تطرقنا في الحلقة السابقة إلى سياقات تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على يد مرشدها الأول حسن البنا سنة 1928، وذلك استجابة لبيئة إقليمية ودولية وتلاقي مجموعة من الشروط الذاتية والموضوعية ساهمت في خروجها إلى الوجود. هذا التأسيس جاء في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية في تركيا سنة 1924 على يد مصطفى كمال أتاتورك والتي شكل سقوطها صدمة للشعور الجماعي للأمة الإسلامية التي اعتادت على وجود دولة الخلافة رغم استقلالية أغلب الدول الإسلامية على مركز القرار بالآستانة.
التنظيم الخاص للإخوان المسلمين:
في منتصف الثلاثينات ستلعب مجموعة من الظروف المرتبطة بالوضع الداخلي والإقليمي إلى موجة من “العسكرة” التي ستعرفها القوى السياسية التي سارعت إلى تأسيس أجنحة عسكرية، وقد ساعد على ذلك ما وقع في مارس سنة 1936 حين عقد حزب الوفد بزعامة مصطفى النحاس باشا المعاهدة الشهيرة مع الانجليز وكان ذلك إيذانا بانطلاق العمليات العسكرية التي تبنتها الأحزاب السياسية بمختلف أطيافها ضد الاحتلال الانجليزي.
هذا المناخ المتشنج استفاد منه حسن البنا ليستكمل بناء أركان الجناح العسكري للجماعة انطلاقا من فهمه الخاص للدعوة الإسلامية ومفهوم الجهاد حيث يقول “إن الحق جميل رائع لا يحتاج إلى شيء في حد ذاته ولكنه يحتاج إلى القوة، ولن يعيب الحق أن تسنده القوة، وأن الحق والقوة سلطان لا يُقهر والحق الضعيف خفي لا يظهر…وما كانت القوة إلا كالدواء المر الذي تُحمل عليه الإنسانية العابثة المتهالكة حملا ليرد جماحها ويكسر جبروتها وطغيانها”[1].
هذا السلوك النفسي العنيف ترعرع عليه حسن البنا عندما أسس، إلى جانب أقرانه، جمعية منع المحرمات ونصب نفسه مسؤولا عن تقويما السلوك الديني للمسلمين، ليقرر هذا المنهج العنيف في مذكراته فيقول: “إن من يشق عصا الجمع فاضربوه بالسيف كائناً من كان”[2].
نظام الجوالة:
في سياق الصراع حول السلطة وتحصين التنظيم الإخواني، بدأ حسن البنا في إنشاء ما أسماه ب”نظام الجوالة”، وهو عبارة عن اختراق للحركة الكشفية عبر تجنيد شباب الإخوان وانضمامهم إليها. هذا التنظيم الشبه عسكري، ولو أنه كان معترفا به، إلا أنه سيكون المفرخة التي ستنتج وحدات من خيرة الأفراد انضباطا والتزاما لتلتحق بالنظام الخاص أو الجهاز السري. وتذهب مختلف الشهادات المتقاطعة إلى أن حسن البنا قام بتطوير فرق الرحلات إلى فرق “الجوالة” كمقدمة لتأسيس تنظيم عسكري مسلح قادر على مواكبة “الدعوة” في صراعها الوجودي للوصول إلى السلطة. من أجل ذلك سيتم اختيار الأفراد المرشحين لفرق الرحلات من بين الإخوان الذي وصلوا إلى مرتبة “الأخ العامل” وتوفرت فيهم مجموعة من الشروط الجسدية والنفسية ليرتقوا بعد ذلك إلى مرتبة “الأخ المجاهد” والتي بقيت حكرا على العناصر التي سيتشكل منها النظام الخاص للإخوان المسلمين سواء في شقه المدني أو العسكري.
