عندما نراقب ما يجري في روسيا منذ الثالث والعشرين من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، نجد بأن بصمات صانعي الثورات الملونة والربيع العربي وثورات الزهور وغيرها من الأعمال التخريبية للدول التي تقف عائقاً في وجه المخططات الغربية وتحاول إحلال لغة التعاون ومبدأ الاحترام المتبادل لمصالح شعوب الدول المختلفة لا أن تكون مصالح دولة واحدة أو عدة دول يمكن حصرها بعدد أصابع اليد الواحدة والتي تعتبر نفسها تمتلك أحقية العيش والنمو على حساب باقي شعوب العالم وتسعى وبكل الطرق والوسائل القذرة لتدمير هذه الدولة أو تلك التي لا تنصاع إلى أوامرها ولا تسير وفق رغباتها.
وبالطبع فإن هذه الأساليب والطرق تختلف من دولة إلى أخرى، وبحسب قوة الدولة التي يحاولون السيطرة عليها وعلى مقدراتها، فإن كانت دولة ضعيفة أو قوية يبقى المبدأ الأساسي هو إحداث شرخ بين أبناء البلد الواحد عبر إيجاد شخصاً واحداً أو عدة أشخاص أو جهة منبوذة من قبل أبناء الشعب فتحاول تلميعها وإظهارها بأنها “روبن هود” هذه الدولة، فتضخ له من المال ما يكفي، وتجعل مختلف وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تمجد له ليل نهار حتى يعتقد الناس بأنه فعلاً هو “المسيح المخلص” لهم ولمشاكلهم وفشلهم وأي شيء لم يستطيعوا التوصل إليه أو الحصول عليه في ظل القيادة السياسية التي يرغبون بالقضاء عليها.
إن ما يجري في روسيا لا يختلف إطلاقاً عما جرى في سورية على سبيل المثال، الدعوة إلى مظاهرات غير مصرح بها، العراك مع الشرطة وقوات حفظ النظام، التعدي على الملكيات العامة والخاصة، تصوير مقاطع فيديو أو تسجيلات صوتية غير مكتملة وإظهارها بأن قوات الأمن تقمع وبوحشية منقطعة النظير الأشخاص “حمائم السلام” خرجوا فقط ليعبروا عن رأيهم ووفق حقوقهم المشروعة “رغم أن مظاهراتهم غير مرخصة وفق القوانين المعمول بها”، إضافة إلى محاولة تصوير مقاطع فيديو هي بالأساس ليست في تلك الدولة ولا تمت بصلة إليها، لا من قريب ولا من بعيد، وفي نفس الوقت يحاول أصحاب هذه الاحتجاجات الحقيقيين “الدول الداعمة لهذه الاحتجاجات وممولتها” أن تبث وعبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الأخبار الكاذبة عن سلطة هذه الدولة ودائماً تحت شعار فساد هذه السلطة وسرقة خيرات شعب هذه الدولة.
إن ما جرى في روسيا منذ الثالث والعشرين من شهر يناير/ كانون الثاني أمراً ليس بالسهل ولكن وكما يقال “عندما تعرف السبب يبطل العجب ” فالسبب هنا واضح للغاية “لمن يريد أن يرى هذا السبب”، فروسيا وعلى مدى العشرين عاماً الماضية قلبت العالم رأساً على عقب واستطاعت أن تعيد لعب دورها كقوة عظمى وكطرف في فرض الأمن والسلام والحفاظ عليه وهي من عملت كعامل إطفاء للحرائق التي تشعلها الولايات المتحدة في مختلف قارات العالم عبر ما يسمى “مشروع الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد” وغيرها من المشاريع التي تبدو بشكلها الخارجي كقطعة حلوى جميلة ولكن بداخلها كل ما هو ضار للصحة لا بل كل أنواع السموم المهددة لحياة البشر.
عرقلت روسيا مشروع الربيع العربي والاستثمار بالإرهاب كوسيلة استثمار اقتصادي، وهي التي منعت انفجار البلقان من جديد، وتصدت ونجحت في إفشال إشعال القوقاز وما وراء القوقاز، وهي استطاعت أن تتقبل تحدي الوباء العالمي المتمثل بفيروس “كورونا” وإيجاد اللقاح الاّمن والفعال ضده، ومشاركة ذلك مع باقي دول العالم، على عكس ما نجده في الدول الغربية التي لم تستطع إلى هذه اللحظة من إيجاد لقاح اّمن وفعال ضد هذا الوباء، ولم تتفق على اّلية توزيعه على شعوبها، بل نجد بأن هناك تكالب ومنافسة غير شريفة بين حكومات هذه الدول لفرض الهيمنة والسيطرة على ما تم التوصل إليه من هذا اللقاح وتوزيعه على باقي الدول وفق مصالحها وسياساتها.
كل هذه الأمور وغيرها الكثير الكثير ربما جعلت من تلك الدول أن تحاول وضع حد للتوسعات الروسية في مختلف بقاع العالم حتى مع تلك الدول التي كانت تسبح في فضاء الدول الغربية، روسيا الاتحادية التي تتصدى لسياسات الهيمنة الاقتصادية وسيطرة الدولار الأمريكي على العلاقات الاقتصادية بين الدول والتي تعني رهن إمكانيات وخيرات وثروات تلك الدول إلى السياسة الأمريكية عبر استخدامها لنظام العقوبات الاقتصادية خارج مجلس الأمن الدولي، والتي وبكل أسف أصبحت اللغة الدبلوماسية الوحيدة التي تخاطب فيها الولايات المتحدة ليس فقط خصومها السياسيين من الدول الأخرى وإنما حتى الحلفاء والأصدقاء، كل هذه الحماقات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً جعلتنا نرى حقيقة الديموقراطية الأمريكية بحيث كشفت عن وجهها الحقيقي خلال الانتخابات الأمريكية الرئاسية الأخيرة وما اّلت إليه الأوضاع الداخلية للولايات المتحدة بعد ذلك، وخاصة الشرخ العميق داخل المجتمع الأمريكي والذي يصعب رده وعودته إلى ما كان عليه قبل اقتحام مبنى الكونغرس في السادس من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي.
