دمشق – (رياليست عربي): منذ السابع من تشرين الأول العام الفائت، فإن ما يحكم المشهد في الشرق الأوسط، هي جزئيتي الفوضى وطقوس الغابة، إذ يبدو واضحاً أن كل طرف في حلبة الصراع الاقليمي، يسعى إلى ترسيخ نفوذه والاستحواذ على موقع متقدم ذو تأثير وفاعلية، بغية مواكبة المرحلة الدولية الجديدة، والتي لم تتضح معالمها حتى الآن، استناداً إلى الواقع الذي فرضه المشهد الفلسطيني، وفي كل ذلك، فإن إسرائيل ومن خلال تحركاتها، فإنها تسارع لفرض نفسها كـ لاعب إقليمي يمتلك قوة عسكرية تمكنها من ترسيخ مشروعها الإقليمي، في مقابل دور ايراني متعدد الأوجه والعناوين، تُحدده معادلات فرض النفوذ والتمدد، لكن بعناوين سياسية في إطار استثماري للتطورات. وبين الدورين الإسرائيلي والإيراني فقد دخلت المنطقة مرحلة جديدة، ترتكز إلى حد ما على الصراع المباشر بين إيران وإسرائيل، بدلاً من الأدوار التي كانت تلعبها الأطراف الموالية لكل من تل أبيب وطهران، ليكون الخاسر الأكبر ضمن ذلك هو الشعب الفلسطيني.
بهذا المعنى فإن مسألة التصعيد بين إيران وإسرائيل تتفاعل دون اتخاذ شكل جديد لماهية الصراع بين البلدين أو ساحاته الجديدة، فـ التصريحات الإسرائيلية تشي بمزيد من التصعيد المقبل، لكن وفق نظرة موضوعية فإن احتواء التصعيد الإيراني الإسرائيلي، يعني في العمق استمرار الصراع بينهما في ساحاته الراهنة سواء في سوريا ولبنان والعراق وحتى اليمن، دون حسمه بالكامل، وهذا أيضاً ما قد يؤدي إلى منزلقات خطرة لا يعرف أحد كيف يمكن السيطرة عليها، ولا إلى ماذا ستؤدي إليه في الوقت نفسه لو انفجرت كل الساحات السابقة الذكر، نتيجة لذلك ثمة محاولات من قبل إيران وإسرائيل لتحقيق نوعاً من توازن القوى مؤطر بمعادلات ردع جديدة تحكم الصراع بينهما.
وربطاً بما سبق، فإن طهران تسعى وفق منظورها إلى فرض توازن قوى يحمي مشروعها، أما تل أبيب فردت أيضاً وفق منظورها ضد طهران، بتدمير قنصليتها في دمشق واستهدفت أصفهان، والأهم تدمير غزة بالكامل، وهذا ما يؤكد بأنه من غير الممكن أن تقوم إسرائيل وإيران بشن حرب مفتوحة ضد بعضهما، لتبقى المواجهة بينهما محكومة بجملة من العوامل والتأثيرات. هذه العوامل والتأثيرات ترتكز على الإجماع الدولي لجهة منع تحول المواجهة بين إيران وإسرائيل إلى حرب إقليمية شاملة، تمتلك مقومات الارتقاء إلى حرب عالمية تجذب إليها قوى أُخرى ترتبط بـ إسرائيل وإيران، وقد كان واضحاً الإجماع الدولي بمنع تمدد المواجهة في موقف الولايات المتحدة أولاً، ثم في المواقف الأوروبية ثانياً، كما أن الصين وروسيا اللتين ترتبطان بعلاقات جيدة مع إيران تتمسكان برفض التصعيد والانجرار إلى اشتباك مفتوح ثالثاً.
لا شك بأن إيران أظهرت قدرة لجهة حشد مئات الطائرات المُسيرة والصواريخ واستهداف إسرائيل مباشرة، لكن في المقابل فقد ظهرت قدرة إسرائيل على التصدي لتلك الهجمات سواء بنفسها أو بالنيابة عنها، وفي ذات التوقيت فقد بينت إسرائيل قدرتها على شن هجمات في العمق الإيراني، إن عبر مجموعات عاملة على الأرض أو بواسطة سلاحها الجوي، وهذا ما ترجمته عملية أصفهان، والتي حملت رسالة بقدرة إسرائيل على خرق النظام الأمني والوصول إلى المنشآت الايرانية في محيط أصفهان.