والثابت أن الصورة التي رسمها حسن البنا في ذهنه، حسب شهادة مؤرخ التنظيم محمود عبد الحليم، لم تكن هي فريق الرحلات أو فريق الجوالة، وإنما كانت “فريقا عسكريا يحقق فكرة الجهاد في الإسلام…كان الأستاذ يتحرق شوقا إلى إبراز النشاط العسكري لتجلية فكرة الجهاد”[3].
حسن البنا في إحدى معسكرات تدريب التنظيم الخاص
لقد نجح حسن البنا في تأسيس تشكيل ميكانيكي صلب يدين بالطاعة العمياء للمرشد ويبايعه بيعة كاملة في المنشط والمكره من خلال العهد المطلق على السمع والطاعة، وهي المقدمات السلوكيات التي تُعطي للمريد الأهلية للارتقاء في سلم الجماعة. يقول حسن البنا في “رسالة التعاليم”: “هل هو (الأخ) مستعد لأن يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة الصواب، إذا تعارض ما أُمر به مع ما تعلم في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص شرعي؟ هل هو مستعد لوضع ظروفه الحيوية تحت تصرف الدعوة؟ وهل تمتلك القيادة في نظره حق الترجيح بين مصلحته الخاصة ومصلحة الدعوة العامة؟”[4]. ويتابع عمر التلمساني المرشد الثالث لجماعة الإخوان المسلمين في تقديم هذا الوصف بشكل أكثر عبودية حين يقول “كن بين يدي مرشدك كالميت بين يدي مغسله”.
النظام الخاص:
في كتابه “حقيقة التنظيم الخاص” يُعرف محمود الصباغ هذا الجهاز فيقول: “وهو تنظيم سري عسكري خصص لأعمال الجهاد في سبيل الإسلام”. كما عرّفه منتصر الزيات، محامي الجماعات الإسلامية والإخوان المسلمين، على أنه “التنظيم الذي كان يدير جماعة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت بطريقة سرية، يعني هذا التنظيم السري الذي كان يقوم بمهام خاصة، مهام لا تستطيع الجماعة أن تتبناها علنا، لكن من الممكن أن تمارسها سرا”[5].
في منتصف الأربعينات أنهى حسن البنا العمل بفرق الجوالة وأنشأ النظام الخاص وجعل على رأسه عبد الرحمان السندي، فيما ظل يشرف على تدريب كتائبه الضابط السابق بالجيش المصري محمود لبيب والذي سيلعب دورا محوريا في تكوين أولى الخلايا السرية داخل الجيش والتي ستعرف فيما بعد ب”تنظيم الإخوان داخل الجيش” والذي ستنبثق عنه، هو الآخر، الخلية الأولى لتنظيم “الضباط الأحرار”.
سيعرف النظام الخاص بعد ذلك تنظيما عنقوديا على أساس الخلايا والمجموعات، حيث كل خلية تتكون من خمسة أشخاص ويرأسها عضو لا يتصل إلا بهم ولكل عشرة من رؤساء الخلايا مجموعة يرأسها عضو لا يتصل إلا بهم وهذه المجموعة لها مسئول آخر في تدرج هرمي يصل إلى الرئيس الفعلي للجهاز المجهول من باقي خلاياه. سيعمل الإخوان المسلمين على إطلاق يد النظام الخاص للتخلص من أشرس معارضيهم السياسيين، وستكون أول عملية نوعية للنظام الخاص هي اغتيال رئيس الوزراء أحمر ماهر باشا بتاريخ 24 فبراير 1945.
عقيدة الاغتيال:
إن تكتيكات الاغتيال السياسي ستبقى من صميم الاعتقاد الديني للإخوان المسلمين. وفي هذا الصدد يقول محمود الصباغ في كتابه (حقيقة التنظيم الخاص):” إن “أعضاء الجهاز يمتلكون -دون إذن من أحد- الحق فى اغتيال من يشاءون من خصومهم السياسيين، فكلهم قارئ لسنة رسول الله في إباحة اغتيال أعداء الله“[6].
