقية، وبالتالي أمريكا لا تنظر إلى هذه الاتفاقيات بإيجابية وتعتبرها معيق لعزلتها في المستقبل بالإضافة إلى انها مكلفة جداً، كما انها لا ترغب في مزيداً من الاتفاقيات التي لا تخدم مصلحتها في المستقبل خاصة انها وجدت نفسها في سباق تسلح جديد مع روسيا بدرجة أقل ومع الصين بدرجة أكبر.
اذا أرادت الصين قيادة العالم فهي تعي جيدا ان عليها تقديم بعض التنازلات المؤلمة، خاصة تلك التى أصلت لها الولايات المتحدة على مدى نصف قرن ويزيد، فالصين تعى انها تتفوق على الولايات المتحدة في عدد من عناصر القوة الاستراتيجية، ما عدا القوة العسكرية التى هي تعتبر اساسية في إقامة اي حسابات للتوازنات الجيواستراتيجية والسياسة، وبالتالي حتى تصل للزعامة العالمية فيتطلب ذلك قوة فعلية عبرها تستدرج واشنطن لحرب تتحدث فيها هي من منطلق قوة بحيث تجد الولايات المتحدة نفسها محصورة في الزاوية وتستنذف قدراتها المالية والنفسية، فلذلك بدأت بتفعيل استراتيجية الحروب المتناثرة وأولها الحرب التجارية، ثم دخولها في حلف بريكس وشنقهاي واتفق أعضاء الحلفين في وقت لاحق بإعتماد اليوان بدلا عن الدولار فيي تبادلاتها التجارية وتعاملاتها المالية.
خلقت الصين حلفاء واصدقاء ونوادي في أفريقيا وآسيا وبعض بلدان أوروبا التى تعاني من ضائقات مالية، للاسصطفاف معها في الازمات العالمية؛ كتلك التى تتعلق بالمؤسسات النقدية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية (WTO)، او السياسية منها مجلس الأمن والأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان.
ان الصين وبناءاً على عدد من النقاط تحاول اليوم بتحركاتها النشطة عبر دبلوماسية الكمامات والأطباء والأجهزة الطبية الخاصة بفيروس كورونا أن تنقذ العالم من خطر الفناء، وذلك بصرف النظر عن الرواية الأولى عن موطن نشأة الفيروس أو مكان انتشاره، يكفى انها لم تقطع دعمها لمظمة الصحة العالمية، وبعد قضائها على الفيروس ساعدت عدد من دول العالم.
يعتبر الموقف الايطالي من أكثر المواقف المعبرة عن فجوة والشقة بين دول الاتحاد، فموقف انزال علم الاتحاد الاوروبي، واستبداله بالعلم الصيني تشير تغيرات كبيرة ومحتملة في مشهد التحالفات العالمية خاصة اذا انتصر النموذج الصيني على جائحة كورونا فإن الفيروس سيقدم الصين لمشهد التفاعلات السياسية الدولية، هذا إن يقدمها مع دول أخرى لقيادة جماعية للعالم.
فهل ستنجح الدبلوماسية الصحية الصينية وقبلها الاقتصادية في صياغة مشهد عالمي جديد يقدم النموذج السياسي والاقتصادي للحزب الشيوعى الصيني، بديلا لمنظومة القيم الليبرالية الحديثة، وبالتالى تنتقل عنده الصين من موضع الدولة المؤثرة والمبادرة إلى مركز الدولة القطبية العالمية؟! باعتقادي الأمر وارد.
ابوبكر عبدالرحمن، باحث في العلاقات الدولية- خاص لــ”رياليست”