الأهم من ذلك، هو فشل وعدم نجاعة الثورات الملونة وغيرها من عمليات هدم الدول وأصحابها القابعين خلف المحيط في الوصول إلى المستقبل المزدهر وجنات الديمقراطية المعلنة من قبل تلك الدول بل نجد بأن احوال الناس ازدادت وبشكل غير مسبوق سوءً وانتشر الفقر بشكل مخيف وتراجعت العلاقات الاجتماعية والأسرية إلى اسوأ حالاتها ودفعت الكثير من الشباب والمثقفين إلى الهجرة والتسول في بلدان الغرب بحثاً عن لقمة العيش، ومن المهم هنا أيضاً الإشارة إلى دفع الشعب البسيط تارة وتحريضه تارة أخرى للذهاب إلى مخيمات الذل والعار وتجارة الأعضاء وتأهيل الإرهابيين والتي لا تصلح للعيش الكريم، وحتى لا تصلح للحلم بالديموقراطية لا من قريب ولا من بعيد كما هو عليه الحال في سورية، حيث تم حث الشعب البسيط للقبول بالنزوح إلى هذه المخيمات التي وصفوها لهم بأنها مؤقتة وأن جميع احتياجاتهم ستكون مؤمنة دون أي جهد أو عناء، واتضح بأن هؤلاء تم سوقهم وبإرادتهم إلى مخيمات لا تصلح حتى لعيش الحيوانات ولا يوجد فيها أي مقومات للحياة، وإنما أصبح هؤلاء أداة ضغط سياسية إضافية على سورية إضافة إلى أن هذه المخيمات أضحت مرتعاً أساسياً للاغتصاب والقتل وتجارة الأعضاء وصنع إرهابيين جدد.
في الختام، أدعو المواطنين الروس أن يكونوا على علم ودراية بأن من يشجعهم على تخريب بلادهم وزعزعة استقرارها وإخراجها من المعادلة الدولية وفتح المجال أمام الدول الغربية لتقود العالم وفق معادلة غير عادلة وتنصيب الولايات المتحدة الأمريكية كشرطي للعالم، وأضع هنا بعض التساؤلات أمام من خرج لزعزعة استقرار روسيا، ماذا قدمت الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية لتلك الدول التي خرج بعض أبنائها وبتحريض منهم وزعزع استقرارها؟ هل قدموا لهم مساعدات مالية مجانية لإعادة بناء وإعمار وتحسين أوضاع شعوب تلك الدول أم قدموا لهم قروضاً مالية ضخمة وبفوائد غير عادلة تتبع لبنوكهم؟ ماذا قدمت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لدول كأفغانستان والعراق بعد احتلالهما؟ سوى الخراب والدمار ودساتير تعمق الانقسامات المذهبية والطائفية بين شعوب تلك الدول، وهل قامت الولايات المتحدة وبعد احتلالها للعراق وأفغانستان بتزفيت حتى شارع واحد على نفقتها في تلك الدول؟ ولا نتحدث بالطبع عن بناء المعامل والمصانع والمدارس والمشافي، إلخ، إنما اقتصرت مهامها على سقت ونهب خيرات وثروات تلك الدول.
لننظر إلى أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية، لنجد بأن الولايات المتحدة ومعها بعض الدول يحاولون إعادة كتابة التاريخ، تاريخ الحرب العالمية الثانية التي قدم فيها الاتحاد السوفيتي مواطنيه فداءً للدفاع عن الإنسانية والقضاء على الفاشية والعنصرية لتذهب كل التضحيات من الدماء الزكية هباءً وتنسب لنفسها الولايات المتحدة النصر على الفاشية، وبكل أسف فإن الغالبية العظمى ممن خرج إلى الشوارع في روسيا الاتحادية ربما لا يعلم ذلك أو أنه يعتقد بأن من قدم دمائه للقضاء على الفاشية لا يمسه لا من قريب ولا من بعيد وهذه هي الخيانة العظمى وهذه هي العبودية للولايات المتحدة الأمريكية وإنكاراً للحقيقة التاريخية، فاحترموا مشاعر الأجداد وتضحياتهم.
بكل الأحوال إن ما يحصل في روسيا لن يغير من المعادلات القائمة لدى الساسة الروس لأن روسيا اليوم ليست محطة للتزود بالوقود وليست جمهورية موز على الإطلاق وهي تتبع سياسة إنسانية بالدرجة الأولى وليس لها أية سياسات توسعية، فمساحتها وخيراتها وثرواتها تجعل منها نائية عن نفسها في احتلال أراضي دول أخرى، أو الطمع في ثروات دول أخرى وهو ما تسوق له الولايات المتحدة لتثبيت أقدامها في أوروبا الشرقية وعلى كامل حدود روسيا الاتحادية.
لا تقتلوا روسيا وحافظوا عليها، فهي ليست مصدراً للعزة والفخر لمواطنيها فقط، بل لأنها أيضاً بريق أمل لدول كثيرة في العالم ولشعوب عانت وتعاني من حقد وعنصرية الولايات المتحدة الأمريكية وأتباعها، روسيا هي أمل الشعوب وهي الضامن الحقيقي لعودة الأمن والسلام والاستقرار في العالم أجمع.
خاص وكالة “رياليست” – د. فائز حوالة.
المقال لا يمثل وجهة نظر مركز خبراء “رياليست”