ومهما حاولنا تفسير حوادث الاغتيال التي راح ضحيتها خصوم سياسيون للإخوان وإيجاد مبررات للصراع فإننا لن نستطيع فهم طبيعة ردود الفعل العنيفة لهذا التنظيم إلا من خلال النبش في المرجعية الفكرية المتطرفة لمؤسس الجماعة حسن البنا والمرشدين الذين سيتعاقبون على الجماعة. وهنا تحضرني كلمات المرشد السادس للجماعة المستشار مأمون الهضيبي حين قال :”نحن نتعبد لله بأعمال النظام الخاص للإخوان المسلمين قبل الثورة”. كان ذلك في شتاء عام 1992م أثناء المناظرة الشهيرة التي جرت في معرض الكتاب بالقاهرة بينه وبين الدكتور فرج فودة تحت عنوان “مصر بين الدولة المدنية والدولة الدينية”، وقد حضر المناظرة الشيخ محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة، ووقتها ضجت القاعة بالتهليل والتكبير والتصفيق، مما يدل على أن عمليات ومحاولات الاغتيال التي كان يقوم بها النظام الخاص كانت تعتبر من قبيل الواجب الديني والجهاد الشرعي الذي أعلنته الجماعة ضد المخالفين والذين لا تتورع في وصفهم بالكفار والمرتدين.
بيعة أفراد النظام الخاص:
يروي لنا القيادي الإخواني حسين محمد أحمد حمودة في كتابه “أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمون” حيثيات وطقوس البيعة التي يقوم بأدائها أفراد التنظيم الخاص، فيقول:” قادنا صلاح خليفة إلى منزل في حي الصليبة بجوار سبيل أم عباس حيث صعدنا إلى الطابق الأول فوق الأرضي، فنقر صلاح خليفة على الباب نقرة مميزة وقال: الحاج موجود؟ وكانت هذه هي كلمة السر…ففُتح الباب ودخلنا حجرة بها ضوء خافت جداً ومفروشة بالحصير وفيها مكتب موضوع على الأرض ليس له أرجل. ثم قادنا صلاح خليفة واحداً بعد واحد لأخذ العهد وحلف اليمين في حجرة مظلمة تماما يجلس بها رجل مغطى بملاءة فلم نعرف شخصيته، وحين جاء دوري جلست أمام هذا الرجل المتخفي. وكان سؤال هذا الشخص المتخفي الذي يأخذ العهد: هل أنت مستعد للتضحية بنفسك في سبيل الدعوة الإسلامية وإعلاء كلمة الله؟ فقلت: نعم. فقال: امدد يدك لتبايعني على كتاب الله وعلى المسدس سلاح العصر، فوضعت يدي على مصحف ومسدس وبايعته على فداء الدعوة الإسلامية وعدم إفشاء أسرارها. وقال الرجل المتخفي: إن من يفشي سرنا فليس له منا سواء جزاء واحد هو جزاء الخيانة وأظنك تعرف جيدا ذلك الجزاء”[7].
لقد عرف التنظيم الخاص للإخوان المسلمين تحولات تنظيمية جوهرية وضعفا هيكليا مس بالأساس وحدة التنظيم خصوصا بعد سقوط أغلب قياداته التنظيمية بعد “قضية السيارة الجيب” بتاريخ 15 نونبر 1948، والتي كانت سببا رئيسيا في دفع الحكومة المصرية إلى حل جماعة الإخوان المسلمين لأول مرة بتاريخ 08 دجنبر 1948.
حسن الهضيبي وإعادة تأسيس الجهاز السري للإخوان:
أدى مقتل حسن البنا بتاريخ 12 فبراير 1949 إلى فراغ تنظيمي دام زهاء السنتين، حيث سيتم سنة 1951 تنصيب حسن الهضيبي مرشدا عاما لجماعة الإخوان المسلمين بعد استقالته من سلك القضاء. هذا الأخير، عمل على محاولة إعادة توحيد صفوف الجماعة وتفادي الأخطاء الكارثية التي قام التنظيم الخاص، ولعل أخطرها على الإطلاق، هو استقلال هذا الأخير بقراراته والتخطيط للقيام بمجموعة من العمليات العسكرية التي أحرجت الجماعة وعجلت بالصدام الحتمي مع الدولة المصرية.