ورغم ذلك فإن ما سبق لا يعني أنه بإمكان إسرائيل أو إيران شن حرب مفتوحة ضد بعضهما البعض، فأي حرب من هذا النوع ستشمل الشرق الأوسط، خاصة أن التطورات الأخيرة أظهرت بوضوح أنه لا حرب إسرائيلية جدية ضد إيران من دون مشاركة الولايات المتحدة، وأن أقصى ما يمكن أن تطمح إليه إيران هو فرض “معادلة ردع” جديدة على إسرائيل.
في العمق فإن الرؤية الإيرانية المتعلقة بفرض معادلة الردع الجديدة مع إسرائيل، تفترض كبح جماح الحركة الإسرائيلية والتوقف عن مواصلة استهداف قادة وعناصر الحرس الثوري الإيراني في سورية، إضافة إلى ذلك فإن طهران حين لجأت بشكل مباشر إلى استهداف العمق الإسرائيلي، فإنها تفترض أيضاً أنها ستتمكن من إجبار إسرائيل على التوقف عن حرب الظل السرية التي تخوضها داخل إيران لمنعها من استكمال مشروعها النووي، وفي كِلا الغايتين، فإن وقف استهداف الإيرانيين في سورية، وتوقف حرب الظل في الداخل الإيراني، فإن ذلك سيُعد مكسباً هاماً لـ إيران، يمكن توظيفه لتدعيم النظام الإيراني نفسه من جهة، ولتوطيد “أركان محور المقاومة” الذي يتولى مهمة تثبيت النفوذ الإيراني الإقليمي، تحت شعار تحرير فلسطين ومحاربة إسرائيل.
واقع الحال يؤكد بأن إيران حاولت منذ سنوات تأسيس معادلة ردع من خلال وكلائها في الساحات البديلة، وما هو مؤكد أيضاً أنه خلال السنوات الماضية لم تشأ طهران الدخول إلى أرض المعركة مع إسرائيل، إلا بعد أن قامت الأخيرة بالمساس العسكري المباشر بموقع يُعرف بالقوانيين الدولية بأنه أرض إيرانية، الأمر الذي يُعد تطوراً خطيراً وتحولاً عميقاً في معاني الصراع ومعادلات الردع الايرانية الإسرائيلية، وعليه فقد حاولت طهران “ولو ظاهرياً” أن تضرب في العمق الإسرائيلي مباشرةً.
خلاصة القول، بأن الصدام الإسرائيلي الإيراني في هذه المرحلة، هو صدام غير مسبوق، ويمكن من خلاله استشراف مستقبل المواجهات في المنطقة، لكن لابد من القول، بأن ما فعلته طهران وبصرف النظر عن مبرراتها، إلا أنه قد قلب موازين القوى، وسحب الأضواء التي كانت مركزة على معاناة الفلسطينيين، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من نكبة جديدة تلوح في أفق المشهد الجديد، والأهم أن إيران ومن حيث لا تدري، فقد قدمت طوق نجاة لـ نتنياهو، سيعمل الأخير على استثماره ما أمكن ذلك داخلياً وخارجياً.
بقي أن نقول، بأن إيران تطلعت إلى فرض معادلة ردع بين وكلائها وإسرائيل، لكن الأخيرة وجدت في التطلعات الإيرانية طوقاً نارياً لا يمكن التعايش معه، الأمر الذي أجبر إسرائيل على خرق أسقف الرد ضد إيران، فـ قتل وتدمير وتهجير في غزة، واصطياد “قادة المقاومة” في سوريا ولبنان، واغتيال لقادة الحرس الثوري في سوريا، في قنصلية تعد أرضاً إيرانية، في المقابل فإن الولايات المتحدة أدارت خلافاً إيرانياً إسرائيلياً، بدا أنه يمكن التفاوض في شأنه، لكن ستبقى احتمالات التصعيد خصوصاً في فلسطين وجنوب لبنان قائمة، ما دامت قواعد الاشتباك السابقة قد زالت، ولم تتضح بعد معالم قواعد بديلة. لكن بعد ذلك، هل ستتمكن طهران من تأسيس معادلة ردع جديدة يضمن لها معادلة توازن القوى.
؟خاص وكالة رياليست – أمجد إسماعيل الآغا – كاتب وباحث سياسي – سوريا.