إن سياسة العنف والاغتيالات لم تكن لتشكل الاستثناء عند المرشد الثاني للجماعة حسن الهضيبي، والذي، ورغم محاولاته الدفاع عن سلمية الجماعة واعتبارها جماعة دعوية فقط، وصلت إلى حد نشره كتابا بعنوان “دعاة لا قضاة”، كردة فعل مباشرة على نشر كتاب “معالم في الطريق” لسيد قطب، إلا أنه ظل يؤمن بالعنف والسلاح كوسيلة لحسم السلطة السياسية. ومن خلال مجموعة من حوادث الاغتيال سيتلمس القارئ الكريم بصمات المرشد حسن الهضيبي حاضرة بقوة خصوصا تلك المرتبطة بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر بميدان منشية البكري وكذا محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات فيما عرف إعلاميا ب”قضية الفنية العسكرية”.
في هذا الصدد، وبالحديث عن التغييرات التي قام بها حسن الهضيبي لإعادة هيكلة النظام الخاص، يقول حسن عشماوي، وهو أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين وعايش فترة تولي الهضيبي مهمة المرشد العام للجماعة، في كتابه “الأيام الحاسمة وحصادها”: “بعد أن عُيّن الأستاذ الهضيبي مرشدا للإخوان لم يأمن إلى أفراد الجهاز السري الذي كان موجودا في وقت الشهيد حسن البنا برئاسة السيد عبد الرحمن السندي، فعمل على إبعاده معلنا أنه لا يوافق على التنظيمات السرية لأنه لا سرية في الدين. ولكنه في نفس الوقت بدأ في تكوين تنظيمات سرية جديدة تدين له بالولاء والطاعة”. وهنا قام المرشد العام بحل النظام الخاص الذي كان يتزعمه عبد الرحمان السندي وأعاد تشكيل جهاز سري آخر أسند مهمة رئاسته ليوسف طلعت، الشيء الذي دفع بأعضاء النظام الخاص المنحل إلى القيام بمجموعة من ردات الفعل العنيفة من خلال احتلال المركز العام لجماعة الاخوان المسلمين ومحاولة دفع المرشد العام لتقديم استقالته. غير أن أخطر ردة فعل قام بها أعضاء التنظيم المنحل هي عملية اغتيال السيد فايز وهو العضو رقم اثنان (2) في التنظيم الخاص عن طريق قنبلة وضعت في حلوى عيد ميلاد والتي أدى انفجارها إلى مقتل السيد فايز وشقيقه الأصغر وطفلة صغيرة في منظر مرعب لجريمة نكراء كان مصدرها هذه المرة نيران صديقة.
بعد الإحاطة ببعض الجوانب المتعلقة بالجهاز السري لجماعة الإخوان المسلمين، سنتطرق لأول جريمة اغتيال تورط فيها هذا التنظيم والتي استهدفت رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا بتاريخ 24 فبراير 1945م.
د.عبدالحق الصنايبي- متخصص في الدراسات الاستراتيجية و الأمنية، خاص “رياليست”.
[1] – جريدة النذير العدد 25، 22 رمضان 1357 (نوفمبر 1938) ص 6/7
[2] – حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية، ص 141
[3] – محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون، احداث صنعت التاريخ، ج1، ص 161/162.
[4] – رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، رسالة التعاليم، ص 381
[5] – مقتطف من مشاركة منتصر الزيات في إحدى البرامج التوثيقية بعنوان “المحظورة”
[6] – محمود الصباغ: حقيقة التنظيم الخاص، ص 429
[7] – حسين محمد أحمد حمودة في كتابه “أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمون”، ص 35